جمعهم في مدرسة الغورية.. هكذا نقل الغازي التركي ”أسطوات” المصريين إلى اسطنبول
فور هزيمته للمماليك في معركة الريدانية، دخل السلطان العثماني سليم الأول بقواته القاهرة، فأحدث فيها قتلاً ونهباً وتدميراً، ولم يكتف بذلك، فعمد إلى أخذ عدد من صفوة المصريين والمهنيين وإرسالهم إلى اسطنبول عاصمة الدولة العثمانية.
ويسرد المؤرخ العثماني جلال زاد قوجة نشانجى مصطفى ما أحدثه الجيش العثماني بشوارع القاهرة، بقوله: "دخل الجيش العثمانى مصر، وكان يوم الحساب والزلزال والانتقام للمعركة السابقة وما حاق بالعثمانيين فيها من خسائر فادحة، كان يوم القيامة حقا، يوم يفر المرء من أخيه".
وعن بعض الشهود ينقل رحالة أوروبي تفاصيل ما حدث "كان الرجال ملقين أكواما الواحد فوق الآخر، والدماء تجرى فى الشوارع أنهارا، وصب سليم غضبه على عامة الشعب وأمر بحرق بعض المنازل"ز
بينما يقول ابن إياس فى كتابه "بدائع الزهور": "صاروا العثمانيون ينهبون بيوت الناس حتى بيوت الأرباع فى حجة أنهم يفتشون على المماليك الجراكسة، فاستمر النهب والهجم عمالا فى البيوت ثلاثة أيام متوالية وهم ينهبون القماش والخيول والبغال من بيوت الأمراء والعسكر فما أبقوا فى ذلك ممكنا".
ويضيف ابن إياس: "انطلق فى مصر جمرة نار، واتجهوا العثمانيون إلى المطاحن، وأخذوا ما فيها من البغال، وأخذوا عدة جمال من جمال السقايين، ثم توجهوا إلى شون القمح التى بمصر وبولاق وأخذوا ما فيها من الغلال، وتشحطت الغلال فى القاهرة وارتفع الخبر من الأسواق، واضطربت أحوال الناس قاطبة".
وفي كتابه "جذور الإرهاب.. أيام السلطان سليم الأول فى مصر"، يروي حلمي النمنم، أن عدداً من رجال سليم الأول ووزرائه اجتمعوا فى المدرسة الغورية لتحديد المسافرين إلى اسطنبول، واستدعوا المطلوبين، وكانوا من الصفوة الثقافية فى مصر المتمثلة فى "القضاة والشهود"، إضافة إلى الحرفيين المهرة من الحرف المختلفة مثل "المبلطين والمرخمين والحدادين، وهؤلاء كانوا بمثابة المعلمين والمهندسين فى وقت لم يكن فيه تعليم للهندسة.
وكما يقول "النمنم": "هؤلاء هم الذين أجادوا الفنون وأتقنوها وعلموها للأجيال التالية، وهم الذين أنشأوا البيوت المملوكية والمساجد والمدارس وأبدعوا المشربيات والأبواب والسقوف والسجاجيد وصنعوا الصوانى المكفتة وغيرها".
اختاروا أيضاً رجال الرأسمالية المصرية من كبار التجار الذين يقودون حركة نقل البضائع والتجارة بين مصر ودول العالم، ويبعثون بالرحلات لاستكشاف الأسواق والبضائع الجديدة.
طلب العثمانيون أيضاً جماعة من أعيان اليهود، وكان اليهود جزءاً من نسيج المجتمع المصرى، ويعملون فى حوالى 250 حرفة يدوية، فضلاً عن ممارستهم لحوالى مائة وسبعين نمطاً من النشاط فى مجالات الاقتصاد والإدارة والتعليم والتجارة والمال، وكان اليهود موجودين فى الجهاز الإدارى للدول بنسبة أعلى من نسبتهم السكانية، وربما لهذا السبب كما يقول "النمنم" فى كتابه: "لم يطلب العثمانيون أى يهودى ولكن طلبوا مجموعة من أعيانهم".
كان الأمر كله بمثابة تفريغ حقيقى لمصر من كوادرها الكبيرة فى المجالات المختلفة، فى مقابل تكوين قاعدة من الفنيين والعلماء تقود النهضة فى استانبول، مما ترك أثره العميق فى تراجع مصر وتأخرها.
وبحسب "النمنم" كان الأمر في بدايته مجرد شائعة انتشرت بين المصريين، الذين لم يصدقوا أن ذلك من الممكن تنفيذه، لكنه تحول إلى أمر واقع ومرير، ففى المدرسة الغورية التى تم استدعاء المطلوبين إليها، جرى تحديد المسافرين الى اسطنبول، ولم يتركوهم للعودة إلى بيوتهم وأعمالهم ثانية، بل ألزموا كل واحد منهم أن يأتى بضامن يضمنه، وكلما أحضر أحد الضامن له، يتم إطلاق سراحه.
وكان هذا الأسلوب هو القيد الذى وضعوه من أجل أن لا يفر أحد، فإن تخلف شخص عن السفر أو امتنع يأتون على الفور بالضامن لمحاسبته، بما يعنى أنه لم يكن هناك أمام أحد مجال للاختيار أو الاعتراض على السفر، فالموضوع كله مفروض وواجب النفاذ، ودارت العجلة وسافر أول فوج بعد ثلاثة أسابيع.