ياسر عبد العزيز يكتب : مالم ينشر عن معركة ترامب الكبري
تطرح المعركة الدائرة راهناً بين الرئيس دونالد ترمب من جانب ومواقع التواصل الاجتماعي عموماً، و«تويتر» خصوصاً، من جانب آخر، تحديات خطيرة على الفضاء الاتصالي العالمي، وفي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بتفاعلات تلك المعركة، ويلهث وراء أخبارها، ويغرقها بالتحليلات والتنبؤات، يغيب عدد من الحقائق الأساسية عن المشهد، وهي حقائق يصعب جداً من دونها فهم ما جرى، وضبط مآلاته.
ثمة ما لا يقال، عمداً أو سهواً، في معظم المقاربات التي استهدفت تحرير هذه الأزمة. وربما كان الانحياز السياسي مع مواقع التواصل الاجتماعي أو ضدها، أو مع ترمب أو ضده، وراء غياب بعض الحقائق الأساسية أو تغييبها. ومن ذلك، أنه يجدر بنا طرح عدد من الأسئلة لمقاربة تلك الأزمة، وهي أسئلة قد يجدها البعض غريبة بعض الشيء، لكن أي مقاربة جادة لهذا الخلاف الحاد تستدعي طرحها؛ ومنها: هل مواقع التواصل الاجتماعي لا تزال مواقع تواصل اجتماعي؟ وهل ترمب، وغيره من القادة، مجرد مستخدمين لهذه المواقع، بحيث يسري عليهم ما يسري على بقية المستخدمين من قواعد؟ وفي حال خضعت تفاعلات القادة السياسيين على هذه المنصات لضبط وتقنين ومراجعة، فما حدودها؟
لم يعد وصف مواقع التواصل الاجتماعي بأنها مواقع تواصل اجتماعي مستقراً أو محسوماً لسببين؛ أولهما أن قطاعاً مهماً من المُنظّرين يرى أنها تعمل في جانب مؤثر من تفاعلاتها على إحداث «تباعد اجتماعي»، إلى حد وصف بعض هؤلاء تلك المنصات بأنها «معادية للمجتمع» Anti - Social Media، في ظل وجود أدلة كثيرة يمكن أن تثبت هذا التوجه، وثانيهما أن الوظيفة الإخبارية لتلك المنصات ازدهرت بشكل كبير ومُطّرد، إلى حد أن توافقاً برز بين البحوث والدراسات المعتبرة في هذا الصدد على أن أكثر من نصف مستخدميها على الأقل يستخدمونها كـ«مصدر أخبار»، وأن نحو ثلثي هؤلاء يقصرون اعتمادهم الإخباري عليها، وبخاصة في أوساط الشباب والمراهقين. هي منصات إخبارية إذن، من دون أن تنتج الأخبار، في ظل آليات تلقٍّ محددة، وأنماط خدمة غير معيارية، فرضت عليها هذه الطبيعة، وأخذتها إلى هذا الدور.
تقول شركة «إكسنتشر» المتخصصة في مجالات التواصل العمومية، في بحث بعنوان «نبض المواطن الرقمي» Digital Citizen Pulse، إن وسائل التواصل الاجتماعي «أعادت تشكيل آليات التواصل الحكومي»، وقد اختارت شركة «بيرسون مارسيتلر» الأميركية للعلاقات العامة مصطلح تويبلوماسي (Twiplomacy)، لتصف به ممارسات عدد كبير من القادة السياسيين والحكومات على «تويتر» تحديداً.
وفي أبريل (نيسان) الماضي، وجدت منصة «ستاتيستا» (Statista) الألمانية المتخصصة في معلومات «الإنترنت»، أن 187 دولة بات لها وجود رسمي على «تويتر» من خلال حسابات شخصية أو مؤسسية يديرها رؤساء دول وحكومات، وأن 97 في المائة من تغريدات الحكومة الهولندية على هذا الموقع جاءت في صورة ردود على مستخدمين آخرين، وأن حساب «خدمة العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي» (EU - EEAS) وحده أجرى 148 اتصالاً متبادلاً مع قادة العالم خلال العام الماضي 2019. وقبل شهرين، نشرت دورية «جورنال أوف بابليك هيلث»، عبر آلية نشر جامعة «أوكسفورد»، بحثاً أظهر أن ثمانية من أصل تسعة من قادة دول مجموعة السبع نشطوا حساباتهم على «تويتر» مؤخراً لنشر معلومات بخصوص «كوفيد - 19». تلك إذن منصات اتصال سياسي، تجري عبرها أنشطة سياسية ودبلوماسية على أعلى مستوى وبكثافة وقدر من الفاعلية والثقة كبير.
تمثل الإجابة عن السؤالين الأول والثاني مدخلاً واضحاً للإجابة عن السؤال الثالث؛ إذ لا يبدو أن ترمب مستخدم عادي لـ«تويتر»، كما غيره من القادة الذين يشكلون حكومات، ويعلنون التوصل إلى الاتفاقيات، ويقيلون المسؤولين، ويتواصلون مع نظرائهم سياسيا، عبره. ويجب ألا يخضع ترمب، هو وغيره من القادة، للاعتبارات والمحددات نفسها التي يخضع لها المستخدم العادي، فما يقولونه عبر هذه المنصات ليس «تواصلاً اجتماعياً»، وهو يجري عبر منصات إخبارية بحكم الأمر الواقع، ويمثل جزءاً حيوياً وجوهرياً من آليات اتصال حكومية كاملة الأوصاف والأركان.