الموجز
الخميس 21 نوفمبر 2024 10:31 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن: العالم بعد كورونا الطاعون الصغير يهز عرش العالم!

جيوش العالم كانت تستعد للقتال وإحراق البشرية قبل اجتياح الفيروس القاتل
ـ إيطاليا سجلت أسوأ صفحة فى تاريخ الأوبئة ودفعت ثمن الاستهتار بصحة مواطنيها
ـ الصين تراوغ العالم .. وأمريكا تتنبأ بكارثة فى جميع ولاياتها
ـ رعب الفيروس سرق أحلام بوتين فى تسجيل رقم قياسى كرئيس لروسيا .. ونتنياهو ينجو من محاكمة عالمية كمجرم حرب
ـ بالأرقام :
اقتصاد العالم كان مهزوزا قبل كورونا .. فماذا سيحدث بعد ظهوره ؟!
ـ العالم عاش تجارب صعبة مع الأنفلونزا الأسبانية والإيبولا .. لكن عاصفة كوفيد 19 دفعت الدول إلى فرض العزلة الكاملة وإغلاق الحدود






وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا
حفظ الله مصر
الموجز تنفرد بنشر أخر تقارير رسمية عن الفيروس حول العالم


عدد حالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد حول العالم، تجاوز حاجز الـ250 ألفا، مساء الجمعة. ولا تزال حصيلة ضحايا فيروس كورونا المستجد تواصل الارتفاع، بالتزامن مع سعي دول العالم لوقف تفشي المرض، عبر تبني إجراءات احترازية مشددة.
في وقت سابق، الجمعة، أعلنت وكالة الأنباء الفرنسية أن عدد الوفيات الناجمة عن وباء كورونا تجاوز الـ10 آلاف شخص حول العالم. ويتجاوز عدد الوفيات في إسبانيا بسبب فيروس كورونا الألف، والإصابات تقترب من 20 ألفا، ووصل تعداد الوفيات من جراء فيروس كورونا في ألمانيا إلى 31 بعد وفاة 11 شخصا. كما أعلنت السلطات الروسية تسجيل 54 إصابة جديدة بالفيروس في البلاد، بينما ارتفعت أعداد الوفيات في بريطانيا من جراء الفيروس إلى 177. وسجلت منطقة لومبارديا شمالي إيطاليا، مركز تفشي الوباء في أوروبا، نحو 380 وفاة جديدة.
العالم بعد كورونا سيختلف تماما عما كان قبله. وما من شك في أن تأثير الفيروس، سيتجاوز الأسابيع أو الأشهر القادمة ليمتد لسنوات قادمة، مغيرا الكثير من مظاهر حياتنا. وبعض التغييرات قد تبدو غير مألوفة أو مقلقة: هل ستظل الدول مغلقة؟ هل سيظل اللمس من المحرمات؟ ماذا سيحدث للمطاعم؟
فيروس صغير قلب النظام العالمي رأسًا على عقب، وأجبر القيمين عليه إعادة النظر في كل الأمور، التي كانت سائدة قبل ظهوره. أجبر الدول على أن تحجر على نفسها، في عزلة لم يشهد التاريخ مثيلًا لها، إذ توقفت حركة الملاحة الجوية وقطعت الحدود البرية بين دولة ودولة أخرى، وأصبح العالم كله متقوقعًا على نفسه، وذلك خوفًا من خطر انتشار عدو البشرية قاطبة. وقد يكون من المفيد أن يختلي الإنسان مع نفسه في هذه العزلة الإجبارية، وقد يكون من المفيد أيضًا أمام هول هذا الوباء أن يعيد حساباته وأن يعيد النظر في أولوياته.
لا أحد يعرف بالضبط ما سيأتي، لكن هناك ما سيتغير في المجتمع وفي مستوى الرعاية الصحية والاقتصاد وأنماط الحياة. لكن المؤكد هو أن تغيرا سيحدث في التوازنات الإقليمية والدولية، وفي النظام العالمي الذي يمر بحالة تغيير من الأصل. كما سيشهد الاقتصاد العالمي عاصفة كارثية، بدأت بصدمة في العرض والطلب ناتجة عن تعطيل سلاسل التوريد الرئيسية في الصين، إلى جانب التوقف التدريجي لجميع الأنشطة الاقتصادية تقريبًا في الاقتصادات العالمية الرئيسية، وتداعي القطاع المالي. وقد يكون ما حدث بعد الأزمة المالية عام 2008، طفيفا مقارنة بما قد تكشفه الأشهر المقبلة.
نظرة سريعة على المنطقة، ستخرج منها بان حالة الطوارئ الناجمة عن الفيروس، أعادت الحياة للمسار السياسي لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي تأُجّلت محاكمته إلى مايو المقبل. ومع ذلك، فإن احتمال احتفاظه بمنصبه الحالي من خلال حكومة طوارئ وطنية تقودها أزمة "كوفيد-19"، لا تزال ضئيلة. ويبدو أن الفيروس يؤلم إيران أكثر من عقود من العقوبات الغربية، دافعا الحكومة إلى التقدم بطلب غير مسبوق لتلقي مساعدة من صندوق النقد الدولي. فهل يُمكن لهذا الفيروس أن يكون القشة التي ستكسر ظهر الجمل الإيراني؟
في روسيا، وبينما يجهز الرئيس فلاديمير بوتين نفسه للبقاء في السلطة حتى عام 2036، فإن توقيت الحرب النفطية يبدو مضبوطا بشكل جيّد لضرب الولايات المتحدة في لحظة حاسمة تشهد فيها تأرجح نظامها المالي على حافة الانهيار. وفي نظرة إلى الماضي، يبدو أن المعارضة الأمريكية لخط أنابيب الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا "نورد ستريم 2"، لم تكن حكيمة. وبالمناسبة، لم يؤثر الوباء بشكل جوهري على روسيا حتى الآن.
على عكس روسيا، تأثرت الصين بشكل كبير بتفشي "كوفيد-19"، لكنها تروج الآن للانطباع بأنها تتعافى. وفي حين أن الحكومة الصينية ربما لم تعلن عن العدد الدقيق للضحايا ومدى الضرر الاقتصادي الذي تكبدته البلاد، إلا أن ما يهم، هو الانطباع العام؛ والذي يتلخص بأن الصين خاضت حربا ضد الفيروس، وانتصرت بها في غضون شهرين فقط. هل ستتمكن الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من فعل الشيء نفسه؟ لنأمل ذلك.
خلّفت الجائحة أثرا كبيرا على إيطاليا، وباتت تفعل الأمر ذاته مع سائر أرجاء أوروبا، والولايات المتحدة، دافعة إلى هبوط المخزونات، وخالقة مشهدًا اقتصاديًّا مرعب على أقل تقدير. وبغض النظر عن كم التريليونات من الدولارات التي سيضخّها الاحتياطي الفيدرالي في المنظومة، أو مدى اقتراب سعر الفائدة من الصفر، أو مدى قوة حزمة الإنقاذ التي تعهد بها البنك المركزي الأوروبي، فإن الدورة الاقتصادية لا تزال في هبوط مستمر.
ولا يزال هناك استثناء ملحوظ لبريطانيا تحت إدارة بوريس جونسون، والذي يمكن أن تتسبب خطته، المستمدة من الداروينية الاجتماعيّة، لمعالجة الفيروس من خلال "مناعة القطيع"، بدون لقاح، إلى موت جماعي، خاصة بين المواطنين المسنين الأكثر عرضة لأعراض الفيروس الخطيرة، والذين، بالمناسبة، يشكلون أحد كتل ناخبيه الرئيسية.
من السابق لأوانه الجزم بأن هذه العاصفة الكارثية سوف تستهل حقبة جديدة، كما حدث قبل ستة قرون مع عصر النهضة بعد أن فتك وباء الموت الأسود سكان أوروبا. ومع ذلك، فإن "كوفيد-19"، بات يدفعنا بالفعل إلى مراجعة بعض التابوهات السياسية والاقتصادية التي عشناها لعقود. وقد تطلب الأمر وباءً ليهتز أنصار سياسات التقشف في الاتحاد الأوروبي، وقد رُفعت، وأخيرا، القيود التي يفرضها ميثاق الاستقرار والنمو الذي تقدسه دول الاتحاد، والذي ألحق الخراب بدول جنوبي أوروبا على مدار العقد الماضي، أو من قبل المفوضية الأوروبية على الأقل.
في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، يضطر السياسيون الآن، إلى إعادة النظر في عقود من السياسات النيوليبرالية التي تسببت في انعدام مساواة هائل، إلى جانب اقتطاع نفقات ممنهج وواسع النطاق في الخدمات العامة والصحية، والضمان الاجتماعي بشكل أعم. واليوم، قد يندم هؤلاء على العديد من هذه الخيارات. ومع ذلك، وكالعادة، الأكثر ضعفا هم الذين سيدفعون الثمن.
في الوقت الحالي، يمكننا وبحذر، أن نقدم بعض الاستنتاجات الأولية. أولا، فيروس كورونا المستجد لم يخلق ركودا عالميا، فالاقتصاد العالمي كان في حالة هشّة قبل تفشّيه، إذ أنه عانى من الفقاعات المالية والديون الاستهلاكية الضخمة. وثانيًا، عند مراقبة ردود الفعل العالمية على الوباء، نلاحظ انتشار فيروس آخر بالتوازي مع "كوفيد-19"؛ وهو إعادة تأميم عالمية لجميع السياسات النيوليبرالية تقريبا، بما في ذلك حرية الحركة، ومساعدة حكومية للشركات والعمال، لم يكن بالإمكان التفكير بها حتى في ما مضى. وثالثا، ربما نشهد اقتراب نهاية مشينة لأربعة عقود من سياسات السوق الحرة الاقتصادية، والعولمة غير المقيدة، وانتشار اللّامساواة وخفض الضمان الاجتماعي. وفي حين أنه تم تجاهل الدروس المستفادة من الأزمة المالية لعام 2008 بشكل متعمد ولا يغتفر، فإن فعل الأمر ذاته مع دروس 2020 ليس خيارا.
ليس من المعروف بعد كيف وإلى أي مدى، ولكن قد يكون من المنطقي أن نفترض أن العالم والعولمة لن تعود كما كانت عليه في السابق بعد انتهاء هذه الجائحة.
2
لا شيء مؤكد على أن فيروس كورونا (كوفيد 19) تحول إلى "الوحش" القادم الذي يتربص بنا. ويعمل الباحثون ليلا ونهارا لتمييز جوانب الفاشية (الوباء) الجديد، لكن ثلاثة تحديات كبرى تواجههم؛ الأول: النقص المستمر بمعدات الفحص أو عدم توفرها، قضى على الأمل باحتواء المرض. إضافة إلى أن ذلك يمنع التقديرات الدقيقة لمعلومات الفيروس الرئيسية، مثل معدلات انتشاره وعدد المصابين به وحجم الإصابات. والنتيجة، فوضى بالأرقام.
مع ذلك، توجد بيانات ذات مصداقية أكبر حول تأثير الفيروس على مجموعات معينة في عدد قليل من البلدان التي تفشى فيها الفيروس (ككبار السن والمصابين بأمراض مزمنة)، وهذا أمر مخيف للغاية، إذ أن "إنفلونزا كورونا" كما وصفها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، تمثل خطرا غير مسبوق على كبار السن، إذ من المحتمل أن يبلغ عدد ضحاياها الملايين.
أما التحدي الثاني، فيكمن بأن هذا الفيروس شأنه شأن أي إنفلونزا سنوية، يمر بعملية تحول مع تنقله من خلال مجموعات سكانية ذات تركيبات عمرية مختلفة وتفاوت بحصانات أفرادها المكتسبة. ومن المرجح أن يختلف تنوع المصابين الأمريكيين، اختلافا طفيفا، عن تنوع الشريحة التي أُصيبت أولا في مدينة ووهان الصينية، منشأ الفيروس. وقد يكون التحول الجيني المحتمل للفيروس، بسيطًا، أو أن يتمكن من تغيير توزيع مدى خبثه المتصاعد مع التقدم في العمر، إذ ظهر حتى الآن، أن خطر إصابة الرضع والأطفال الصغار بالفيروس ضئيلا، بينما يواجه أولئك الذين تخطت أعمارهم حاجز الثمانين عاما، تهديدا قاتلا من الالتهاب الرئوي الفيروسي.
ويتلخص التحدي الثالث بأنه حتى وإن بقي الفيروس في وضع مستقر، أو طرأ عليه تحولا (طفرة) طفيفا، فإن تأثيره على الشرائح السكانية الأقل من 65 عاما، قد يختلف اختلافا جذريا بين مجموعة وأخرى، خاصة في الدول الفقيرة، والمجموعات التي تعاني من الفقر حول العالم.
ولنأخذ العبرة من التجربة العالمية للأنفلونزا الإسبانية التي تفشت بين العامين 1918 و1919، ووصلت التقديرات حينها أنها قتلت ما بين 1 إلى 2% من البشرية. وتميز هذا المرض، بعكس كورونا المستجد، بكونه أكثر فتكا بالشباب وكثيرا ما نُسب ذلك إلى كون الأنظمة المناعية لهذه الفئات العمرية تُعد أقوى من غيرها نسبيا، إذ أنه كان لتفاعلها المفرط مع عدوى الإنفلونزا الإسبانية، تأثيرا قاتلا على خلايا الرئة. ويُعزى انهيار "هجوم الربيع" الألماني الكبير عام 1918، والذي أفضى إلى انتصار قوّات الحلفاء، إلى أن الأخيرة استطاعت أن تعيد تعبئة قواتها المريضة بقوات أمريكية وصلت في مرحلة متقدمة من الحرب، بخلاف دول المحور.
مع ذلك، عند الحديث عن الإنفلونزا الإسبانية، فإنه نادرا ما يُشار إلى حقيقة أن 60% من الذين قتلهم هذا المرض، كانوا من غربي الهند حيث تزامن تصدير الحبوب إلى بريطانيا وممارسات الاستيلاء (الاستعماري) الوحشي الأخرى، مع جفاف حاد. ليدفع نقص الغذاء الناتج عن ذلك، ملايين الفقراء إلى حافة المجاعة. وأصبح هؤلاء ضحايا التعاضد الشرير بين سوء التغذية، الذي قمع استجابتهم المناعية للعدوى، وانتشار الالتهاب الرئوي البكتيري والفيروسي. وفي إيران التي كانت تخضع للاحتلال البريطاني في ذلك الوقت، فقد أدى استمرار الجفاف وتفش الكوليرا، ونقص الغذاء، والتي تلاها تفشي مرض الملاريا، إلى وفاة خمس سكانها.
هذا التاريخ، خاصة الجزء الذي يتضمن العواقب غير المعروفة للتفاعلات بين العدوى وسوء التغذية، يحذرنا من أن "كوفيد 19"، قد يتخذ مسارا مختلفا وأكثر فتكا في الأحياء الفقيرة في أفريقيا وجنوب آسيا. وغالبا ما تتغاضى الصحافة والحكومات الغربية، عن الخطر الذي يتربص بفقراء العالم، نتيجة الفيروس، بل أن المقال الوحيد الذي رأيت أنه يتطرق لهم، يدعي أنه نظرا لأن سكان المناطق الحضرية في غربي أفريقيا هم الأصغر سنا عالميا، فإنه من المفترض أن يكون تأثير الفيروس معتدلا. وفي ضوء تجربة عام 1918، فإن ذلك استقراء أحمق، فما من أحد يعرف ما سيحدث خلال الأسابيع المقبلة في لاجوس أو نيروبي أو كراتشي. واليقين الوحيد هو أن الدول الغنية والطبقات الغنية ستركز على إنقاذ نفسها إلى حد الاستغناء عن التضامن الدولي والمساعدة الطبية، أي تشييد "الجدران" بدلا من توزيع اللقاحات.
قد ننظر بعد مرور عام من الآن، بأثر رجعي، بإعجاب، إلى نجاح الصين في احتواء الوباء، على عكس الرعب الذي سنشعر بها إزاء فشل الولايات المتحدة المحتمل. (وأبالغ هنا بالافتراض أن إعلان الصين حول الانخفاض السريع لمعدلات الإصابة، دقيق إلى حد ما) فعجز المؤسسات الأمريكية عن إبقاء "صندوق باندورا" مغلقا، ليس مفاجئا. وشهدنا الأعطال المتكررة في نظام الرعاية الصحية الأمريكي منذ عام 2000.
على سبيل المثال، طغى موسم الإنفلونزا سنة 2018 على المستشفيات في جميع أنحاء البلاد، فاضحا النقص المروع في أسرّة المستشفيات بعد عشرين عاما من الانخفاضات التي تعرضت لها القدرة الاستيعابية للمرضى، نتيجة السياسات الربحية. وأدى إغلاق المستشفيات الخاصة والخيرية والنقص بقطاع التمريض، والتي طُبقت بمنطق السوق، إلى تدمير الخدمات الصحية في المجتمعات الفقيرة والمناطق الريفية، مما أدى إلى نقل العبء إلى المستشفيات العامة سيئة التمويل، وغيرها من المؤسسات الخيرية. وليس بإمكان أقسام الطوارئ في مثل هذه المؤسسات أن تتعامل مع محض عدوى موسمية، فكيف ستتعامل مع الحمل الزائد الوشيك للحالات الحرجة؟
لا نزال في المراحل الأولى من إعصار قد يعصف بالقطاع الصحي، وعلى الرغم من التحذيرات المستمرة على مدار أعوام، من إنفلونزا الطيور والأوبئة الأخرى، فإن مخزونات معدات الطوارئ الأساسية مثل أجهزة التنفس الصناعي ليست كافية للتعامل مع التدفقات الهائلة للحالات الحرجة، المتوقع حدوثها. ولا تنفك نقابات الممرضين في كاليفورنيا والولايات الأخرى من إطلاعنا على المخاطر الجسيمة التي قد تسببها المخزونات غير الكافية من لوازم الحماية الأساسية مثل أقنعة الوجه "إن 95". وسيكون مئات الآلاف من العاملين في مجال الرعاية المنزلية ذوي الأجور المتدنية، أكثر عرضة للخطر لأنهم غير مرئيين.
ولطالما كان قطاع الرعاية المنزلية، والرعاية المساعدة، الذي يأوي نحو 2.5 مليون أمريكي مسن، بمثابة فضيحة وطنية. فوفقا لصحيفة "نيويورك تايمز"، يموت نحو 380 ألف نزيل في دور الرعاية سنويا، بسبب إهمال المرافق لإجراءات مكافحة العدوى الأساسية. وتجد العديد من هذه المنشآت، خاصة في الولايات الجنوبية، أن دفع غرامات المخالفات الصحية أرخص من توظيف موظفين إضافيين وتزويدهم بالتدريب المناسب. والآن، ستصبح العشرات من دور التمريض، أو ربما المئات منها، بؤر ساخنة لفيروس كورونا، ومنطقيًا، سيفضل موظفو هذه المؤسسات ذوي الأجور المنخفضة، البقاء في منازلهم لحماية أسرهم، على الاستمرار في العمل.
لقد كشف الوباء فور تفشيه، الانقسام الطبقي الصارخ في مجال الرعاية الصحية؛ وأن هؤلاء الذين يحظون بتأمين صحي جيد والذين بإمكانهم أن يعملوا من منازلهم أيضا، قد يعزلوا أنفسهم براحة كافية شريطة اتباع إجراءات وقائية. وسيضطر موظفو القطاع العام، والمجموعات الأخرى من العمال النقابيين الذين يتمتعون بتغطية لائقة، إلى اتخاذ خيارات صعبة بين الدخل والحماية. أما الملايين من عمال القطاع الخدمي ذوي الأجور المتدنية، والعمال المؤقتين الذين يفتقرون للتغطية الصحية، والمشردين، فسيتم التضحية بهم. وحتى إذا قامت واشنطن في نهاية المطاف بحل فشلها الذريع في فحوصات فيروس كورونا، ووفرت عددا كافيا من العتاد للمؤسسات الصحية، فإن أولئك غير المؤمَّن عليهم صحيا، عليهم أن يدفعوا للأطباء والمستشفيات لإجراء الفحوصات. وبشكل عام، سترتفع الفواتير الطبية العائلية في نفس الوقت الذي يفقد فيه الملايين من العمال وظائفهم والتأمين الذي يحصلون عليه من أصحاب العمل.
التغطية الشاملة ليست سوى خطوة أولى في سبيل حل الأزمة، فمن المخيب للآمال مثلا، أن السيناتورين التقدميين، بيرني ساندرز، وإليزابيث وارن، لم يسلطا الضوء، خلال منافستهما في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، على تنازل شركات الأدوية العملاقة عن البحث والتطوير في مجال المضادات الحيوية ومضادات الفيروسات الجديدة. فمن بين أكبر 18 شركة أدوية، تخلت 15 شركة عن هذا الحقل بشكل تام لصالح العقاقير المربحة، مثل أدوية القلب والمهدئات المسببة للإدمان، وعلاجات العجز الجنسي، مقابل العقاقير التي لا تجني الشركات أرباحا طائلة منها كتلك الواقية من عدوى المستشفيات، والأمراض الناشئة والموسمية التقليدية القاتلة. فمثلا، كان تطوير لقاح شامل للإنفلونزا، أي لقاح يستهدف الأجزاء غير القابلة للتغيير من البروتينات السطحية للفيروس، متاحا لعقود ولكنه لم يكن أبدًا أولوية مربحة.
مع عودة ثورة المضادات الحيوية إلى الوراء، ستعاود الأمراض القديمة الظهور إلى جانب الإصابات الجديدة وستتحول المستشفيات إلى "مستودعات لتخزين الموتى". فحتى ترامب يمكنه انتقاد تكاليف الوصفات الطبية الباهظة، بما يتماشى مع مصالحه، لكننا بحاجة إلى رؤية أكثر جرأة تتطلع إلى تفكيك احتكار الأدوية، وتوفير الإنتاج العام للأدوية الأساسية.
يجب أن يكون الحصول على الأدوية الأساسية، والتي تشمل اللقاحات والمضادات الحيوية والأدوية المضادة للفيروسات، حقا من حقوق الإنسان مكفولا للجميع بدون تكلفة. إذا لم تستطع الأسواق تقديم حوافز لإنتاج مثل هذه الأدوية بتكلفة زهيدة، فيجب على الحكومات والمنظمات غير الربحية تحمل مسؤولية تصنيعها وتوزيعها. يجب أن تحظى نجاة الفقراء بأولوية أعلى من أرباح شركات الأدوية الكبرى، في جميع الأوقات.
إن الكارثة الحالية تؤكد، باختصار، أن العولمة الرأسمالية غير مستدامة بيولوجيا في غياب بنية تحتية دولية للصحة العامة. لكن مثل هذه البنية التحتية لن تكون موجودة حتى يكسر الناس قوة شركات الأدوية الكبرى.
3
إيطاليا، منذ الخميس الماضي، بدأت تتجاوز الصين في عدد الوفيات جراء الإصابة بفيروس كورونا لتصبح أكثر دولة تضررا من هذا الفيروس في العام متجاوزة حاجز 4000 وفاة، كما تجاوز عدد الإصابات الـ45 ألفا. كما أعلنت إيطاليا، يوم الجمعة عن رقم مرعب بـ 627 قتيلا خلال 24 ساعة الأخيرة، وهو أكبر عدد من الوفيات تسجله دولة خلال يوم واحد منذ بداية انتشار الوباء في الصين أواخر العام الماضي.
هذه الأرقام تجعلنا نبحث عن الأسباب التي جعلت إيطاليا تصل إلى هذا الوضع الكارثي، متسببا في انهيار قطاعها الصحي وعجزه عن مواجهة الانتشار الرهيب للفيروس في أنحاء البلاد. وتجمع أغلبية التحليلات أن السبب الرئيسي يعود إلى تأخر الحكومة الايطالية في اتخاذ الإجراءات اللازمة منذ ظهور أول الحالات للإصابة بالفيروس في 18 فبراير الماضي في مدينة كودوجنو الشمالية الصغيرة.
اللافت أنه لم يتخذ المستشفى الإجراءات اللازمة، على الرغم من أن المريض زار المستشفى عدة مرات، فبعد 36 ساعة قضاها المصاب خارج العزلة، تم إدخاله إلى المستشفى وإثبات إصابته بالمرض، ولكن حتى ذلك الوقت كان قد نقل العدوى لعدد من الموظفين الطبيين وفي المجالات الأخرى على مدى أيام من مخالطتهم وممارسة حياته بالشكل الطبيعي. والأسابيع التي تلت ذلك كانت متعثرة بسبب السياسة الداخلية والجدل حول ما إذا كانت المخاوف مبالغ فيها، والتداعيات الاقتصادية الخطيرة التي من شأنها أن تكبح التدابير الأكثر صرامة.
كانت إيطاليا في حالة إنكار ولم تتحرك بالسرعة الكافية للانخراط في تدابير الفصل الاجتماعي والحظر، قبل انفجار القنبلة الفيروسية بكامل قوتها. واستهتار الحكومة الإيطالية بدا واضحا، حيث تم فرض قيود محدودة على السفر في بعض المناطق الأكثر تضررا في الأول من مارس، ولكن وعلى الرغم من إغلاق المدن المتفشي بها الفيروس، إلا أنها لم تفضل تعطيل الاقتصاد والحياة اليومية في عدة مناطق بالبلاد. ولكن مع بدء معدلات العدوى في التكاثر على مدار الساعة، أمر رئيس الوزراء جوزيبي كونتي بالحظر الكامل على جميع أنحاء البلاد، وهي الخطوة التي كانت متأخرة ولم تساعد في خفض حالات الإصابة باعتبار أن الفيروس انتشر بسرعة كبيرة وسط السكان.
مشكلة أخرى ساهمت في سقوط إيطاليا في وحل الفيروس، هو أن الإيطاليين تخلفوا في إجراء فحص واختبار الفيروس التاجي على نطاق واسع، على الرغم من أنه أثبت فعاليته في مكافحة الانتشار. ويفترض علماء الأوبئة أنه لأسابيع قبل اكتشاف أول حالة، كان الفيروس ينتشر ويحتمل أن يكون من خلال أفراد شباب أصحاء لم تظهر عليهم أي أعراض أو أعراض خفيفة جدًا. وهناك عامل آخر جعل إيطاليا عرضة لتفشي الوباء وارتفاع عدد الوفيات هو نسبة كبار السن المرتفع في إيطاليا، وأغلبهم لديه سجلات طبية سابقة وأمراض مزمنة مما يجعلهم عرضة للإصابة الأكثر خطورة التي تؤدي للوفاة.
هذه النسبة الكبيرة من المسنين المصابين بالفيروس تتطلب إمكانيات كبيرة للتكفل بهم طبيا ما تسبب في انهيار النظام الصحي في إيطاليا، لأنه ببساطة لا توجد ما يكفي من أسرة لوحدات العناية المركزة أو أجهزة التنفس الصناعي لكل مريض، مما يجبر الأطباء على الاختيار من سيحصل على سرير في وحدة العناية المركزة ولديه فرصة البقاء على قيد الحياة مقابل الذين لا يمكنهم الحصول على سرير، وعلى الأرجح لن يستطيعوا البقاء على قيد الحياة.
الحالة المأساوية التي وصل إليها هذا البلد المتوسطي تعطي درسا للعديد من الدول التي بدأ الوباء في الانتشار وسط مواطنيها، وذلك بضرورة عدم التهاون في اتخاذ الإجراءات الصارمة لمواجهة هذا الفيروس الفتاك قبل فوات الأوان.
4
كورونا يعيد تشكيل النظام العالمي. كما ذكرت مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية التي أشارت، بسوء نية متعمد، إلى أن الصين تناور لتقود العالم في حين تفشل الولايات المتحدة الأمريكية في التعاطي مع الوباء.
في تقريرها، قارنت المجلة بين استجابة الولايات المتحدة الأمريكية والصين للوباء، معتبرةً أنّ المؤسسات الحكومية الأساسية، انطلاقاً من البيت الأبيض ومروراً بوزارة الأمن الداخلي ووصولاً إلى مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها قوّضت الثقة بقدرة وكفاءة الحوكمة الأمريكية. واستشهدت المجلة بتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتغريداته، مشيرةً إلى أنّها أثارت الشكوك في النفوس وأدت إلى حالة من الارتياب إلى حدّ كبير. وتابعت المجلة بالقول إنّ القطاعيْن العام والخاص أثبتا أنّهما غير مستعديْن لإنتاج الأدوات اللازمة للفحص والاستجابة وتوزيعها، مضيفةً: "وعلى المستوى العالمي، عزز الوباء نزعات ترامب إلى العمل بمفرده وكشف عن مدى انعدام استعداد واشنطن لقيادة استجابة العالم (للوباء)".
وأوضحت المجلة أنّ وضعية الولايات المتحدة بصفتها قائدة للعالم على مدى العقود السبعة الماضية استندت إلى الثروة والنفوذ والشرعية المنبثقة من إدارة الولايات المتحدة للملفات الداخلية وتوفير المنافع العامة العالمية (السلع التي يحتاج العالم إليها) والقدرة والاستعداد لحشد وتنسيق الاستجابة العالمية للأزمات. وأضافت المجلة: "وباء فيروس كورونا يختبر عناصر القيادة الأمريكية الثلاثة. وما زالت واشنطن تفشل في الاختبار حتى اللحظة".
في المقابل، بيّنت المجلة أنّ الصين تتحرك بسرعة وبراعة لاستغلال الفجوات التي خلّفتها الأخطاء الأمريكية، لافتةً إلى أنّها تعمل على ملء الفراغ لتصبح قائدة للعالم على مستوى الاستجابة للوباء. وأوضحت المجلة أنّ الصين تروّج لنظامها الخاص وتوفّر مساعدة مادية لبلدان أخرى، بل بلغت حدّ تنظيم عمل حكومات أخرى. وتابعت المجلة: "تدرك بكين أنّه إذا نُظر إليها على أنّها قائدة (للعالم)، وإذا نُظر إلى واشنطن عل أنّها عاجزة أو غير راغبة في لعب هذا الدور، فيمكن لهذا التصوّر أن يغيّر بشكل أساسي موقع الولايات المتحدة في المشهد السياسي العالمي من جهة، والسباق على القيادة (قيادة العالم) في القرن الحادي والعشرين من جهة ثانية".
المجلة التي ذكّرت بتكتم الصين عن الإصابات بالفيروس في تشرين الثاني الفائت قبل نجاحها في السيطرة عليها مطلع الشهر الجاري، رأت أن بكين تحوّل حالياً علامات النجاح المبكرة إلى قصة أكبر تحكيها للعالم. وعلّقت المجلة بالقول إنّها قصة تجعل من الصين اللاعبة الأساسية على صعيد التعافي العالمي المقبل.
بالمقارنة بين الصين والولايات المتحدة، تطرّقت المجلة إلى عجز الأخيرة عن إنتاج عدد ملائم من أجهزة الاختبار (أي أنّها فحصت عدداً قليلاً نسبياً من الأفراد)، مستدركةً بأنّ بكين- على نقيض الدول الأوروبية- لبّت نداء إيطاليا العاجل، إذ تعهّدت علناً بإرسال ألف جهاز تنفس اصطناعي ومليوني كمامة و100 ألف قناعِ واقٍ و20 ألف بدلة واقية و50 ألف جهاز اختبار. كما تطرّقت المجلة إلى إرسال الصين فرقاً طبية و250 ألف كمامة إلى إيران وإلى إرسالها معدات لصربيا، لافتةً إلى أنّ رجل الأعمال الملياردير، جاك ما، مؤسس "علي بابا"، وعد أيضاً بإرسال 20 ألف جهاز اختبار و100 ألف كمامة لدول أفريقية. وفي تحليلها، اعتبرت المجلة أنّ الرئيس الصيني، تشي جي بينج، يدرك أنّ ذلك قادر على تقديم أوراق اعتماد قيادة الصين الصاعدة للعالم، قائلةً: "ويوفّر فيروس كورونا فرصة لوضع هذه النظرية على مسار التنفيذ".
المجلة الأمريكية ترى أن العالم يعتمد بشكل كبير على المنتجات الصينية في مواجهة كورونا، موضحةً أنّ الصين التي تُعد المنتجة الأساسية للكمامات الجراحية عززت إنتاجها أكثر من عشرة أضعاف وباتت قادرة على تزويد العالم بها. وأضافت المجلة بأنّ الصين تنتج نحو نصف الكمامات من طراز N95، وهي أساسية لحماية العاملين في القطاع الصحي، معتبرةً أنّ هذا الواقع يمنحها أداة أخرى على مستوى السياسة الخارجية. وتابعت المجلة بأنّ الصين تنتج غالبية المكونات المستخدمة في صناعة الأدوية المضادة للالتهابات الناجمة عن الإصابة بكورونا.
في المقابل، بيّنت المجلة أنّ الولايات المتحدة تفتقد للمعدات والقدرة على تلبية احتياجاتها الخاصة، كاشفةً أنّه يُعتقد بأنّ المخزون الوطني الإستراتيجي الأمريكي، وهو احتياطي البلاد من الإمدادات الطبية الحرجة، يحتوي على 1% فقط من الأقنعة وأجهزة التنفس وربما 10% من أجهزة التنفس اللازمة للتعامل مع الوباء. وهذا يعني أنّه يتعيّن على السلطات الأمريكية استيراد الكميات اللازمة المتبقية من الصين أو زيادة الإنتاج المحلي منها، بحسب المجلة.
وبينما أشارت المجلة إلى قيادة الولايات المتحدة الجهود الدولية خلال أزمة إيبولا بين 2014 و2015، أشارت أيضًا إلى أن إدارة ترامب ابتعدت عن لعب دور مماثل، مبيّنةً أنّها لم تبلّغ حلفاءها الأوروبيين بقرارها حظر سفر مواطنيهم إلى الأراضي الأمريكية مسبقاً. وتابعت المجلة بأنّ الصين عمدت، على عكس ذلك، إلى تقديم المساعدات للدول الموبوءة وعقد مؤتمرات عبر الفيديو لمشاركتها المعلومات اللازمة لمكافحة الوباء. كما رأت المجلة أنّ نجاح الصين في قيادة العالم يعتمد بقدر كبير على ما يحدث في واشنطن وما يحدث في بكين، لافتةً إلى أنّ الولايات المتحدة ما زالت قادرة على ترجيح كفتها إذا أثبتت قدرتها على القيام بما هو متوقع من أي قائد. وعليه، خلصت المجلة إلى القول إنّه يتعيّن على واشنطن إدارة المشكلة في الداخل وتوفير منافع عامة وتنسيق الاستجابة الدولية، مشيرةً إلى أنّ لعب دور القيادة سيتطلب التعاون مع الصين.
منتصف القرن الماضي، وبعد وصول الشيوعيين إلى السلطة في الصين، اختلفت قيادة الزعيم ماو تسي تونج مع القيادة السوفيتية، بسبب تبني الأخيرة سياسة التعايش السلمي مع الغرب الرأسمالي التي أعلنها الزعيم خروتشوف، وحصلت القطيعة الكبرى التي أحدثت شرخا في العالم الشيوعي. كان الصينيون يتبنون مبدأ الكفاح المسلح ضد الأنظمة الرأسمالية في كل العالم، لإقامة الاشتراكية، فالشيوعية، وهو ما يتعارض مع موقف القيادة السوفيتية التي صارت أكثر واقعية بعد درس الحرب العالمية الثانية وأهوالها، وظهور السلاح الذري الذي خلق توازن رعب غير مسبوق في التاريخ البشري.
فشل ماو تسي تونج في دحر الرأسمالية خارج الصين، لكنها صارت بعد رحيله، شيوعية بنكهة رأسمالية مخففة، فأطلت برأسها إلى العالم بقوة من خلال صناعتها واقتصادها الذي تحرر من صرامة النظرية الاقتصادية الاشتراكية، وأساليب ماو القسرية، حتى جاء فيروس كورونا الذي انطلق من هناك، وكأنّه يريد الانتصار لماو تسي تونج، بعد خمس وأربعين عاما على رحيله، أي أن يعمم نظريته، ولو بشكل من أشكال الملابس، فكورونا الذي جعل الجميع، تقريبا، يرتدون الكمامات على غرار السفاري الصيني، كان اشتراكيا أيضا، إذ لم يقتصر على فئة أو شريحة اجتماعية دون أخرى، وفي كل العالم، فقد أصاب الفقراء المعدمين مثلما أصاب الأغنياء، وأصاب الناس العاديين كما الزعماء، والمغمورين كما المشاهير.
لقد حقق هذا الفيروس، في أيام وأسابيع، ما لم يحققه ماو تسي تونج في ربع قرن! وفرض على العالم ثقافة صينية من نوع خاص. الشيء الأهم من كل هذا، أنّ هذا الفيروس نبّه إلى حقيقة غفل عنها كثيرون، وهي أنّ هناك فقراء منسيين في هذا العالم الذي بات في قبضة الرأسمالية المتوحشة، وأنّ هؤلاء ظلوا محرومين من أبسط الخدمات الصحية، ولم ينتبه اليهم الأغنياء ممّن ينفقون الملايين من الدولارات على عمليات التجميل وغيرها من الممارسات غير الضرورية، غير مكترثين لتأوّهاتهم تحت أشكال متعددة من الأمراض.
كورونا جسّد اشتراكيته في جعل العالم يقف متكاتفا في مواجهته، بعد أن عجز عن الوقوف في وجه الكثير من المجاعات التي قتلت الملايين من البشر في أماكن كثيرة، خاصة في أفريقيا وجنوب آسيا وأمريكا اللاتينية وغيرها، والسبب أنّ هؤلاء كانوا يموتون بصمت في أماكن لم يسلط عليها الإعلام الرأسمالي المعولم كاميرات فضائياته، ولم تنتج تلك المجاعات فيروسات جوع تنتقل بالهواء، لها شراسة كورونا، لتستنفر العالم وتجعله يتصدى لها، لهذا ظلت أجساد العراة الجياع في مواجهة الجفاف وخواء البطون، المحاط بصمت العالم المشغول بحفلات الترف والبذخ. في الجانب الآخر من الأرض التي باتت تسمى قرية صغيرة، لكن بنظم إقطاعية جديدة وآليات حديثة لم تعدم جوهر الاستلاب وغياب العدالة الاجتماعية.
5
انتشار عدوى "كوفيد 19" على نحو مريع، وضع العالم أمام تحدي النجاة أولاً، والانهماك في تمرينات يومية لمقاومة العدو الجديد، ثم اختبار مناعات أخرى، لتداعيات الفيروس. وفي الذاكرة دائماً أوبئة، أهلكت عشرات الملايين من البشر، أقربها الإنفلونزا الإسبانية عام 1918.
لم يرفع أحد سقف الآمال، بأن يؤول الفيروس إلى نهاية سريعة، فيما تنهمك كبريات الشركات الدوائية في محاولات تطوير لقاح سريع، بل إن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، صدم مواطنيه بأن عليهم "توقع فقدان أحبائهم قبل الأوان"، خلال الشهور المقبلة، التي يواصل فيها الفيروس مزيداً من الانتشار، والفتك بأرواح الناس.
المؤكد، أن البشرية تستعد إلى معركة طويلة الأمد مع الفيروس المستجد، ربما لن تنتهي بإنتاج اللقاح العتيد، ولا بتراجع ذروة امتداده جغرافياً، وتكاثر ضحاياه. وفي الطريق، فإن على النظام الدولي، البحث عن لقاحات لأكثر من كارثة، تلوح في الأفق، أبرزها الانهيارات المتتالية في الاقتصاد العالمي، حيث تطل أشباح المجاعات والأمراض المعدية الأخرى، وما يتبع ذلك من اهتزازات عميقة في الأمن الاجتماعي للدول النامية، والمجتمعات الأشد فقراً، التي ستدفع أثمان الركود الاقتصادي أضعافاً مضاعفة.
تزامنا مع ذلك، لم تكن مناعة الاقتصاد العالمي في أفضل أحوالها، فالولايات المتحدة في مواجهة توقعات بخسائر مباشرة، جراء التعامل مع تبعات كورونا، تصل إلى 1.7 تريليون دولار، والأمور ليست أفضل بالنسبة لأوروبا وآسيا، ولنا أن نتخيل تداعيات هذا المشهد الطويل على اقتصادات الدول الفقيرة، بمعزل عن الخسارات الأكثر فداحة في الأرواح، في حال عجزت الدول المانحة عن مد يد المساعدة، كما كان هو الحال في الظروف الاستثنائية الأخرى.
الآن، على العالم إيجاد حلول أكثر فاعلية للتعامل مع الأوبئة، وسرعة انتشارها، والتهيؤ أكثر فأكثر للتطورات الجينية المحتملة للفيروسات، إلى جانب بناء استراتيجيات لإبطاء تسارع الأمراض الشديدة العدوى، فقد كان صادماً للأمريكيين، مثلاً، أن مناعة نظامهم الصحي الفيدرالي فقيرة، إلى حد عدم توفر الفحص للكشف عن فيروس كورونا، وهو ما يُتاح لمواطني دول كثيرة في العالم، تتلقى مساعدات من أموال دافعي الضرائب الأمريكيين. لكنّ كثيراً من اللقاحات المجازية يتحتم على العالم تطويرها، مع انهماك مختبرات الشركات الدوائية في ابتكار اللقاح الحقيقي والفعال لفيروس كورونا، أبرزها الحاجة إلى تكاتف دولي، لاحتواء الآثار السلبية المباشرة للوباء، خصوصاً على المجتمعات الأشد فقراً، ثم إنقاذ القطاعات المتضررة بشدة، كالسياحة، والطيران، وتجارة التجزئة، والأعمال الصغيرة والمتوسطة، وتخفيف حدة المخاوف من فقدان آلاف وظائفهم، سعياً إلى عولمة، بمناعة إنسانية، أكثر عافية.
خطورة فيروس كورونا أكبر بكثير على السكان كبار السن منها على صغارهم. وقد توصلت دراسة حول الأوبئة، نشرها المركز الصيني للتحكم في الأمراض والوقاية منها، إلى أن معدل الوفيات في حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19 تبلغ 2.3%، لكن نسبة الوفيات وسط المصابين الذين تتراوح أعمارهم بين 60 و69 عاماً تبلغ 3.6%، ووسط الذين تتراوح أعمارهم بين 70 و79 تبلغ 8%، ووسط الذين تتجاوز أعمارهم الثمانين تبلغ 14.8%. ومن الواضح أن لهذا تداعيات على الأفراد، خاصة أن بعض المناطق بها عدد من كبار السن أكثر من مناطق أخرى.
اليابان بها أعلى نسبة من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً (27.6% من إجمالي سكانها). وكل الدول الأخرى التي تزيد فيها نسبة هؤلاء عن 20% توجد في أوروبا. وإيطاليا تتصدر القائمة الأوروبية بنسبة 22.8%، وهي الدولة التي تشهد ثاني أكبر عدد من الإصابات والوفيات بالفيروس بعد الصين. وربما لا تكون هذه مصادفة. وهذا لا يعني أن كثرة الشباب وسط السكان يحمي البلاد من مشكلة كبيرة مثل كورونا. فنسبة الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً في إيران تبلغ 6.2% فقط، لكن البلاد تعاني بشدة من انتشار المرض. وهذا مؤشر على أن الدول الأوروبية، بأنظمتها للرعاية الصحية الشاملة، ستواجه تحديات كبيرة مع انتشار المرض، وأن هناك دولاً في أفريقيا وجنوب آسيا تعد الأكثر هشاشة أمام الأوبئة، بسبب الفقر وضعف الرعاية الصحية، لكن قد تكون أمامها فرصة أفضل لتجاوز هذا الوباء، مقارنة ببعض الدول المتقدمة.
في الولايات المتحدة تبلغ نسبة من تزيد أعمارهم على 65 عاماً 15.8%، لكن هناك بعض الولايات تشبه أوروبا في تقدم أعمار سكانها. والمناطق الريفية الأمريكية بها نسبة كبيرة من كبار السن، بينما الرعاية الصحية فيها أقل عادة. لكن الإيجابي في الأمر أن الفيروس سيستغرق وقتاً أطول للوصول إلى هذه المناطق. والخرائط توضح عدم توازن في موارد الرعاية الصحية وعواقبه المحتملة في ظل وباء كورونا.
عندما تعلن منظمة الصحة العالمية أن كورنا المستجد أو "كوفيد-19"، أصبح جائحة عالمية ويكتب في معظم وسائل الإعلام المقروء ويذاع في معظم القنوات الإعلامية المرئية ويستخدم في جميع المراسلات الحكومية الرسمية في الكثير من الدول مصطلح وباء أو وباء عالمي بدلاً من جائحة، فلابد أن نقف عندها لحظة مع أنفسنا لنراجع المغالطات وجيوش خلط المفاهيم في عالمنا العربي وتبسيط الأمور بإضافة كلمة أو حذف أخرى، وكأن لغتنا العربية فقيرة في وضع المصطلحات الصحيحة، وكيف لهذه الأمور أن تنعكس في طبيعة الخطط الموضوعة، والتي يتم تفعيلها الآن لمواجهة الجائحة في ظل قلة المتخصصين في هذا الحقل الحيوي المؤثر تأثيرًا مباشر في حياة الناس وصحتهم العامة واستقرار ونماء الدول حيث تعرف منظمة الصحة العالمية الوباء بأنه "انتشار مرض بشكل سريع في مكان محدد"، أما (الجائحة) فمعناه "انتشار الوباء بشكل سريع حول العالم"، ولهذا أغلقت بعض الدول حدودها ومنافذها، وأخرى أوقفت الرحلات الجوية القادمة من دول أو قارة بأكملها.
هل تتخذ تلك الدول وخاصة المتقدمة منها قراراتها جزافاً وليس استناداً لرأي اللجان المتخصصة العليا لديها؟ وهل تقوم بتغليب الرأي الفني على الرأي السياسي والكياسة الدبلوماسية وتأخذ تخوفات المجتمع الفني مأخذ الجد لمنع انتشار الجائحة في أراضيها ومنع خروجها عن السيطرة؟ بالتأكيد تربط الحكومات كل ذلك بموقعها ومواردها وتفاعلها مع العالم الخارجي، وبسرعة انتشار الجائحة بين السكان وطريقة الانتشار والتوزيع والكثافة السكانية ومعدل الأعمار والجنس وحجم تفشي الأمراض المعدية والمزمنة في الدولة والإمكانيات والمقدرات الحالية.
حكومات كثيرة ربطت مواقفها بمدى سرعة توقع الوصول للقاح والعلاج، وطريقة عيش الشعب، وطبيعة السفر من وإلى تلك الدولة، والجنسيات التي تقدم إليها، ومستويات الفقر والبطالة ومدى انشغال القطاع الطبي والمخزون الطبي والغذائي، واحتمالية حدوث كوارث طبيعية وآليات ومرافق الحجر والعزل المتوفرة، ومدى جودة وسرعة إجراءات الفحص واكتشاف المصابين في المنافذ، وحجم التغطية وطبيعة حدودها والخوف من المتسللين، وإجراءات مركزية موحدة تغطي جميع أراضيها، ومراجعة الصورة الكلية لسنوات طويلة قادمة، وليس التحدي الراهن فقط، إضافة إلى دور تقييم محترفي المخاطر في تلك المنظومة وتوصياتهم والخيارات البديلة التي يطرحونها لدعم القرار.
الفيروس يضرب شمالاً ويميناً، ولا يفرق بين رئيس أو أصغر موظف. والمجتمع الدولي لم يصل بعد إلى فهم السبب الأساسي لتلك الجائحة، وكيف سيكون عليه الوضع في المستقبل القريب والبعيد. وبالرغم من التقدم المذهل في مجال التكنولوجيا الطبية يجب عدم الغرق في وهم بأن لدينا سيطرة بيولوجية كاملة على مصيرنا الجماعي، حيث يمكننا الآن التلاعب في الجهاز المناعي لمكافحة الأمراض، وتطوير علاجات وتشخيصات أكثر فعالية وبسرعة كاللقاحات والحمض النووي لبرمجة خلايانا الخاصة لتقديم البروتينات التي تنبه الجهاز المناعي إلى تطوير أجسام مضادة ضد مرض ما، مما يحول أجسامنا إلى مصانع لقاحات.
قد يوقع فيروس كورونا في حبائله ضحية غير متوقعة هي منطقة اليورو. وقد تقوم إيطاليا بدور كبير في هذا الشأن. فقد تعطل اقتصاد البلاد جراء الأزمة الصحية الهائلة، فكل متاجر البيع بالتجزئة والمطاعم وأماكن الترفيه الأخرى أُغلقت على امتداد البلاد، فيما عدا الضروري منها مثل متاجر بيع مواد البقالة والصيدليات. وهناك ملايين الإيطاليين لا يعملون حالياً. وهذه الإجراءات قد تضر بأي اقتصاد. لكن اقتصاد إيطاليا ضعيف أصلا، ومنذ عقود. فلم ينْم إنتاجها المحلي الإجمالي تقريباً على مدار عشرين عاماً الماضية. ومعدل البطالة فيها يبلغ 9.8% وهو أحد أعلى معدلات البطالة في أوروبا. والأسوأ من هذا أن إيطاليا من أكثر دول العالم ديوناً. فنسبة ديون الحكومة بلغت 138% من الناتج المحلي الإجمالي قبل وقوع أزمة كورونا.
ستضغط الأزمة الاقتصادية الإيطالية بشدة على اليورو. وإذا أضعفت الأزمة بنوك إيطاليا بدرجة ما، فسيضطر البنك المركزي الأوروبي لتنفيذ عملية إنقاذ كبيرة. والشروط التي فرضها البنك المركزي الأوروبي على اليونان (العضو الآخر بالاتحاد الأوروبي) بعد أن اقتربت من العجز عن السداد، توضح أن الإيطاليين سيواجهون أعواماً من الكساد والركود.
الحكومة الإيطالية الحالية ضعيفة للغاية والمعارضة التي طالما عارضت العضوية في منطقة اليورو قد تتولى السلطة قريباً، وقد لا تتردد في السعي إلى الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وإذا تركت إيطاليا اليورو فلن يمر وقت طويل حتى تنحسر منطقة اليورو في الدول الشمالية الأقوى، وربما تنهار تماماً. وكان من المفترض أن يقرب اليورو بين الدول، فتقوم الاقتصاديات الضعيفة، مثل إيطاليا، بتعديلات هيكلية لتصبح أكثر شبَهاَ باقتصاد ألمانيا، وتقوم الاقتصاديات الأقوى ببعض التضحيات لدعم الدول الضعيفة. لكن أزمة إيطاليا الاقتصادية تنقل رسائل تحذير واضحة بأن الانهيار المالي قادم. ولعل زعماء أوروبا لا يتجاهلون هذا.
من هنا ندرك كيف تعاملت الحكومات الغربية مع الفيروس القاتل مع بداية ظهوره، معتبرةً أنه شأن صيني شرقي كما كان شأن فيروسات سابقة مماثلة، أو كشأن فيروس إيبولا الأفريقي، قبل أن تكتشف أنها أصبحت مضطرة للرجوع إلى عصور الحجر والحصار والإغلاق القديمة.
في رواية "الطاعون" التي صدرت عام 1947، نقل الروائي الفرنسي "ألبير كامي" بعض مشاهد هذه التجربة المؤلمة من خلال الطاعون المتخيل الذي ضرب مدينة وهران الجزائرية في العهد الاستعماري الفرنسي. في الرواية المذكورة يتحدث "كامي" عن مفارقة هذا الوباء الغامض الذي بقدر ما يفرق بين الناس ويقطع أوصال عالمهم، يحملهم على التكتل والتضامن والإيثار، ويفسح لهم فرص الشجاعة والبطولة.
تعود أوروبا في عصر كورونا إلى هذه الأجواء وقد تجذرت المفارقة وتعمقت نتيجة لثورة الاتصالات السريعة والشبكات الاجتماعية المفتوحة. ففي الوقت الذي انهار الحاجز المكاني في التواصل وولدت حركية العولمة مجتمع "الشفافية المفتوحة"، يرجع شبح العزلة والانطواء وتصبح الدولة عاجزةً عن تحقيق خلفياتها المرجعية الحديثة، أي التأمين من الخوف والموت العنيف "حسب اصطلاحات مفكري الحداثة السياسية".
يلاحظ الفيلسوف السلوفيني "سلافوي جبجك" أن التقنيات الراهنة بقدر ما تجعلنا مستقلين عن الطبيعة، تعرّضنا من وجه آخر لأهواء الطبيعة ونزواتها، ومثال ذلك الفيروسات الجديدة المنتقلة من الحيوانات إلى الإنسان. بيد أن جبجك يلاحظ في الآن نفسه أن أزمة كورونا الحالية تجبرنا على العودة إلى "الأوقات الميتة" التي فقدنا الصلة بها، أي إلى زمنية التأمل والخلوة والانعزال التي اعتبرها الحكماء الأقدمون المسلك إلى تصفية النفس والعقل وتجديد تجارب العيش.
6
مع أن الأرقام تتبدل في اليوم الواحد، ورغم اشتداد وطأة العدوى واستفحال الأثر والنتيجة في البلدان التي انتشر فيها الوباء، فإن كل المعطيات تفيد بأن فيروس كورونا المستجد أقل فتكاً وخطراً من الأوبئة القاتلة التي تفتك بحياة الناس يومياً في أفريقيا وآسيا فضلاً عن ضحايا المجاعات والحروب الأهلية والكوارث الطبيعية والمناخية. ومن هنا يمكن القول إن الرهان الحقيقي في الأزمة الصحية العالمية الراهنة هو إدارة الخوف المنتشر على نطاق واسع كونياً، في مرحلة انتقل فيها الحراك الاحتجاجي في العديد من دول العالم من مستوى الغضب إلى مستوى الاهتياج حسب عبارة "جاك أتالي" الذي يرى أن هذا الاهتياج إذا لم يؤطره مشروع فكري أو أيديولوجي تحول إلى نزعة عدمية مدمرة.
عدّاد "منظمة الصحة العالمية" يؤشر إلى 250 ألف إصابة، وإلى أكثر من عشرة آلاف حالة وفاة، وإلى تسعة آلاف نجاة، لكننا في عالم مختلف من حيث تقدُّم العلوم والحضارة؛ لسنا في عام 430 قبل الميلاد، عندما قتل "طاعون أثينا" نحو مائة ألف شخص، ولا في زمن "الطاعون الأسود" عام 1350، عندما قتل ما سُمي "الموت العظيم" ثلث سكان القارة الأوروبية، وانتقل إلى آسيا والشرق الأدنى، ولا في زمن الإنفلونزا الإسبانية (H1N1) بعد الحرب العالمية، التي أصابت 500 مليون شخص، وقتلت ما بين 50 و100 مليون شخص، وهو ضعف عدد القتلى في الحرب العالمية الأولى.
مجرد فيروس صغير أوقف كل شيء؛ وضع كمامة على وجه الكرة الأرضية، أقفل الحدود بين دول العالم، لم يسبق لأي حرب عالمية أن فعلت ذلك، أوقف مطارات العالم، منع ما يقرب من نصف مليون راكب يومياً من التحرّك، وبعدما وضع خمسين مليوناً في العزل الصحي في يوهان الصينية، ها هو يرسل كل العالم إلى الحجر الصحي تقريباً. كنا نقول مفاخرة إننا بالعلم جعلنا العالم في حجم غرفة صغيرة، لكن ها هو وباء مجهول صغير يغزو الأرض ويضع كل الناس في العزل، ما الفرق بين العزل في البيت أو في الغرفة، والكهوف التي عاش فيها جدودنا رعباً من الوحوش. إن هذا الوحش الصغير، "كورونا"، يمكن أن يتسلَّل إلى داخل كل منا، وأن يكمن فيه كقنبلة موقوتة يمكنها تعميم الموت؟
مدير منظمة "الصحة العالمية"، تيدروس أدهانوم جيبرييسوس، وصف يوم الأربعاء الماضي، فيروس "كورونا" بأنه "عدو للبشرية"، لكنه يمنح أيضاً فرصة غير مسبوقة لكي نحتشد ضد عدوّ مشترك، عدو للبشرية، ولكن ملامح البشرية وبصماتها ليست تلك التي عرفتها الصين وميلانو تحديداً، فلقد رأيت كما رأى الجميع أفلاماً مروعة تماماً لأطباء صينيين وإيطاليين غارقين في دموعهم والأسى، لأنه كان عليهم في لحظات تفوق الاحتمال البشري، أن يلعبوا، وهم الأطباء، دور الجلاد واتخاذ قرارات الموت وحفاري القبور، عندما كان عليهم أن يقرروا مَن يُرسلون من المصابين الميؤوس منهم إلى حتفهم كي تتسع المستشفيات لمن يمكن أن ينجوا.
كنا نظن أن تعثر النظام العالمي، مضافة إليه مجموعة الصراعات الإقليمية، سيؤدي إلى حرب عالمية، فإذا بوباء، مجهول الهوية، يشن على العالم، شعوبا وحكاما وأنظمة، أول حرب كونية في القرن الحادي والعشرين. وها هو حصاد الأوبئة يضاهي حصاد الحروب. وكان من المفترض أن تدرك الدول مسبقا أن نوعية الاختراعات والأبحاث التي تعمل عليها، خاصة على صعيد البيئة والبيولوجيا والكيمياء. لكن هذه الدول احترست من الأوبئة المعروفة لا من الأوبئة الآتية.
أخطر ما سيتركه وباء كورونا هو الخوف من أن يتعرض العالم دوريا إلى أوبئة جديدة ويعجز التقدم العلمي عن استباقه. كشفت كورونا ضعف الآليات العالمية حيال الأمراض الوبائية، وبات تكوين شبكات أمان صحية يوازي شبكات الأمان العسكرية. الدول اليوم تعيد النظر في منظومة علاقاتها الدولية وتعود إلى نظام الاكتفاء الذاتي في موادها الأولية والإنتاجية حرصا على اقتصادها وتجارتها. وأمريكا، الدولة الكبرى وعرابة العولمة، لم تتصرف بمستوى دورها المنتظر تجاه الآخرين في مثل هذه الظروف. بدت أنانية وانعزالية، وبدلا من أن تواجه الوباء، استغلته لتواجه المجتمعات الأخرى، خاصة الصديقة والحليفة.
لم تكن العولمة بحاجة إلى وباء كورونا كي تترنح، فهي تتعرض إلى سلسلة نكسات: تراجع النمو، الاحتباس الحراري، تغير المناخ، التلوث السام، اندلاع الحروب الإقليمية، تفشي الإرهاب، انتشار الفقر، ازدياد الفوارق الاجتماعية، ارتفاع أعداد النازحين، اهتزاز الاتحاد الأوروبي، أزمة الديمقراطيات، وصراع أمريكا مع الصين وأوروبا وآسيا حول التبادل التجاري الحر. واللافت أن كورونا سلك في انتشاره خط سير العولمة وضرب نقاط قوتها الحساسة: المواصلات، السياحة، الصناعة، التجارة، الأسواق المالية، والطاقة النفطية.
من يراجع التاريخ يكتشف أن انتشار الأوبئة أسقط إمبراطوريات في العصور القديمة وأعاق العولمة في العصر الحديث: وباء الطاعون الذي عاد به الجيش الروماني من بلاد ما بين النهرين في القرن الثاني الميلادي حد من نفوذ روما وحضر سقوطها. والأنفلونزا الإسبانية قضت على براعم العولمة بعد الحرب العالمية الأولى. لكن العولمة ستواصل طريقها بحكم حركة التاريخ مع تعديل على قيادتها وتكوينها ورأسماليتها المتوحشة وسرعة امتدادها.
وأخيرا، فإن الدرس الأكبر في زمن الأوبئة هو بالضبط ما قاله ألبير كامي على لسان أحد أبطال رواية الطاعون: "ما نتعلمه في خضم الكوارث هو أن لدى البشر من الأشياء ما يستحق الإعجاب أكثر مما لديهم مما يثير الاشمئزاز".