ياسر بركات يكتب عن: قلق أوروبي وتهديدات من عواقب الاتفاق ..اتفاق التجارة الأولي بين أمريكا والصين
الأسد المجروح .. هل يشعل النار فى ثروات الدول الكبرى ؟
التزمت الصين، بزيادة وارداتها من البضائع الأمريكية بقيمة 200 مليار دولار على امتداد عامين، مقارنة مع وارداتها عام 2017. وبهذا الشكل وبعد 18 شهراً من المشاحنات والصراع الاقتصادي، قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونائب رئيس مجلس الدولي الصيني ليو هي، بتوقيع المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري والاقتصادي بين الجانبين في احتفال كبير بالغرفة الشرقية بالبيت الأبيض. وهو الاتفاق التاريخي الذي يتضمن، أيضًا، التزاماً رئيساً من الصين بالقيام بإصلاحات في عمليات شراء السلع والخدمات الأمريكية خلال السنوات القادمة، ويتضمن آلية لتسوية المنازعات وضمانات للتنفيذ الفوري والفعال للاتفاق.
قام ترامب بتوقيع الاتفاق مع ليو، حيث تغيب الرئيس الصيني شي جين بينج، عن حفل التوقيع. ووفقاً للبروتوكولات الدولية، عادةً يتم توقيع الاتفاقات التجارية من قِبل وزراء التجارة في كل دولة، وعندما يوقّع الرئيس على اتفاقية تجارية فإن البروتوكول المتّبع هو وجود الرؤساء الآخرين لتوقيع الاتفاق، وأشار مراقبون إلى أن غياب الرئيس الصيني يرسل رسالة مفادها أن الصينيين ينظرون إلى الاتفاقية على أنها "محدودة النطاق".
خلال كلمته التي استمرت لأكثر من ساعة، تفاخر الرئيس الأمريكي بأن الاتفاقية تفتح فصلاً جديداً من العلاقات بين واشنطن وبكين، وأن فترة "الاستسلام الاقتصادي" قد انتهت، وأنه "يتوجب على الأصدقاء في الصين القيام بخطوات للتغيير والإصلاح". فيما أعلن نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، أن "الاتفاق يحقق شعار أمريكا أولاً، ويمهد لبداية أكثر إشراقاً للأمريكيين والصينيين وللعالم". وقال ترامب: "اليوم نخطو خطوة مهمة لم يتم اتخاذها من قبل مع الصين"، مشيراً إلى أنه سيقوم بزيارة للصين في المستقبل غير البعيد. وأضاف: "سنبدأ على الفور التفاوض على المرحلة الثانية وأعتقد أنني قد أرغب في الانتظار حتى أنتهي من الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2020، لأنه من خلال ذلك يمكننا تحسين وضعنا بشكل أفضل وربما نحصل على صفقة أفضل بكثير".
ترامب يرى أن الاتفاقية بمثابة مكافأة وجائزة للمزارعين الأمريكيين الذين تضرروا بشدة خلال الحرب التجارية مع الصين، وقام البيت الأبيض بترويج الاتفاق باعتباره نصراً سياسياً وتجارياً كبيراً، وقام بتوجيه الدعوات لأكثر من 200 شخص لحفل التوقيع، وأقام مأدبة غداء رسمية في غرفة الطعام الحكومية على شرف الوفد الصيني الزائر.
تركز الاتفاقية على حماية الملكية الفكرية الأمريكية وإنهاء المحاولات الصينية للحصول على التكنولوجيا الأمريكية بطريقة غير شرعية، كما تضمن حماية مصالح المزارعين الأمريكيين وإزالة العوائق على الخدمات المالية الأمريكية، وإنهاء طرق الصين السابقة في التلاعب بالعملة لتحقيق منافع اقتصادية للمصدّرين الصينيين. وقد استبقت وزارة الخزانة الأمريكية توقيع الاتفاق بالإعلان عن خروج الصين من القائمة السوداء للمتلاعبين بالعملة. وشدد مسئولون بالبيت الأبيض على أن الاتفاق يعيد التوازن إلى العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ويحقق آلية فعالة لأي منازعات قد تنشأ في المستقبل. وتبني الاتفاقية على ثلاث مراحل، تتضمن التزامات من بكين بشراء ما قيمته 200 مليار دولار من المنتجات الأمريكية خلال العامين المقبلين، والتوقف عن سرقة الملكية الفكرية، والامتناع عن التلاعب في العملة.
وثائق الاتفاق، التي أصدرها البيت الأبيض ووزارة المالية الصينية، ذكرت أن الالتزامات تشمل مشتريات إضافية للصين من الطاقة الأمريكية بقيمة 54 مليار دولار، وزيادة قدرها 78 مليار دولار في مشتريات السلع المصنّعة، ومشتريات إضافية من المنتجات الزراعية بقيمة 32 مليار دولار، وزيادة مشتريات الخدمات بواقع 38 مليار دولار. وقال ليو إن الشركات الصينية ستشتري منتجات زراعية أمريكية بقيمة 40 مليار دولار سنوياً خلال العامين المقبلين "على أساس ظروف السوق" مما قد يفرض توقيت المشتريات في أي سنة محددة.
كانت الصين تمتنع عن الالتزام بشراء كميات محددة من السلع الزراعية الأمريكية، ووقعت عقوداً جديدة لشراء فول الصويا من البرازيل منذ اندلاع الحرب التجارية. وقال ليو لاحقاً إن الاتفاق لن يؤثر على "مصالح أطراف ثالثة"، في إشارة على ما يبدو إلى صفقات مع موردين آخرين للسلع الزراعية. وأضاف في تصريحات نقلها التلفزيون المركزي الصيني (سي سي تي في) أن الشركات الصينية ستستورد سلعاً زراعية أمريكية حسب حاجة المستهلكين والطلب والعرض في السوق.
بموجب اتفاقية المرحلة الأولى، (التي توصل إليها الجانبان في منتصف ديسمبر، فإن الإدارة الأمريكية تتخلى عن خططها لفرض تعريفة على 160 مليار دولار إضافية من الواردات الصينية وتخفض التعريفة الجمركية الحالية إلى 7.5% على الواردات الصينية التي تبلغ 110 مليارات دولار، في المقابل وافقت الصين على زيادة مشترياتها من المنتجات الأمريكية بشكل كبير، حيث ستشتري الصين ما قيمته 40 مليار دولار سنوياً من المنتجات الزراعية الأمريكية، وهو ما يعد زيادة كبيرة، حيث لم تستورد الصين أكثر مما قيمته 26 مليار دولار سنوياً من المنتجات الزراعية الأمريكية. وتستمر التعريفة الجمركية الأمريكية المطبقة على نحو 360 مليار دولار من الواردات الصينية.
كثير من المحللين أشاروا إلى أن الاتفاقية التجارية لم تحقق كل ما كان الجانب الأمريكي يصبو إليه، حيث تخفف الإدارة الأمريكية العقوبات على الصين فيما تكثف الصين مشترياتها من المنتجات الزراعية الأمريكية وغيرها من السلع. وينتقد المحللون والمراقبون أن المرحلة الأولى لا تذكر شيئاً حول إجبار الصين على إجراء إصلاحات اقتصادية كبيرة، مثل خفض المساعدات والإعانات الحكومية للشركات الصينية. وقد سعت إدارة ترامب حينما بدأت الحرب التجارية لفرض رسوم جمركية على الواردات الصينية في يوليو 2018، وطالبت بإجراءات صينية لخفض تلك المساعدات الحكومية التي تؤذي المنافسة مع الشركات الأمريكية، وانتقدت محاولات بكين وتكتيكاتها المستمرة في منافسة التفوق التكنولوجي الأمريكي، والقيام بمحاولات الحصول على تلك التكنولوجيات دون مراعاة الملكية الفكرية.
من الناحية العملية سيكون من المستحيل تقريباً إيقاف طموحات الصين في السعي لتكون الدولة الرائدة في التقنيات المتقدمة، مثل إنتاج السيارات من دون سائق وتطبيقات الذكاء الصناعي، إلا أن الاتفاق في حد ذاته يُنهي الصراع الذي أدى إلى تباطؤ النمو العالمي، وأضر بالمزارعين والصناع الأمريكيين وأثّر على الاقتصاد الصيني. وكان الديمقراطيون في الكونجرس قد انتقدوا الاتفاق، مشيرين إلى أنه لا يعالج بشكل حاسم المشكلات الأساسية للتوترات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين. وقال زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ السيناتور تشاك شومر، في رسالة مفتوحة للرئيس ترامب أرسلها يوم الاثنين، أن اتفاق المرحلة الأولى لا يحرز سوى تقدم ضئيل للغاية في إصلاح السلوكيات التجارية الصينية.
العجز التجاري الأمريكي مع الصين في تجارة السلع قد انخفض بنسبة 16%، أي نحو 62 مليار دولار خلال عام 2019، مقارنةً بالعام الذي سبقه. ويبلع العجز التجاري الأمريكي حالياً نحو 321 مليار دولار. وقد أدى قيام إدارة ترامب بزيادات في التعريفة الجمركية على الواردات الصينية لوضع عراقيل على الاقتصاد الصيني الذي كان قد شهد تباطؤاً بالفعل بلغ أدنى مستوياته منذ عدة عقود إلى 6%، بسبب حرب التعريفات الجمركية، ولم تحقق الصادرات الصينية لمختلف الدول سوى زيادة طفيفة للغاية بلغت 0.5%. وفي المقابل بلغ نمو الاقتصاد الأمريكي معدل 2.1% خلال الربع الثالث من عام 2019 متباطئاً من 3.1% في الربع الأول من نفس العام. ويتوقع الاقتصاديون تحركات إيجابية لمعدلات النمو على المدى القصير بعد إزالة المخاوف لدى المستهلكين وتقليل حالة عدم اليقين في الأسواق المالية.
الاتحاد الأوروبي الذي ينوي توقيع اتفاق مع بكين هذا العام حول حماية الاستثمارات، أعلن يوم الجمعة أنه سيقدم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية في حال ألحق الاتفاق الصيني-الأمريكي أضراراً بمصالحه. وقال سفير الاتحاد الأوروبي في الصين نيكولا شابوي إن "الأهداف الكمية (شراء الصين من البضائع الأمريكية) لا تتوافق مع منظمة التجارة العالمية في حال سببت اختلالات تجارية". وحذر شابوي، في مؤتمر صحفي في بكين، من أنه "إن حصل ذلك، سنتوجه لمنظمة التجارة العالمية لتسوية المسألة".
شابوي قال إنه تلقى دعوة وزارة الخارجية الصينية التي قدمت له "ضمانات رسمية بأن الشركات الأوروبية لن تتأثر بأي حال من الاتفاق" الصيني-الأمريكي. وقال ممثل بروكسل إنه تلقى أيضاً ضماناً بأن وعود بكين للولايات المتحدة في ما يتعلق باحترام الملكية الفكرية أو فتح قطاع الخدمات المالية ستتوسع لتشمل جميع شركاء الصين. وأضاف محذراً "مع ذلك، سنكون حذرين (...) لنرى إن كان يوجد تفضيل للأمريكيين على حساب الأوروبيين". وعند سؤاله عن الأمر، أكد وزير الخارجية الصيني أنّ الاتفاق مع واشنطن "مطابق لقواعد ومبادئ منظمة التجارة العالمية".
بين الـ200 مليار دولار، سيتم تخصيص مبلغ 80 مليار لشراء بضائع مصنّعة، خصوصاً من قطاع صناعة الطائرات. وهذا من شأنه أن ينذر شركة "إيرباص" الأوروبية لصناعات الطيران في مواجهة منافستها الأمريكية "بوينج". وقال شابوي "لن أتفاجأ من رؤية طلبات شراء موجهة إلى بوينج في المستقبل القريب"، ولاحظ أن المصنّع الأوروبي اكتسب أفضلية على المصنّع الأمريكي في السوق الصينية خلال الأعوام الأخيرة.
وأشار السفير إلى أنه، بناء على الاتفاق التجاري الصيني-الأمريكي، "لن تكون قرارات الشراء الصينية إدارية بل مستندة إلى السوق"، ووعد قائلاً "سنتحقق أيضاً إن كان الأمر كذلك".
بعد أن وقع الأمريكيون والصينيون اتفاقاً مرحلياً بعد حوالي عامين من الحرب التجارية، يسعى الأوروبيون من جهتهم إلى الوصول لاتفاق مع بكين حول الاستثمارات التي يتم التفاوض حولها منذ نحو سبعة أعوام. وهناك بعض المطالب المشابهة لمطالب الولايات المتحدة: احترام الملكية الفكرية، إنهاء نقل التكنولوجيا المفروض على الشركات الأجنبية وإنهاء الدعم للشركات الصينية الحكومية. وقال شابوي إن "النقاشات دخلت مرحلة حاسمة"، مذكراً أن بكين وبروكسل كانتا تطمحان لإنهاء المفاوضات قبل نهاية العام. وأكد السفير أن بكين قدمت في ديسمبر الماضي عرضاً حول الوصول إلى أسواقها. ومن المنتظر أن يكون مشروع الاتفاق على رأس المواضيع على هامش القمة الأوروبية-الصينية في بكين نهاية شهر مارس المقبل مع القادة الجدد للاتحاد. وأشار شابوي إلى أن "المحتوى أهم من الموعد النهائي"، مضيفاً "لن نبرم اتفاقاً إنْ لم تتطابق النتيجة مع توقعاتنا".
من المحتمل، نتيجة لهذا، أن تزداد حدة الانفصال الصيني الأمريكي بمرور الوقت، وهو أمر مؤكد بشكل خاص في قطاع التكنولوجيا. إن الولايات المتحدة تنظر إلى سعي الصين إلى تحقيق الاستقلال ثم التفوق في إنتاج التكنولوجيات المتطورة ــ بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والجيل الخامس من الاتصالات، والروبوتات، والأتمتة (التشغيل الآلي)، والتكنولوجيا الحيوية، والمركبات الذاتية القيادة ــ باعتباره تهديدا لاقتصادها وأمنها الوطني. وفي أعقاب إدراج شركة هواوي (الرائدة في مجال الجيل الخامس من الاتصالات) وغيرها من شركات التكنولوجيا الصينية على القائمة السوداء، ستواصل الولايات المتحدة محاولة احتواء نمو صناعة التكنولوجيا في الصين.
سوف تكون تدفقات البيانات والمعلومات عبر الحدود مقيدة أيضا، مما يثير المخاوف بشأن "انقسام شبكة الإنترنت" بين الولايات المتحدة والصين. ونظرا لزيادة التدقيق من جانب الولايات المتحدة، فإن الاستثمار المباشر الأجنبي الصيني في أمريكا انهار بنحو 80% بالفعل عن المستوى الذي بلغه في عام 2017. والآن تهدد مقترحات تشريعية جديدة بمنع صناديق التقاعد العامة في الولايات المتحدة من الاستثمار في الشركات الصينية، وتقييد استثمارات المشاريع الرأسمالية الصينية في الولايات المتحدة، وإجبار بعض الشركات الصينية على الخروج من أسواق البورصات الأمريكية بالكامل.
كما أصبحت الولايات المتحدة أكثر تشككا في الطلاب والباحثين الصينيين المقيمين في الولايات المتحدة الذين ربما يسمح لهم وضعهم بسرقة الدراية التكنولوجية الأمريكية أو الانخراط في عمليات تجسس صريحة. ومن جانبها، ستسعى الصين على نحو متزايد إلى التحايل على النظام المالي الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وحماية ذاتها من استخدام الدولار كسلاح من جانب أمريكا.