ياسر بركات يكتب عن: التاجر .. والجنرالات : كيف تعامل البنتاجون مع جنون ترامب؟
وزارة الدفاع أنقذت أمريكا من صراع عسكرى مع كوريا الجنوبية
الجنرال مارك ميلى رئيس الأركان يحكى كيف أقنع الرئيس بكارثة سحب 1000 جندى أمريكى من سوريا
بعد مرور أيام على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المفاجئ بسحب 1000 جندي أمريكي من سوريا، الشهر الماضي، رأى الجنرال مارك ميلي رئيس أركان الجيش ضرورة في إثنائه عن هذا القرار، متبعاً في ذلك نهجاً مختلفاً مع رئيس تتغير آراؤه بين الساعة والأخرى.
كانت الطريقة التي اتبعها ميلي هي سرد أسباب تخاطب خلفية ترامب التجارية، للحيلولة دون سحب القوات الأمريكية، والتراجع عما أصدره،. ومن أجل هذه المهمة، ذكر له الجنرال الأمريكي أن حقول النفط السورية إذا تُرِكت دون حماية، فقد تعود من جديد تحت سيطرة تنظيم "داعش"، أو إلى دول مناوئة لواشنطن، كإيران أو روسيا، وشدد في اقتراحه ببقاء القوات الأمريكية مع المقاتلين الأكراد السوريين المتحالفين، لحراسة النفط.
بعد هذه المحاولات، ظل في سوريا 800 جندي أمريكي لهذه المهمة، بفضل إقناع الجنرال العسكري لرئيسه الذي تخفف من قراراه السابق، كما أعلن في مؤتمر مشترك مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن أمريكا تركت قوات في سوريا فقط لتأمين النفط. وأضاف في المؤتمر المنعقد بالبيت الأبيض أن قسماً من جنوده المنتشرين في قرى تقع شمال شرقي سوريا قرب حقول النفط "ليسوا في طور الانسحاب".
هذه الواقعة تكشف أساليب "البنتاجون" في التعامل مع ترامب، بعد مرور ثلاث سنوات تقريباً على رئاسته أمريكا، حيث يستخدم الجنرالات طرقاً لإقناعه تتقاطع مع خلفيته ورؤيته للأمور، والتسلل لأفكاره عن طريق توظيف هجومه ضد إيران وكوريا الشمالية، وخسارة الحلفاء في سوريا في أسبابهم التي يحاولون من خلالها إثناءه عن قرارات يتخذها دون علمهم.
وسيلة أخرى يتبعها جنرالات "البنتاجون" في التعامل مع ترامب هي اتباع سياسة التدقيق في تعليقاتهم بدقة، حول بعض روايات ترامب لبعض الأحداث التي لا يتفقون معها، وذلك للتخوف من تفسير كلماتهم على أنها انتقاد خفي له. وهناك واقعة أخرى تُظهر نجاح "البنتاجون" في التحايل على قرار ترامب بوقف المناورات العسكرية بين أمريكا وكوريا الجنوبية، إذ نجح جنرالات الجيش في استمرار هذه المناورات على نطاق أصغر، وبعيد عن العلنية، بعدما شرح مسؤولو وزارة الدفاع له تبعات هذا القرار على الإضرار بالاستعداد العسكري لهم حال انتهى الأمر بالولايات المتحدة إلى الدخول في حرب مع كوريا الشمالية.
هكذا مضت العلاقة بين ترامب والبنتاجون على مدار الثلاث سنوات الماضية تتسم بالاضطراب والتأرجح في كثير من القضايا، لكنها لم تقطع التفاهمات دوماً، خصوصاً مع إدراك جنرالات الجيش الأمريكي الكيفية التي يتسللون بها إلى عقل رئيسهم عن طريق قضايا بعينها يخطبون وده فيها. إذ كان الرئيس ترامب أعلن في السادس من الشهر الماضي سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا على حدود تركيا، ما سمح للجيش التركي وفصائل موالية بشن عملية "نبع السلام" بين مدينتي تل أبيض ورأس العين شرق الفرات.
قوبل هذا القرار بحملة في المؤسسات والكونجرس في واشنطن واتهامات لترامب بـ"التخلي عن الأكراد". كما قامت دول أوروبية بحملة مماثلة لـ"حماية الأكراد" وسط جهود لوقف النار بعدما سيطرت تركيا على نحو 4 آلاف كلم مربع. ودعا وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان إلى اجتماع عاجل للتحالف الدولي ضد "داعش".
بحث مستشارو ترامب عن صيغة ترضي الأطراف المتناقضة في المعادلة: أولا، إرضاء ترامب الراغب بأن يعلن سياسيا "الانسحاب من الحروب غير المنتهية في الشرق الأوسط" بما يخدم حملته مع اقتراب الانتخابات نهاية العام المقبل. ثانياً، البقاء عسكريا لمواصلة الحرب ضد خلايا "داعش". ثالثا، عدم التخلي بشكل كامل عن "الحلفاء الأكراد". رابعا، الاحتفاظ بورقة تفاوضية مع دمشق وموسكو بما يخص العملية السياسية التي تعتبر اللجنة الدستورية بوابتها الحالية. خامساً، التمسك بورقة تفاوضية ضد تركيا التي "تنزلق" بعيداً من حلف شمال الأطلسي (ناتو) باتجاه "الحضن الروسي". سادساً، تلبية طلب بالإبقاء على قاعدة التنف لقطع خط الإمداد بين طهران ودمشق وبيروت وتوفير دعم استخباراتي لعمليات عسكرية غرب العراق وشرق سوريا.
لم يكن صعباً إقناع ترامب بالإبقاء على قاعدة التنف؛ ذلك أنه قبل بقاء قواته فيها حتى عندما أعلن الانسحاب في 6 الشهر الماضي، لكن العقدة كانت في تمرير بقاء القوات البرية، فجرى تقديم "مخرج" لترامب بأن البقاء يرمي إلى "حماية النفط كي لا يقع بأيدي (داعش) أو أيد غير أمينة". لكن هناك مشكلتين في هذا "المبرر": الأولى، لا يوفر الغطاء القانوني في واشنطن للوجود الأمريكي، ذلك أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما استند إلى قوانين ما بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 كي يبرر تشكيل التحالف الدولي ضد "داعش" وإرسال قوات لمحاربة هذا التنظيم الذي يعتبر امتداداً لـ"القاعدة".
قبل المؤتمر الصحفي لترامب مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، سئل مسؤول أمريكي رفيع: "بعض الحلفاء الأوروبيين، خاصة الفرنسيين، الذين طلبوا اجتماع التحالف الدولي، يتوقعون من الولايات المتحدة أن تعلن بوضوح أن قواتها في شمال شرقي سوريا ليست موجودة من أجل النفط فقط وأن هناك قوات كافية للقيام بمكافحة الإرهاب لتكون قادرة على مواصلة القتال ضد (داعش). هل أنتم مستعدون لمنحهم هذه الإجابات الواضحة؟".
أجاب المسؤول بأن القوات الأمريكية في شمال شرقي سوريا موجودة هناك بتفويض لمحاربة الإرهاب، وعلى وجه التحديد لضمان دحر دائم لـ(داعش). وهذه هي مهمتنا برمتها". أما المشكلة الثانية، فهي أن هذا "المبرر" لا يعطي غطاء كافياً لدول أوروبية كي ترسل قوات إضافية من دون موافقة المؤسسات التشريعية. حالياً القوات الخاصة موجودة ضمن تحالف دولي لقتال "داعش" وحماية الأمن القومي.
وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر قال إن 500 - 600 جندي سيبقون في سوريا، مضيفا: "الأمور تتغير. الأحداث على الأرض تتغير. يمكن أن نرى مثلا شركاء وحلفاء أوروبيين ينضمون إلينا. إذا انضموا إلينا على الأرض، فقد يسمح لنا ذلك بإعادة نشر مزيد من القوات هناك". وما يعقد القرار على الأوروبيين، إعلان الانطباع بـ"التخلي الأمريكي عن الأكراد" الذين يحظون بدعم في دول أوروبية، لصالح تركيا التي ساهم تعزيز علاقاتها مع روسيا في شق صف "حلف شمال الأطلسي". وكان "التخلي عن الحلفاء الأكراد" شرق الفرات ترك فراغا على الساحة السورية ملأته روسيا وتركيا، ما أثار غضب العديد من أعضاء الكونجرس من ديمقراطيين وجمهوريين على السواء ودول التحالف.
لا شك أن اجتماع التحالف الدولي ضد "داعش" بمشاركة 31 دولة في واشنطن، شكل اختباراً لقدرة الدبلوماسيين الأمريكيين على إعطاء تطمينات لحلفائهم كافية كي تساهم الدول الحليفة مالياً وعسكرياً شرق الفرات. لكن سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، اتهم الولايات المتحدة بالسعي لفصل مناطق في شرق الفرات عن سوريا، وإقامة "شبه دولة" عليها. وحمل الوزير الروسي بقوة، خلال مشاركته في منتدى السلام في باريس، واتهم واشنطن بعرقلة تحقيق تقدم لدفع التسوية السياسية في سوريا. وأعاد التشديد على اتهامات سابقة كانت موسكو وجهتها أكثر من مرة لواشنطن حول السعي لتقسيم سوريا. وأوضح أن "الولايات المتحدة تطلب من دول الخليج توظيف استثمارات كبيرة في منطقة شرق الفرات، لإقامة إدارة محلية عمادها (قوات سوريا الديمقراطية)، وقوات حماية الشعب الكردية، وأطراف أخرى".
لافروف أكد أن واشنطن "لا تخفي نيتها السيطرة على حقول النفط في تلك المناطق". وأشار إلى أن الولايات المتحدة تمنع، في الوقت ذاته، حلفاءها من الاستثمار في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا. وزاد، أنها تتعمد عرقلة الجهود المبذولة لعادة الاستقرار إلى هذا البلد. وقال: "نحن والحكومة السورية نعمل على دعوة جميع الأطراف إلى تهيئة الظروف لإعادة إعمار البنى التحتية وتسهيل عودة اللاجئين؛ ما يسهل عودة الحياة الطبيعية إلى سوريا".
في إشارة إلى أن "تخلي الولايات المتحدة عن التزاماتها" ليس جديداً، كشف الوزير الروسي عن جانب من تفاصيل الاتفاق التي كانت موسكو وواشنطن توصلتا إليه في عام 2013، وعُرف في حينها باتفاق "لافروف - كيري" (وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري). وقال لافروف، إن الطرفين اقتربا في ذلك الوقت من التوصل لتفاهم شامل بشأن سوريا كان يمكن أن يفضي إلى تسوية النزاع نهائياً، مضيفاً أن واشنطن فشلت في تنفيذ الشق المتعلق بها في الاتفاق الذي قام على ضرورة الفصل بين "إرهابيي (جبهة النصرة) والمعارضة السياسية الحقيقية".
أوضح لافروف أنه "قبل إطلاق صيغة آستانة في نهاية عام 2015، لم يكن هناك أي حوار بين الحكومة والمعارضة الحقيقية في سوريا؛ لأن المعارضة الوحيدة التي كان الغرب يعترف بها في ذلك الوقت تألفت من مهاجرين يعيشون في إسطنبول والرياض وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية". وأضاف: "قبل حدوث ذلك (إطلاق آستانة)، وفي عام 2013 بالتحديد، كنا قريبين جداً من التوصل إلى تفاهم كامل مع الولايات المتحدة حول كيفية حل النزاع السوري. كان الاتفاق الذي أعددناه مع جون كيري وقبلت به الحكومة السورية يقضي بألا يتم استخدام القوات الجوية السورية في الحرب أبداً، وألا تطير مقاتلاتها على الإطلاق، وأنه ينبغي تنسيق أي عمليات من قبل القوات الجوية الأمريكية والقوات الجوية الروسية، وبعبارة أخرى، كان التفاهم يقضي بأن يكون لروسيا والولايات المتحدة حق الفيتو على تحركات وعمليات بعضنا بعضاً في سوريا. وكان الشرط الوحيد لدخول الاتفاق حيز التنفيذ هو قيام الولايات المتحدة بالفصل بين المعارضة السياسية وإرهابيي (النصرة)، لكنهم لم يفعلوا ذلك ولن يفعلوا ذلك أبداً".
سكرتير مجلس الأمن الروسي، نيكولاي باتروشيف، أعلن أن واشنطن قامت بتجربة لاستخدام سياسات الحرب الهجينة في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا. وزاد، أن عمليات إطاحة الأنظمة وإطلاق حال الفوضى في أكثر من منطقة أسفر عن تداعيات خطرة وعزز انتشار الإرهاب. وأوضح في مقالة نشرتها صحيفة "روسيسكايا جازيتا" الحكومية، أن موسكو سوف تواصل نهج مواجهة تداعيات ومخاطر التهديدات الإرهابية،
وفي إشارة لافتة قال باتروشيف: إن "مواجهة الخطر الإرهابي في المناطق البعيدة عن الحدود الروسية ستكون واحدة من أهم الأولويات في المجال الأمني لروسيا"، مؤكدا أن "روسيا ستعمل على تعزيز المعركة التي لا هوادة فيها ضد التهديد الإرهابي العالمي، ليس فقط داخل روسيا وعلى طول حدودها، لكن في المناطق البعيدة أيضاً".