الموجز
الخميس 21 نوفمبر 2024 10:46 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن: صفر! .. الشعب اللبنانى.. الأبقى

الحريرى.. جعجع.. عون ..نصر الله:
تسود فى لبنان حالة من الترقب، على وقع التصريحات والمواقف السياسية التى كان آخرها كلام رئيس الجمهورية ميشال عون، وإشارته إلى ضرورة إعادة النظر بالواقع الحكومى الحالى. رئيس الحكومة سعد الحريرى قام يوم الجمعة بزيارة مفاجئة إلى القصر الرئاسى فى بعبدا، ثم خرج من دون الإدلاء بأى تصريح.
استمرت المواقف السياسية الداعمة للاحتجاجات والداعية إلى إيجاد حل سريع، مع إبداء البعض تخوفهم من أن يحاول "حزب الله" وبعض أحزاب السلطة إلى التدخل على خط التحركات لإنهاء المظاهرات. وكان مشهد أصحاب "القمصان السود" الذين هاجموا المتظاهرين فى ساحة رياض الصلح، بوسط بيروت هو الأبرز على وقع المعلومات التى تبثها جهات من أن هناك قراراً بـ"إنهاء المظاهرات".
قبل نحو ساعة من كلمة أمين عام "حزب الله" حسن نصر الله التى ألقاها، الجمعة، اقتحمت عشرات العناصر ساحة رياض الصلح رافعين شعارات مؤيدة لـ"حزب الله"، وافتعلوا إشكالاً مع المتظاهرين. وعلى الأثر، تدخلت قوة من مكافحة الشغب لفض الإشكال وشكلت جداراً بشرياً عازلاً بين مناصرى الحزب والمتظاهرين. وأعلن عن سقوط جريحين من القوى الأمنية واثنين من المتظاهرين.
قوة من مكافحة الشغب كانت قد وصلت ظهراً إلى ساحتى رياض الصلح والشهداء وأقفلت المداخل المؤدية إليهما لمنع دخول المشاغبين إلى مكان الاعتصام. وتم استقدام عوارض حديدية لوضعها عند مداخل موقع الاعتصام.
ومع انطلاق كلمة نصر الله، شهدت ساحة رياض الصلح، بحسب "الوكالة الوطنية للإعلام"، انقساماً بين المتظاهرين، حيث أطلق فريق شعارات "سلمية سلمية"، منادياً بـ"إسقاط النظام"، فيما أخذ القسم الآخر يستمع إلى كلمة الأمين العام لـ"حزب الله". وكانت قوات مكافحة الشغب تقوم بمهمة الفصل فيما بينهما.
وحتى بعد انتهاء نصر الله من كلمته، لم يتبدل المشهد كثيراً، إذ عاود مؤيدو نصر الله هجومهم وسادت حالة من الكر والفر بينهم وبين القوى الأمنية التى نجحت فى الحسم وإخراج المعتدين من محيط ساحتى تجمع المعتصمين.
وفى الوقت عينه، سجلت مسيرات سيّارة تحمل رايات "حزب الله" فى الضاحية الجنوبية لبيروت وعدد من المناطق، منها صور والنبطية والبقاع والهرمل. وأعلن المشاركون فى هذه المسيرات دعمهم لنصر الله، فيما كانت دوريات موالية للجيش تنتشر على الطرقات كافة.
مشاركون فى هذه المسيرات أكدوا أن تحركهم مؤيد لخطاب "حزب الله والمقاومة، ويقف إلى جانب المطالب الشعبية التى يرفعها الحراك، مع المطالبة بتصحيح بوصلة مسار الحراك المطلبى المحق، وللتأكيد على ضرورة فتح كل الطرقات التى تقطع أوصال الوطن وتمنع التواصل بين المناطق اللبنانية، وإتاحة الفرصة لمزاولة المواطنين أعمالهم وفتح المدارس اعتباراً من يوم السبت.
فى كلمته عبر شاشة "المنار"، قال نصر الله: "وطننا اليوم يمر بأوضاع حساسة ودقيقة، وهذا يتطلب التكلم بمسئولية". وتطرق إلى الخطاب الذى كان قد ألقاه يوم السبت، حول الحراك الشعبى، وفقاً لما سماه "حراكاً عابراً للطوائف والمناطق، وليس خاضعاً لأى حزب أو سفارة"، معرباً عن احترامه للناس الذين "نزلوا إلى الشارع"، لكنه أضاف: "كنت قد قلت إن (حزب الله) يشارك فى الحراك كى لا يأخذ هذا الحراك بعداً آخر، تتداخل فيه صراعات أخرى. وإذا نزل (حزب الله)، فلن يخرج قبل تحقيق أهدافه". وعد نصر الله، فى كلمته، أيضاً أن "البعض يحضر لحرب أهلية"، محذراً من أن "الفراغ فى لبنان قد يؤدى إلى فوضى وانهيار... ومن مسئولية (حزب الله) حماية لبنان فى الداخل أيضاً"، بحسب ما أوردته قناة "العربية" نقلاً عنه.
تحدث أمين عام "حزب الله" عن إيجابيات فى الحراك الشعبى، قائلاً: "للإنصاف، يجب توظيف ما حصل لمصلحة البلد كله"، مطالباً الجميع بـ"الحفاظ على الإيجابيات التى تحققت حتى الآن، ومنها أنها فرضت على الحكومة ميزانية خالية من الضرائب والعجز، وهذا يحصل للمرة الأولى". ونوه بفرض الحراك على الحكومة "ألا تفرض ضرائب، ما ترك أثره لدى الناس كما أنه تحت ضغط الحراك الشعبى، صدرت ورقة الإصلاحات التى تلاها رئيس الحكومة، وتضمنت خطوة أولى متقدمة جداً"، ورأى أن "تسخيفها فيه نوع من الشبهة"، لافتاً إلى أنها "قرارات لها جداول زمنية للتنفيذ"، متوقفاً أمام "قرار استرداد المال المنهوب". وأضاف: "كـ(حزب الله)، أقول، بالتعاون مع القوى الجادة، إن هذه الورقة الإصلاحية هى للتنفيذ، ولن نسمح بعدم تنفيذها، وأهمها مشروع استعادة الأموال المنهوبة، وإنجاز مشاريع قوانين لها علاقة بمكافحة الفساد"، وتابع أن "الحكومة مصممة على أن تبذل جهداً كبيراً لتنفيذ وعودها"، مشيداً بـ"نزاهة الانتخابات النيابية الماضية".
خلال كلمة نصر الله سأل عن داعمى الحراك، وقال "معلوماتنا ومعطياتنا تفيد بأن الوضع خطير، ولم يعد حراكاً شعبياً بل هناك تدخل من سفارات أجنبية. وعلى اللبنانيين التحقق مما طرأ مؤخراً على الحراك، عكس ما كان عليه فى بداياته، وأن يتنبهوا مما يخطط للبنان كما حصل لبلدان أخرى". ودعا الناس الى "ألا يصدقوا ما تقوله السفارات لأن المطلوب التحقق من أفعالهم وليس من أقوالهم".
هذا الخطاب ليس جديدا على اللبنانيين، إذ منذ عام 2005 بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق، كل حركة سياسية أو شبابية أو بيئية أو مطلبية لا تعجب الحزب وتتنافى مع مخططه، من الطبيعى أن تكون تابعة للخارج. ومن الأمثلة على ذلك، التسمية التى تطلق على المعارضين الشيعة لسياسة الحزب "شيعة السفارات". ولوحظ ان نصرالله فى إطلالته ظهر وراءه العلم اللبنانى دون علم حزب الله. وانقسم الرأى حول هذه الملاحظة إذ اعتبر بعض المتظاهرين انها محاولة منه ليعطى "طابعاً لبنانياً" لمواقفه، وهو المتهم دائما بالتماهى مع إيران. بينما البعض الآخر عدّه دليلاً على انه "الحاكم فى لبنان"، وهو بكلامه وضع خريطة الطريق لرئيسى الجمهورية والحكومة، والحدود التى عليهما ألا يتجاوزاها.
اللهجة التصعيدية التى ظهرت فى خطاب نصر الله، تظهر أن الحزب أمام خيارين لا ثالث لهما: التخويف أو الترهيب، والنزول إلى الشارع للتظاهر. الخيار الأول أسقطته مدينة النبطية، حين نزل الناس بالآلاف بعد الاعتداء على المتظاهرين، واستمرار الحراك الشعبى فى المدينة بزخم لليوم التاسع على التوالى. يدرك الحزب جيداً أن لغة الترهيب والمنع لم تعد تجدى نفعاً مع فئة لا بأس بها من "سكان الجنوب". أما الخيار الثانى فهو التظاهر فى الساحات، لكن بشعارات الحزب وأفكاره، وقد ينتج من الخيار الثانى المواجهة مع المتظاهرين التى قد تؤدى إلى الدم لا سمح الله. والترجمة الفعلية للخيار الثانى بدأت فى رياض الصلح، حين هتف المؤيدون ضد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
للأخير حصة كبيرة من الشعارات المنددة، خصوصاً بعد الحصار المالى على الحزب والعقوبات الأمريكية التى طالت مموليه. وفى المقابل، لا تشكيك فى صحة كلام نصر الله أن الموجودين فى الساحات والمؤيدين له ليسوا حزبيين، ومن المعروف مدى التزام عناصر الحزب بتعليمات قيادييه. لكن فى الوقت ذاته، ثمة ثقة عمياء لدى هذه القيادة، بمدى ولاء مناصريها ومؤيديها، إذ يعتبرون الأمين العام من "المقدسات" التى يجب ألا تمس، والأمثلة كثيرة على ذلك فى لبنان ومنها ما حصل مع الكاتب الساخر شربل خليل منذ سنوات، حين قلد شخصية حسن نصر الله فى برنامجه التلفزيونى "بس مات وطن"، ما تسبب بغضب مناصريه الذين عمدوا إلى قطع الطرقات وإحراق الإطارات فى عدد من المناطق.
من هذا المنطلق يعوّل الحزب على إنهاء الحراك الذى أشاد به نصرالله وانتقده فى الوقت ذاته، عبر مناصريه الذين لن يسكتوا عن تعرضه للشتم أو الانتقاد. وفى سياق متصل حذر نصر الله، من أن الاحتجاجات التى تجتاح أنحاء لبنان، "قد تدفع البلاد نحو الفوضى والانهيار، رافضاً الدعوات إلى استقالة الحكومة ورئيس الجمهورية وإجراء انتخابات نيابية مبكرة". وأشاد نصر الله بالاحتجاجات التى أدت إلى إعلان الحكومة إصلاحات اقتصادية "غير مسبوقة" فى الأسبوع الحالى، لكنه قال إنه يجب البحث عن حلول للمضى قدماً، وفى الوقت نفسه تجنُّب فراغ خطير فى السلطة. وفى ختام الخطاب، دعا مؤيدى "حزب الله" إلى الانسحاب من ساحات التظاهر.
لم تتمكن الطبقة السياسية التقليدية الحاكمة، بعد اتفاق الطائف، من الوصول إلى لبنان جديد يستفيد من درس السبعينيات القاسى، الذى أدخل الشعب اللبنانى فى حرب طاحنة دمرت البلد، وهجّرت نصف الشعب. وما أخشاه لاحقاً أن يكرر السوريون هذا الخطأ فلا يستفيدون من الدرس السورى الراهن بعد انتهاء مأساتهم، وأن تستمر الأسباب التى أدت إلى المأساة الكبرى قادرة على بدء مأساة جديدة.
لقد كان ارتهان القرار اللبنانى للخارج سبباً فى إبقاء الصاعق الكامن قيد الانفجار، وهذا الصاعق هو الطائفية السياسية التى أنهكت لبنان، وهى الداء البغيض الذى يهدد سوريا أيضاً، وقادة العالم يعرفون جيداً أن الصراعات الطائفية هى مكمن الضعف فى الوطن العربى، ولهذا جاء التوصيف الأول للحكم المنشود حلاً للقضية السورية من الأمم المتحدة، هو قيام حكم غير طائفى.
هذه الوصفة التى يعرف الجميع أنها العلاج لكل القضايا التى تقود إلى الانهيار هى ما يحتاجه لبنان، وهى ما ينادى به الشعب اللبنانى اليوم فى تظاهراته الوطنية التى ملأت الساحات فى كل مناطق لبنان وشاركت فيها كل أطيافه. إنها لحظة تاريخية مهمة ينبغى أن يفيد منها القادة السياسيون الوطنيون الذين ينبغى أن يظهروا من قاع الشعب ومن هدير شعاراته الوطنية، للتخلص النهائى من هذا المرض التاريخى.
لا يزال غياب القيادة السياسية للحراك الشعبى مسألة محيّرة لقوى السلطة، لكن وجود قيادة للثورة سيف ذو حدّين؛ لأن تكوين قيادة لهذه الثورة فى المرحلة الراهنة، يعنى أن السلطة ستجرّها إلى الحوار ومحاورتها من موقع الضعف. بينما قوّة الثورة تتجلّى فى عدم مركزيتها، وتشكيل حلقة بشرية من طرابلس (شمال لبنان) إلى مدينة صور (جنوب لبنان)، وهذا ما يعطيها حرية مطلقة ويحرّرها من كلّ الالتزامات.
من يقرأ أرقام وبيانات التحويلات من الخارج إلى لبنان، وأرقام السياح، على مر السنوات القليلة الماضية سوف يرى أن تلك الأرقام تتراجع بشدة، وهى عمود الاقتصاد اللبنانى، كما هى تمره ولبنه، لأن بقية القطاعات إما مستندة وإما متداخلة فى تكوينها.
العالم كله يقول للحكومة اللبنانية إن وجود ذلك السلاح يأخذ الدولة والمجتمع إلى مكان هو أقرب إلى "الأسر" ويغامر بحياة كل اللبنانيين، وليس بعضهم فقط، إن أضفنا إلى ذلك أن هذه المجموعة المسلحة والعقائدية ترسل محازيبها إلى كل مكان فى العالم فيه صراع، إلى اليمن، وإلى سوريا، وإلى مناطق بعيدة، وكأنها مفوضة باستباحة دماء اللبنانيين الفقراء لتحرير العالم!
ليس من الواضح إلى أين تتجه الأمور، وخصوصاً بعد رفض المتظاهرين وعود عون والحريرى، والاستمرار فى إعلان الثورة، والدعوة إلى تشكيل حكومة من الاختصاصيين غير الحزبيين، تتولى التمهيد لإعادة تشكيل السلطة، لكن بالعودة إلى ما أفرزته المظاهرات العارمة المستمرة فى لبنان، يمكن فعلاً الحديث عن مجموعة من الأوهام التى سقطت.