ياسر بركات يكتب عن: ماذا حدث فى تونس؟
التفاصيل الكاملة لأحداث اللحظات الأخيرة قبل تتويج الرئيس
الدور الخفى لبقايا حزب النهضة وعناصر جماعة الإخوان الإرهابية
القروى
قصة السجين الذى اقترب من مقعد الرئيس!
كان متوقعاً أن تجرى الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التونسية يوم 27 سبتمبر الجارى بعد اعتراف كل المرشحين بالنتائج، إلا أن الموعد سيتغيّر بعد أن تقدم ستة مرشحين بطعون فيها إلى المحكمة الإدارية. وبالتالى، فى حال اكتفاء المعترضين الستة على نتائج الجولة الأولى من الطعن لدى القضاء قد تنظم الجولة الثانية الحاسمة يوم 6 أكتوبر القادم، أما إذا طعنوا فى القرار فسيتم تأجيل الجولة الثانية إلى 13 أكتوبر، أو إلى تاريخ لاحق.
ما حدث هو أنه بعدما رحّب معظم المرشحين والزعماء السياسيين بالنتائج الأولية وتقدّموا بتهنئة إلى الفائزين بالمرتبتين الأولى والثانية قيس سعيّد ونبيل القروى، وقعت مفاجأة فى الساعات الأخيرة من موعد قبول الطعون مساء الخميس 19 سبتمبر. إذ قدّم ستة مرشحين ملفات طعن رسمية إلى المحكمة الإدارية، بينهم يوسف الشاهد رئيس الحكومة ورئيس حزب "تحيا تونس"، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدى الحاصل على المرتبة الرابعة وفق النتائج الأولوية التى أعلنت عنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الثلاثاء الماضى.
بعض المتقدمين بالطعن، وبينهم الزبيدى، يريدون إعادة النظر فى ترتيب الفائزين بالمركزين الثانى والثالث، أى نبيل القروى وعبد الفتاح مورو، بعد اتهام الاثنين بتجاوز النفقات المالية المسموح بها فى الحملة الانتخابية. ويرهنون على أنه فى حال، إسقاط القروى ومورو، ستكون الجولة الثانية بين سعيّد والزبيدى وزير الدفاع الذى قد يكون قادراً على الفوز لأن تياراً عريضاً من أنصار سعيّد ومن رموز المنظومة القديمة قد يدعمونه، لكنهم لا يمكن أن يدعموا القروى الذى تبدو فرصته ضعيفة بسبب وجوده فى السجن وبسبب القضايا الكثيرة المقامة ضده.
الذين طعنوا فى النتائج اعتمدوا على تقارير الهيئة العليا للإعلام السمعى البصرى التى سلطت الضوء على أخطاء تم رصدها على القناتين التلفزيونيتين "نسمة" المملوكة للقروى و"الزيتونة" التابعة لحركة النهضة. ومن بين من تقدّموا بالطعن ناجى جلول، الأمين العام السابق لحزب "نداء تونس" الذى حصل على أقل من واحد فى المائة من الأصوات، ورجل الأعمال فى المنفى سليم الرياحى، ورجل الأعمال الشاب المنشق عن "حركة النهضة" حاتم بولوبيار، والاثنان من بين 14 مرشحاً لم يحصلوا على 5% من الأصوات.
هناك أيضا طعون قدمها المحامى سيف الدين مخلوف الذى فاز بنحو 5% من الأصوات، متقدما على رئيس الحكومة الأسبق حمادى الجبالى ورئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقى. ولم يكن أكثر المتشائمين من الأوساط المقربة من يوسف الشاهد، المرشح الرئاسى لحزب "تحيا تونس"، يتوقع سقوطه المدوى وخروجه من حلبة السباق مبكرا، فى مسار يرى محللون أنه كان نتيجة آلية لتعامل الناخب معه بصفته الحكومية وليست الحزبية.
تنافس فى هذه الانتخابات الرئاسية عدد مفاجئ من المرشحين يبلغ 26 مرشحاً، بينهم امرأتان. ومن اللافت للنظر أن المجموعة الأولية ضمّت رجلاً يُجاهر بمثليته على الرغم من أن المثلية الجنسية لا تزال تُعتبر جريمة فى تونس، ولكن تم رفض ترشيحه فى النهاية. كما كان هناك أربعة مرشحين هم فى المقدمة:
يوسف الشاهد: مهندس زراعى يبلغ من العمر 43 عاماً ويشغل منصب رئاسة الوزراء منذ عام 2016، وقد طُرد من حزب "نداء تونس" العلمانى برئاسة السبسى العام الماضى. وكان الدافع وراء هذه الخطوة هو خلافاته الشديدة مع الرئيس بشأن تقاسمهما السلطة، واعتراضاته على مناورات حافظ، نجل السبسى للسيطرة على الحزب. ومؤخراً، شكّل الشاهد حزباً جديداً باسم "تحيا تونس"، الذى شددت حملته على احتياجات الشباب. ومع ذلك، يواجه صعوبة فى إقناع الجماهير الأوسع من الشعب بأنه من يجب أن يشغل قصر قرطاج الرئاسى. وفى حين تم الإشادة على نطاق واسع بسياساته لمكافحة الفساد، فإن التدابير التقشفية التى أشرف عليها بعد حصول تونس على قرض من "صندوق النقد الدولى" تبلغ قيمته 2.8 مليار دولار فى عام 2016 لم تكسبه محبة الشعب الذى يكافح تباينات الدخل المترسّخة، ومعدل تضخم يبلغ ضعفى المستويات التى كانت سائدة قبل عام 2011، ومعدل البطالة الذى يناهز 15 فى المائة على الصعيد الوطنى و35 فى المائة بين الشباب.
عبد الفتاح مورو: محام شارك فى تأسيس حزب "النهضة"، الحركة الإسلامية الرئيسية فى البلاد، ويشغل حالياً منصب نائب رئيس الحزب. وانتُخب نائباً فى البرلمان فى عام 2014، وأصبح لاحقاً نائب رئيس المجلس. ويمثل ترشح مورو البالغ من العمر 71 عاماً تطوراً ملحوظاً بالنسبة لحزب "النهضة" الذى امتنع فى السابق عن تقديم أى مرشحين للرئاسة خوفاً من إثارة رد الفعل العنيف نفسه الذى قضى على الجماعة الأم الأساسية، أى "الإخوان المسلمين"، فى مصر وبلدان أخرى. وفى المقابل، فضّل حزب "النهضة" أن يحكم فى إطار تحالف مع أحزاب علمانية مثل "نداء تونس" وأن يحدّ من توجهه الإسلامى، ما عزّز بالتالى هيمنته فى البرلمان. وفى عام 2016، أعلن الحزب أنه سيحد من أنشطته الدينية ويكرّس نفسه بالكامل للسياسة، مغيراً شعار "الإسلام السياسى" بـ"الديمقراطية المسلمة". وعندما أعلن حزب "النهضة" فى فصل الصيف الراهن أنه سيقدّم مرشحاً للرئاسة وسيرشح زعيمه راشد الغنوشى لخوض الانتخابات البرلمانية، بدا واثقاً من أن استراتيجية التحفظ قد رسّخت بما يكفى مكانة الحزب فى المشهد السياسى التونسى. ورغم أن هذه الحسابات قد لا تزال مجرد رهان، فإن استعداد مورو فى الماضى لانتقاد الحزب، وعلاقاته الإيجابية المزعومة مع مختلف المشرعين فى المشهد السياسى تجعل منه خياراً آمناً نسبياً.
نبيل القروى: مؤسس "قناة نسمة"، إحدى المحطات الرائدة فى تونس، يقبع حالياً فى السجن بتهم تبييض الأموال والتهرب الضريبى. وأصبح القروى البالغ من العمر 56 عاماً شخصية معروفة فى السنوات الأخيرة بفضل ظهوره الإعلامى المتكرر وعمله الخيرى. وكان عضواً سابقاً فى فصيل السبسى، وأسس حزب "قلب تونس" وشنّ حملات تتعلق بمواضيع شعبية على نطاق واسع، مدافعاً عن حقوق الفقراء ومنتقداً نقص الخدمات الحكومية. وحصد خلال الاستطلاعات نسبة تخطت 20 فى المائة عندما اعتقل فى أواخر أغسطس، ما أثار اتهامات بأن خصومه كانوا يسعون إلى التخلص منه (ظهرت الادعاءات ضده للمرة الأولى فى عام 2017 بعد تحقيق أجرته منظمة غير حكومية محلية بارزة لمكافحة الفساد تُدعى "I Watch"). ويسمح القانون التونسى للأفراد المتهمين بارتكاب نشاط إجرامى بالترشح للانتخابات طالما لم تتم إدانتهم، لذا فى حين لم يتمكن القروى من المشاركة فى المناظرات، إلّا أن اسمه لا يزال مسجلاً فى اللوائح الانتخابية.
عبد الكريم الزبيدى: طبيب يبلغ من العمر 64 عاماً ويُعتبر إلى حدّ كبير تكنوقراطياً لم يتأثر على ما يبدو بارتباطه الطويل الأمد بنظام بن على. وشغل حتى وقت قريب منصب وزير الدفاع ثم استقال ليترشح للرئاسة، فحافظ على مكانته الدائمة كمستقل وسلّط الضوء فى الوقت نفسه على خبرته فى المجال الأمنى. وشهدت تونس تحسينات ملحوظة فى قدراتها على مكافحة الإرهاب منذ تعرّضها لسلسلة الاعتداءات التى أسفرت عن عدد كبير من الضحايا فى عام 2015 ومحاولة تمرد نفذها تنظيم "الدولة الإسلامية" بعد عام. ومع ذلك، كانت سلسلة التفجيرات الانتحارية التى وقعت هذا الصيف بمنزلة تذكير بأن البلاد لا تزال هشة، لذا فإن ارتباط الزبيدى بالقوات المسلحة التى تحظى بشعبية كبيرة قد يصبّ فى مصلحته.
سقوط الشاهد يعود إلى عدة أسباب، أبرزها محصلة حكومته على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى، والتجاذبات داخل حزبه وتذبذبه السياسى. بالإضافة إلى نفور الناخبين من الأحزاب والمنظومة الحاكمة بشكل عام، يضاف إليه "الصدمة" والاستياء الشعبى الذى خلفه توقيف رجل الأعمال والمرشح الرئاسى نبيل القروى قبل أسابيع قليلة من الاقتراع.
من أهم الأسباب التى أطاحت بالشاهد، المحصلة الهزيلة لحكومته التى يقودها منذ 27 أغسطس 2016، على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى. ففى الأشهر الثمانية الأولى من 2018، ارتفع العجز التجارى لتونس (الفرق بين الصادرات والواردات) 5.7% على أساس سنوى، وفق أرقام رسمية صادرة عن المعهد التونسى للإحصاء (حكومي). وبذلك، يرتفع العجز التجارى إلى نحو 12.864 مليار دينار (4.497 مليار دولار) فى الفترة بين يناير- أغسطس من العام الجارى، مقارنة بـ12.160 مليار دينار (4.251 مليار دولار) بالفترة نفسها من 2018.
عجز تجارى رافقته قرارات حكومية متواترة، بزيادة أسعار البنزين وبعض السلع الأساسية، والترفيع فى الضرائب على السيارات والاتصالات الهاتفية والإنترنت والإقامة فى الفنادق وبعض المواد الأخرى، فى إطار إجراءات تقشف اتفقت عليها الحكومة مع المانحين الأجانب، لكنها فاقمت، فى الجانب الآخر، من معاناة التونسيين. وتقشف أصاب الطبقة الوسطى والفقيرة بالإحباط، خصوصا فى ظل ارتفاع معدل التضخم (أسعار المستهلك)، الذى بلغ فى أغسطس الماضى 6.7%، مقابل 6.5% فى يوليو السابق له، بحسب بيانات رسمية.
تقشف واحتقان شعبى تضاف إليه ملفات عالقة متوارثة عن نظام ما قبل ثورة 2011، كان لابد أن يقود نحو إشكالات هيكلية حادة تعصف بالاقتصاد، وتدفع بمؤشراته الكلية نحو الهبوط، وسط ضغوطات متزايدة من المقرضين الدوليين لفرض إصلاحات لخفض العجز فى الميزانية وإصلاح المالية العمومية.
تشتت أصوات الناخبين وتوزعها أدى إلى أن يحصل الفائز الأول على أقل من 20% من الأصوات، وأن يجيل أربعة مرشحين فقط على أكثر من 10% من الأصوات, و19 مُرشحا حصلوا على أقل من 5% من الأصوات كان من بينهم: منصف المرزوقى الذى تولى رئاسة الجمهورية خلال الفترة 2011-2014, والمهدى جمعة الذى تولى منصب رئيس الوزراء عامى 2014-2015. ما يعنى أن الناخب التونسى أعطى صوته لمُرشحين من خارج "الطبقة السياسية" أو "النخبة الحاكمة" التى مارست العمل السياسى وتصدرت المشهد العام بعد 2010، لم يُعط الناخب التونسى صوته لشخصيات عامة أكثر شُهرة شغلت مناصب عُليا فى تونس مثل: رئاسة الجمهورية, ورئاسة الوزراء, وكرسى الوزارة, وفضل عليهم أستاذا جامعيا "قيس سعيد" فى مجال القانون الدستورى الذى قام بالتدريس فى جامعة سوسة, ورجُل أعمال "نبيل القروى" وهو صاحب محطة تلفزيون نسمة, ومُحتجز على ذمة التحقيق فى قضايا مالية.
لا يمكن قراءة ذلك بمعزل عن المؤشرات الاقتصادية العديدة التى تنذر باتجاه تونس نحو أزمة غير مسبوقة، وبإمكانية انزلاقها نحو إفلاس الخزانة العامة للدولة، نتيجة عدم الاستقرار السياسى والأمنى الذى تشهده البلاد منذ سنوات عدة. فعلى مدار أكثر من خمس سنوات، تعثر النمو الاقتصادى فى تونس حتى إنه لم يتجاوز 1% خلال الربع الأول من السنة الحالية، وفى الوقت نفسه فقد الدينار التونسى قيمته أمام الدولار واليورو، وتجاوزت معدلات البطالة 15%، وساء الوضع الاقتصادى فى البلاد إلى ما هو أكثر من ذلك. كما تشهد تونس، تقلصا ملحوظا فى الانتاج، خاصة فى قطاعين أساسيين لجلب العملة الصعبة للبلاد وهما السياحة والمناجم اللذين تكبدا خسائر مالية كبيرة وكلفا ميزانية الدولة عجزا بقيمة 2.5 مليار دولار و1.76 مليار دولار على التوالى.
ونتيجة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى تمر بها تونس وحالة عدم الاستقرار التى تعيشها, عجزت البلاد عن تحقيق نسبة النمو المتوقعة (2.5%)، وهو ما أثر سلبا على موارد الدولة، وخلف خسارة بين 15 و20 ألف موطن شغل جديد.
وأشار تقرير صادر عن البنك المركزى التونسى، خلال أغسطس الماضى، إلى أن الأوضاع الإقليمية المحيطة بتونس، إلى جانب الأوضاع المحلية ، (عدم الاستقرار السياسى وتواصل الاحتجاجات وعدم الاستقرار الاجتماعى فى مناطق الإنتاج، والتأخير فى تنفيذ الإصلاحات الضرورية ومنها مجلة الاستثمار)، من شأنها أن تزيد من الضغط على الوضع الاقتصادى فى البلاد.
أيضاً، واجهت ميزانية الدولة عجزا كبيرا، نتيجة الصعوبات المالية التى يواجهها كثير من الهياكل العمومية، وعلى رأسها الصناديق الاجتماعية وكبرى المؤسسات الحكومية، وفاتورة مكافحة الإرهاب والزيادات المتتالية فى الميزانيات المخصصة للمؤسستين العسكرية والأمنية. وبلغ الدين الخارجى لتونس خلال السنة الحالية 27 مليار دولار، بما يوازى 69 فى المائة من الناتج القومى الإجمالى. وإلى جانب ارتفاع الدين الخارجى لتونس، شهدت عملتها المحلية انهيارا غير مسبوق، نتيجة تزايد الطلب على العملة الأجنبية اللازمة للحصول على الواردات، فى ظل تفضيل التونسيين للمنتجات المستوردة؛ ما خلق طلبا كبيرا على العملة الأجنبية.ويكلف انهيار العملة المحلية، تونس، أعباء إضافية، إضافة إلى تخصيص 6.5 مليار دولار لنفقات الأجور، وتخصيص نحو 2.5 مليار دولار لنفقات التنمية، وأكثر من 25 مليار دولار للدين العمومى.
مؤشرات كثيرة تؤكد أن تونس تحولت إلى دولة مافيا. وطبقاً لغالبية تقارير المنظمات الدولية، فإن كل عشر مشروعات هناك أكثر من ست مشرعات تدار بالفساد. وهناك تقارير عن مليارات من أموال الدولة يتم نهبها سنوياً، وتقريباً هناك إجماع من الخبراء فى تونس على أن الفساد ينخر فى تونس ويؤكدون أن انتشار ما يعرف بـ"الفساد الصغير" جعل شرائح واسعة من التونسيين "تطبع" وتتعايش مع الفساد من أجل تسيير شئونها. الأمر الذى يجعلنا نتساءل فى تعجب واندهاش عن سر إشادات الغرب، وبعض المحسوبين على المعارضة المصرية، بالنموذج التونسى!
إن تفسير نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التونسية سيظل مثارا للتحليل, وسيظل طرفا الجولة الثانية رهن قرار القضاء، وسيظل السؤال الأصعب: هل يكون ذلك مع بقاء "نبيل القروى" فى السجن أو يُسمح له بإفراج مؤقت ومشروط بفترة الحملة الانتخابية التى من الأرجح أن تنتهى يوم 6 أكتوبر المقبل؟
الدور الخفى لبقايا حزب النهضة وعناصر جماعة الإخوان الإرهابية
القروى
قصة السجين الذى اقترب من مقعد الرئيس!
كان متوقعاً أن تجرى الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التونسية يوم 27 سبتمبر الجارى بعد اعتراف كل المرشحين بالنتائج، إلا أن الموعد سيتغيّر بعد أن تقدم ستة مرشحين بطعون فيها إلى المحكمة الإدارية. وبالتالى، فى حال اكتفاء المعترضين الستة على نتائج الجولة الأولى من الطعن لدى القضاء قد تنظم الجولة الثانية الحاسمة يوم 6 أكتوبر القادم، أما إذا طعنوا فى القرار فسيتم تأجيل الجولة الثانية إلى 13 أكتوبر، أو إلى تاريخ لاحق.
ما حدث هو أنه بعدما رحّب معظم المرشحين والزعماء السياسيين بالنتائج الأولية وتقدّموا بتهنئة إلى الفائزين بالمرتبتين الأولى والثانية قيس سعيّد ونبيل القروى، وقعت مفاجأة فى الساعات الأخيرة من موعد قبول الطعون مساء الخميس 19 سبتمبر. إذ قدّم ستة مرشحين ملفات طعن رسمية إلى المحكمة الإدارية، بينهم يوسف الشاهد رئيس الحكومة ورئيس حزب "تحيا تونس"، ووزير الدفاع عبد الكريم الزبيدى الحاصل على المرتبة الرابعة وفق النتائج الأولوية التى أعلنت عنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الثلاثاء الماضى.
بعض المتقدمين بالطعن، وبينهم الزبيدى، يريدون إعادة النظر فى ترتيب الفائزين بالمركزين الثانى والثالث، أى نبيل القروى وعبد الفتاح مورو، بعد اتهام الاثنين بتجاوز النفقات المالية المسموح بها فى الحملة الانتخابية. ويرهنون على أنه فى حال، إسقاط القروى ومورو، ستكون الجولة الثانية بين سعيّد والزبيدى وزير الدفاع الذى قد يكون قادراً على الفوز لأن تياراً عريضاً من أنصار سعيّد ومن رموز المنظومة القديمة قد يدعمونه، لكنهم لا يمكن أن يدعموا القروى الذى تبدو فرصته ضعيفة بسبب وجوده فى السجن وبسبب القضايا الكثيرة المقامة ضده.
الذين طعنوا فى النتائج اعتمدوا على تقارير الهيئة العليا للإعلام السمعى البصرى التى سلطت الضوء على أخطاء تم رصدها على القناتين التلفزيونيتين "نسمة" المملوكة للقروى و"الزيتونة" التابعة لحركة النهضة. ومن بين من تقدّموا بالطعن ناجى جلول، الأمين العام السابق لحزب "نداء تونس" الذى حصل على أقل من واحد فى المائة من الأصوات، ورجل الأعمال فى المنفى سليم الرياحى، ورجل الأعمال الشاب المنشق عن "حركة النهضة" حاتم بولوبيار، والاثنان من بين 14 مرشحاً لم يحصلوا على 5% من الأصوات.
هناك أيضا طعون قدمها المحامى سيف الدين مخلوف الذى فاز بنحو 5% من الأصوات، متقدما على رئيس الحكومة الأسبق حمادى الجبالى ورئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقى. ولم يكن أكثر المتشائمين من الأوساط المقربة من يوسف الشاهد، المرشح الرئاسى لحزب "تحيا تونس"، يتوقع سقوطه المدوى وخروجه من حلبة السباق مبكرا، فى مسار يرى محللون أنه كان نتيجة آلية لتعامل الناخب معه بصفته الحكومية وليست الحزبية.
تنافس فى هذه الانتخابات الرئاسية عدد مفاجئ من المرشحين يبلغ 26 مرشحاً، بينهم امرأتان. ومن اللافت للنظر أن المجموعة الأولية ضمّت رجلاً يُجاهر بمثليته على الرغم من أن المثلية الجنسية لا تزال تُعتبر جريمة فى تونس، ولكن تم رفض ترشيحه فى النهاية. كما كان هناك أربعة مرشحين هم فى المقدمة:
يوسف الشاهد: مهندس زراعى يبلغ من العمر 43 عاماً ويشغل منصب رئاسة الوزراء منذ عام 2016، وقد طُرد من حزب "نداء تونس" العلمانى برئاسة السبسى العام الماضى. وكان الدافع وراء هذه الخطوة هو خلافاته الشديدة مع الرئيس بشأن تقاسمهما السلطة، واعتراضاته على مناورات حافظ، نجل السبسى للسيطرة على الحزب. ومؤخراً، شكّل الشاهد حزباً جديداً باسم "تحيا تونس"، الذى شددت حملته على احتياجات الشباب. ومع ذلك، يواجه صعوبة فى إقناع الجماهير الأوسع من الشعب بأنه من يجب أن يشغل قصر قرطاج الرئاسى. وفى حين تم الإشادة على نطاق واسع بسياساته لمكافحة الفساد، فإن التدابير التقشفية التى أشرف عليها بعد حصول تونس على قرض من "صندوق النقد الدولى" تبلغ قيمته 2.8 مليار دولار فى عام 2016 لم تكسبه محبة الشعب الذى يكافح تباينات الدخل المترسّخة، ومعدل تضخم يبلغ ضعفى المستويات التى كانت سائدة قبل عام 2011، ومعدل البطالة الذى يناهز 15 فى المائة على الصعيد الوطنى و35 فى المائة بين الشباب.
عبد الفتاح مورو: محام شارك فى تأسيس حزب "النهضة"، الحركة الإسلامية الرئيسية فى البلاد، ويشغل حالياً منصب نائب رئيس الحزب. وانتُخب نائباً فى البرلمان فى عام 2014، وأصبح لاحقاً نائب رئيس المجلس. ويمثل ترشح مورو البالغ من العمر 71 عاماً تطوراً ملحوظاً بالنسبة لحزب "النهضة" الذى امتنع فى السابق عن تقديم أى مرشحين للرئاسة خوفاً من إثارة رد الفعل العنيف نفسه الذى قضى على الجماعة الأم الأساسية، أى "الإخوان المسلمين"، فى مصر وبلدان أخرى. وفى المقابل، فضّل حزب "النهضة" أن يحكم فى إطار تحالف مع أحزاب علمانية مثل "نداء تونس" وأن يحدّ من توجهه الإسلامى، ما عزّز بالتالى هيمنته فى البرلمان. وفى عام 2016، أعلن الحزب أنه سيحد من أنشطته الدينية ويكرّس نفسه بالكامل للسياسة، مغيراً شعار "الإسلام السياسى" بـ"الديمقراطية المسلمة". وعندما أعلن حزب "النهضة" فى فصل الصيف الراهن أنه سيقدّم مرشحاً للرئاسة وسيرشح زعيمه راشد الغنوشى لخوض الانتخابات البرلمانية، بدا واثقاً من أن استراتيجية التحفظ قد رسّخت بما يكفى مكانة الحزب فى المشهد السياسى التونسى. ورغم أن هذه الحسابات قد لا تزال مجرد رهان، فإن استعداد مورو فى الماضى لانتقاد الحزب، وعلاقاته الإيجابية المزعومة مع مختلف المشرعين فى المشهد السياسى تجعل منه خياراً آمناً نسبياً.
نبيل القروى: مؤسس "قناة نسمة"، إحدى المحطات الرائدة فى تونس، يقبع حالياً فى السجن بتهم تبييض الأموال والتهرب الضريبى. وأصبح القروى البالغ من العمر 56 عاماً شخصية معروفة فى السنوات الأخيرة بفضل ظهوره الإعلامى المتكرر وعمله الخيرى. وكان عضواً سابقاً فى فصيل السبسى، وأسس حزب "قلب تونس" وشنّ حملات تتعلق بمواضيع شعبية على نطاق واسع، مدافعاً عن حقوق الفقراء ومنتقداً نقص الخدمات الحكومية. وحصد خلال الاستطلاعات نسبة تخطت 20 فى المائة عندما اعتقل فى أواخر أغسطس، ما أثار اتهامات بأن خصومه كانوا يسعون إلى التخلص منه (ظهرت الادعاءات ضده للمرة الأولى فى عام 2017 بعد تحقيق أجرته منظمة غير حكومية محلية بارزة لمكافحة الفساد تُدعى "I Watch"). ويسمح القانون التونسى للأفراد المتهمين بارتكاب نشاط إجرامى بالترشح للانتخابات طالما لم تتم إدانتهم، لذا فى حين لم يتمكن القروى من المشاركة فى المناظرات، إلّا أن اسمه لا يزال مسجلاً فى اللوائح الانتخابية.
عبد الكريم الزبيدى: طبيب يبلغ من العمر 64 عاماً ويُعتبر إلى حدّ كبير تكنوقراطياً لم يتأثر على ما يبدو بارتباطه الطويل الأمد بنظام بن على. وشغل حتى وقت قريب منصب وزير الدفاع ثم استقال ليترشح للرئاسة، فحافظ على مكانته الدائمة كمستقل وسلّط الضوء فى الوقت نفسه على خبرته فى المجال الأمنى. وشهدت تونس تحسينات ملحوظة فى قدراتها على مكافحة الإرهاب منذ تعرّضها لسلسلة الاعتداءات التى أسفرت عن عدد كبير من الضحايا فى عام 2015 ومحاولة تمرد نفذها تنظيم "الدولة الإسلامية" بعد عام. ومع ذلك، كانت سلسلة التفجيرات الانتحارية التى وقعت هذا الصيف بمنزلة تذكير بأن البلاد لا تزال هشة، لذا فإن ارتباط الزبيدى بالقوات المسلحة التى تحظى بشعبية كبيرة قد يصبّ فى مصلحته.
سقوط الشاهد يعود إلى عدة أسباب، أبرزها محصلة حكومته على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى، والتجاذبات داخل حزبه وتذبذبه السياسى. بالإضافة إلى نفور الناخبين من الأحزاب والمنظومة الحاكمة بشكل عام، يضاف إليه "الصدمة" والاستياء الشعبى الذى خلفه توقيف رجل الأعمال والمرشح الرئاسى نبيل القروى قبل أسابيع قليلة من الاقتراع.
من أهم الأسباب التى أطاحت بالشاهد، المحصلة الهزيلة لحكومته التى يقودها منذ 27 أغسطس 2016، على الصعيدين الاقتصادى والاجتماعى. ففى الأشهر الثمانية الأولى من 2018، ارتفع العجز التجارى لتونس (الفرق بين الصادرات والواردات) 5.7% على أساس سنوى، وفق أرقام رسمية صادرة عن المعهد التونسى للإحصاء (حكومي). وبذلك، يرتفع العجز التجارى إلى نحو 12.864 مليار دينار (4.497 مليار دولار) فى الفترة بين يناير- أغسطس من العام الجارى، مقارنة بـ12.160 مليار دينار (4.251 مليار دولار) بالفترة نفسها من 2018.
عجز تجارى رافقته قرارات حكومية متواترة، بزيادة أسعار البنزين وبعض السلع الأساسية، والترفيع فى الضرائب على السيارات والاتصالات الهاتفية والإنترنت والإقامة فى الفنادق وبعض المواد الأخرى، فى إطار إجراءات تقشف اتفقت عليها الحكومة مع المانحين الأجانب، لكنها فاقمت، فى الجانب الآخر، من معاناة التونسيين. وتقشف أصاب الطبقة الوسطى والفقيرة بالإحباط، خصوصا فى ظل ارتفاع معدل التضخم (أسعار المستهلك)، الذى بلغ فى أغسطس الماضى 6.7%، مقابل 6.5% فى يوليو السابق له، بحسب بيانات رسمية.
تقشف واحتقان شعبى تضاف إليه ملفات عالقة متوارثة عن نظام ما قبل ثورة 2011، كان لابد أن يقود نحو إشكالات هيكلية حادة تعصف بالاقتصاد، وتدفع بمؤشراته الكلية نحو الهبوط، وسط ضغوطات متزايدة من المقرضين الدوليين لفرض إصلاحات لخفض العجز فى الميزانية وإصلاح المالية العمومية.
تشتت أصوات الناخبين وتوزعها أدى إلى أن يحصل الفائز الأول على أقل من 20% من الأصوات، وأن يجيل أربعة مرشحين فقط على أكثر من 10% من الأصوات, و19 مُرشحا حصلوا على أقل من 5% من الأصوات كان من بينهم: منصف المرزوقى الذى تولى رئاسة الجمهورية خلال الفترة 2011-2014, والمهدى جمعة الذى تولى منصب رئيس الوزراء عامى 2014-2015. ما يعنى أن الناخب التونسى أعطى صوته لمُرشحين من خارج "الطبقة السياسية" أو "النخبة الحاكمة" التى مارست العمل السياسى وتصدرت المشهد العام بعد 2010، لم يُعط الناخب التونسى صوته لشخصيات عامة أكثر شُهرة شغلت مناصب عُليا فى تونس مثل: رئاسة الجمهورية, ورئاسة الوزراء, وكرسى الوزارة, وفضل عليهم أستاذا جامعيا "قيس سعيد" فى مجال القانون الدستورى الذى قام بالتدريس فى جامعة سوسة, ورجُل أعمال "نبيل القروى" وهو صاحب محطة تلفزيون نسمة, ومُحتجز على ذمة التحقيق فى قضايا مالية.
لا يمكن قراءة ذلك بمعزل عن المؤشرات الاقتصادية العديدة التى تنذر باتجاه تونس نحو أزمة غير مسبوقة، وبإمكانية انزلاقها نحو إفلاس الخزانة العامة للدولة، نتيجة عدم الاستقرار السياسى والأمنى الذى تشهده البلاد منذ سنوات عدة. فعلى مدار أكثر من خمس سنوات، تعثر النمو الاقتصادى فى تونس حتى إنه لم يتجاوز 1% خلال الربع الأول من السنة الحالية، وفى الوقت نفسه فقد الدينار التونسى قيمته أمام الدولار واليورو، وتجاوزت معدلات البطالة 15%، وساء الوضع الاقتصادى فى البلاد إلى ما هو أكثر من ذلك. كما تشهد تونس، تقلصا ملحوظا فى الانتاج، خاصة فى قطاعين أساسيين لجلب العملة الصعبة للبلاد وهما السياحة والمناجم اللذين تكبدا خسائر مالية كبيرة وكلفا ميزانية الدولة عجزا بقيمة 2.5 مليار دولار و1.76 مليار دولار على التوالى.
ونتيجة للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى تمر بها تونس وحالة عدم الاستقرار التى تعيشها, عجزت البلاد عن تحقيق نسبة النمو المتوقعة (2.5%)، وهو ما أثر سلبا على موارد الدولة، وخلف خسارة بين 15 و20 ألف موطن شغل جديد.
وأشار تقرير صادر عن البنك المركزى التونسى، خلال أغسطس الماضى، إلى أن الأوضاع الإقليمية المحيطة بتونس، إلى جانب الأوضاع المحلية ، (عدم الاستقرار السياسى وتواصل الاحتجاجات وعدم الاستقرار الاجتماعى فى مناطق الإنتاج، والتأخير فى تنفيذ الإصلاحات الضرورية ومنها مجلة الاستثمار)، من شأنها أن تزيد من الضغط على الوضع الاقتصادى فى البلاد.
أيضاً، واجهت ميزانية الدولة عجزا كبيرا، نتيجة الصعوبات المالية التى يواجهها كثير من الهياكل العمومية، وعلى رأسها الصناديق الاجتماعية وكبرى المؤسسات الحكومية، وفاتورة مكافحة الإرهاب والزيادات المتتالية فى الميزانيات المخصصة للمؤسستين العسكرية والأمنية. وبلغ الدين الخارجى لتونس خلال السنة الحالية 27 مليار دولار، بما يوازى 69 فى المائة من الناتج القومى الإجمالى. وإلى جانب ارتفاع الدين الخارجى لتونس، شهدت عملتها المحلية انهيارا غير مسبوق، نتيجة تزايد الطلب على العملة الأجنبية اللازمة للحصول على الواردات، فى ظل تفضيل التونسيين للمنتجات المستوردة؛ ما خلق طلبا كبيرا على العملة الأجنبية.ويكلف انهيار العملة المحلية، تونس، أعباء إضافية، إضافة إلى تخصيص 6.5 مليار دولار لنفقات الأجور، وتخصيص نحو 2.5 مليار دولار لنفقات التنمية، وأكثر من 25 مليار دولار للدين العمومى.
مؤشرات كثيرة تؤكد أن تونس تحولت إلى دولة مافيا. وطبقاً لغالبية تقارير المنظمات الدولية، فإن كل عشر مشروعات هناك أكثر من ست مشرعات تدار بالفساد. وهناك تقارير عن مليارات من أموال الدولة يتم نهبها سنوياً، وتقريباً هناك إجماع من الخبراء فى تونس على أن الفساد ينخر فى تونس ويؤكدون أن انتشار ما يعرف بـ"الفساد الصغير" جعل شرائح واسعة من التونسيين "تطبع" وتتعايش مع الفساد من أجل تسيير شئونها. الأمر الذى يجعلنا نتساءل فى تعجب واندهاش عن سر إشادات الغرب، وبعض المحسوبين على المعارضة المصرية، بالنموذج التونسى!
إن تفسير نتائج الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة التونسية سيظل مثارا للتحليل, وسيظل طرفا الجولة الثانية رهن قرار القضاء، وسيظل السؤال الأصعب: هل يكون ذلك مع بقاء "نبيل القروى" فى السجن أو يُسمح له بإفراج مؤقت ومشروط بفترة الحملة الانتخابية التى من الأرجح أن تنتهى يوم 6 أكتوبر المقبل؟