الموجز
الخميس 21 نوفمبر 2024 11:13 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن: انهيار الليرة.. نهاية أردوغان


تفاصيل ساعات الحسم الأخيرة فى مصير مخبول إسطنبول
ـ المخبول شيّع جنازة الديمقراطية التركية بدم بارد.. وترك البلاد تئن من الجوع
ـ عبيد المجرم التركى فى الإعلام المأجور يستعدون لدفع ثمن الخيانة
إدارة ترامب تعلن عن ثلاث عقوبات جديدة لإصابة تركيا بشلل اقتصادى
بغض النظر عن نتيجة انتخابات بلدية إسطنبول التى من المفترض أن تكون قد جرت يوم الأحد، فإن الرئيس التركى سيخرج من هذه المعركة خاسراً، لأن خسارة حزب العدالة والتنمية (حزب أردوغان) فى التصويت سيشجع على الانشقاقات داخل الحزب وسيقوى المعارضة فى البلاد، خصوصاً أن «من يربح إسطنبول يربح تركيا كلها» على حد تعبير أردوغان نفسه. وفى حال فاز «حزب العدالة والتنمية» الحاكم فى هذه الانتخابات، فإنه سيواجه فقدان الثقة أكثر فى العملية الديمقراطية التركية خصوصاً أن السلطات التركية ألغت انتخاب رئيس البلدية فقط، دون المستشارين الذين ينتمى أكثرهم إلى حزب أردوغان الحاكم.
المؤكد هو أن الليرة التركية هبطت، يوم الجمعة، متضررة من قلق المستثمرين بشأن نتيجة تلك الانتخابات، وأيضاً بسبب الشكوك التى تحيط بعملية صنع السياسة النقدية تحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان. وتقول الأرقام إنه بحلول الساعة 15:11 بتوقيت جرينتش، سجّلت الليرة 5.8170 مقابل الدولار الأمريكى، منخفضة أكثر من 1% من مستوى الإغلاق يوم الخميس البالغ 5.7550 ليرة. وفى وقت سابق هبطت الليرة إلى 5.8250 مقابل الدولار. وكان اردوغان قد قال يوم الخميس إنه ما زال يعارض سياسة بلاده النقدية لتشديد الائتمان وتعهد «بحل حاسم» قريباً لخفض أسعار الفائدة الرئيسية من مستواها الحالى البالغ 24%. وكان البنك المركزى التركى قد رفع العام الماضى أسعار الفائدة إلى أعلى المستويات الموجودة فى الأسواق الناشئة، بعد أزمة للعملة دفعت معدل التضخم للصعود فوق 25%.
لا جدوى من الذهاب إلى مراكز الاقتراع فى المدينة الأهم والأكبر فى البلاد، خاصة مع التلميحات بأن الرئيس رجب طيب أردوغان لن يعيد التصويت ليخسره مرة أخرى وأنه سيفوز به بطريقة شرعية أو غير ذلك. على الرغم من أن فرصة كبيرة لمرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، مرشح حزب الشعب الجمهورى، الذى فاز بالفعل بهذا التصويت، فى 31 مارس الماضى. وأنهت النتيجة 25 عاماً من حكم حزب العدالة والتنمية فى إسطنبول. قبل أن يلغى المجلس الأعلى للانتخابات بضغط من أردوغان نتائج الانتخابات ويقرر إجراءها مرة أخرى. ما جعل البلاد أقرب إلى حكم استبدادى كامل.
من الشائع أن تشجب وسائل الإعلام الدولية استبداد أردوغان وتأسف لنهاية الديمقراطية التركية، لكن فى هذه المرة، ربما كان المراقبون يستخفون بمقاومة تركيا الديمقراطية بينما يبالغون فى تقدير قوة حزب العدالة والتنمية واستبداد رئيسه. ومؤكداً أن الاستبداد وتجاهل حكم القانون أصبحا أسوأ اليوم فى تركيا عما كانا عليه الحال من قبل، ولكن هناك الآن أسبابا أكثر للتفاؤل، حيث لم يتخل المجتمع التركى عن المقاومة النشطة والسلبية، ورفض حتى الآن قبول الاستبداد كالمعتاد. وفى الوقت نفسه، فإن حزب العدالة والتنمية وأردوغان قد ضعفا بسبب تراجع شعبيتهما وتزايد الانقسامات الداخلية.
مشاكل حزب العدالة والتنمية والغضب الشعبى لن تكون كافية لاستعادة الديمقراطية، بل قد تعمق الاستبداد، ولكن إلى جانب هذه الحقيقة هناك أمر مهم حيث إن المعارضة بدأت فى إنتاج أنواع جديدة من القادة والشخصيات القادرة على الإدلاء بخطابات قوية جاذبة للجماهير، وطورت ممارسات جديدة، وهو ما ينبئ بأن التغيير قد يحدث. ومن المؤكد أن الإمكانات الاستبدادية للحزب كانت موجودة على الدوام، كما أن تشويهه لمؤسسات الدولة، والمساومات مع مختلف الحركات والانتهازيين الذين خدموا تدريجيا مؤسسات الدولة واستولت على وسائل الإعلام، والخطاب الاستقطابى المفتوح الذى أدى إلى انقسام المجتمع أدى إلى تحوله، ومع ذلك، فإن الدور الاستبدادى الحاسم للحزب لم يكن محدداً بالكامل ولا ضروريا بالضرورة. وفى الوقت نفسه، شهدت معارضة تركيا المجزأة، والتى شملت فى البداية نخبة من الجيش والقضاء، علامات التحذير وردّت بقوة - لكن بطرق لم تؤد إلا إلى تعزيز الاستقطاب الاجتماعى والسياسى.
الحملات الانتخابية استهدفت فى الغالب الطابع المتطرف للحكومة أو الفساد أو مخالفات أردوغان الشخصية أو كل ما سبق، وهو ما أثار غضب ناخبى حزب العدالة والتنمية فى حين جعل المعارضة تبدو قوية فى بعض الأحيان، مؤكداً أن انتخابات 31 مارس كانت مختلفة، حيث شكل حزب المعارضة الرئيسى، حزب الشعب الجمهورى، وحزب الخير الذى أسس حديثا تحالفا انتخابيا، أطلق عليه اسم تحالف الأمة. وقد حاز التجمع أيضا على دعم خارجى ودعم الحزب الرئيسى الموالى للأكراد، حزب الشعب الديمقراطى. وحدد تحالف الأمة بشكل أساسى المرشحين الوسطيين الذين يتحدثون عن حلولهم الخاصة للمشاكل الاقتصادية فى تركيا بدلا من حزب العدالة والتنمية أو أردوغان. وبدلا من الذهاب إلى المحاكم أو تنظيم احتجاجات جماعية، ركزوا على التعبئة الانتخابية والاتصال المباشر بالناخبين، وركز إمام أوغلو على سبيل المثال، بإدارة حملة تستهدف عواطف الناخبين والثقة الشخصية. لقد ركز على شرح ما يريد فعله بدلا من انتقاد ما يفعله حزب العدالة والتنمية. وأدت هذه التصريحات إلى نزع سلاح حزب العدالة والتنمية. وتجنبا للهجمات الشخصية، بدأ إمام أوغلو حملته من خلال زيارة أردوغان.
فى السياق نفسه، كشف معهد بحثى أمريكى عن أن الحكم القمعى الذى يمارسه حزب العدالة والتنمية، برئاسة رجب طيب أردوغان، والصلات القوية التى يمتلكها مع جماعة الإخوان الإرهابية، أثارت العديد من التساؤلات حول مصداقية العملية الديمقراطية فى البلاد، وفيما يسمى «بالإسلام السياسى».
معهد «أمريكان ثينكر»، أوضح فى تقرير له، أن منطقة الشرق الأوسط شهدت فى الآونة الأخيرة العديد من الأزمات التى عصفت بالمنطقة، مشيراً إلى أن الوضع كان أفضل كثيراً وأكثر ديناميكية، خلال القرن العشرين من الوضع الحالى، وخاصةً بعد ما يسمى «بالربيع العربى»، الذى كشف عن العديد من الجماعات المتطرفة، ودفع بجماعة الإخوان الإرهابية إلى سدة الحكم فى بعض الدول، ومن بينها مصر. وأضاف التقرير أن التنظيمات والأحزاب التى تتبع تنظيم الإخوان الإرهابى وغيرها ممن يطلقون على أنفسهم أنهم «حركات الإسلام السياسى» فشلت فى الحصول على قبول من النخب العربية، والشارع العربى بشكل عام.
التقرير قال إن النظام التركى يواجه العديد من الاتهامات، بشأن دعم تنظيم داعش الإرهابى فى سوريا، بخلاف استضافة قيادات تنظيم الإخوان، وعلاوةً على ذلك، فإن روابط هذه الجماعات الإرهابية مع بعض الشخصيات والجماعات المرتبطة بالإخوان وحكومة حزب العدالة والتنمية، قد أثارت مخاوف بشأن المؤهلات الديمقراطية لدولة مثل تركيا. وأكد التقرير أن ممارسات أردوغان وحزبه العدالة والتنمية تصل إلى حد الدكتاتورية، حيث تم سجن مئات الآلاف من خصومه، وإسكات جميع الأصوات المعارضة له، والأهم هو التشبث بالسلطة ضد منافسه المنتخب ديمقراطياً فى إسطنبول. وأكد أن مثل هذا النظام فقد تعاطفه وأى دعم له فى دول الخليج، باستثناء قطر، التى ترعى جميع الجماعات الإرهابية والمتطرفة، ومن بينها جماعة الإخوان، مشيراً إلى أن الأسوأ هو أن قيادات الإخوان يخشون الآن طردهم من تركيا أيضاً، خاصةً أن الناخبين فى أنقرة أكدوا استعدادهم للتخلى عنهم.
وشدد على أن استمرار السياسات القمعية للرئيس رجب طيب أردوغان، ومن بينها اعتقال الصحفيين والمعارضين له، وتحالفه مع القوميين من أجل الفوز بالانتخابات، بجانب اتباع سياسات استفزازية فى المنطقة والإصرار على دعم نظام الحمدين، وتبنى سياسات اقتصادية خاطئة دفعت باقتصاد البلاد نحو الهاوية، أدت فى مجملها إلى قرب وضع نهاية للمشروع الإخوانى فى تركيا.
تقرير آخر مهم، كشفت فيه وكالة «بلومبرج» الأمريكية النقاب عن أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تفاضل حالياً بين ثلاث من حزم العقوبات الجديدة، التى يُنتظر أن تُفرض إحداها على النظام التركى، رداً على تسلمه المرتقب لصفقة صواريخ روسية متطورة للدفاع الجوى من طراز «إس-400». ونقلت الوكالة عن مصادر -وصفتها بأنها مطلعةٌ على المداولات الجارية فى واشنطن- قولها إن من شأن حزمة العقوبات الأكثر صرامة التى يتم بحثها على ذلك الصعيد «التسبب فى إحداث شلل كامل تقريباً للاقتصاد التركى، الذى يعانى من أزمة حادة حالياً بالفعل».
المصادر أشارت إلى أن بحث هذه الحزمة جار بين مسئولين فى مجلس الأمن القومى الأمريكى ووزارتى الخارجية والخزانة فى البلاد، مؤكدة أن تطبيق العقوبات التى تشملها، سيُضاف فى كل الأحوال إلى خطوة إبعاد تركيا عن برنامج تصنيع وتجميع أجزاء من مقاتلات «إف-35»، وحرمانها من شراء أي من هذه الطائرات الحربية المتطورة. وبحسب «بلومبرج»؛ تتمثل الفكرة التى تحظى بالقبول الأوسع من نوعه بين كبار المسئولين الأمريكيين فى الوقت الحاضر، فى «استهداف كثير من كبريات الشركات التابعة للقطاع الدفاعى التركى، بموجب قانون مكافحة أعداء أمريكا، من خلال العقوبات الذى يستهدف عادة الكيانات التى تتعامل تجارياً مع روسيا».
فرض عقوبات من هذا القبيل سيقطع الصلة تماماً بين تلك الشركات والنظام المالى الأمريكى، ما يجعل من المستحيل تقريباً عليها شراء مكونات أمريكية، أو بيع منتجاتها فى الولايات المتحدة. كما أن المداولات الجارية بشأنها، تعكس مدى التدهور الراهن فى العلاقات بين إدارة ترامب ونظام أردوغان. ونقلت «بلومبرج» عن مسئول بارز فى إدارة ترامب تأكيده أن «الولايات المتحدة قطعت شوطاً بعيداً فى تحذير تركيا من أن شراءها هذه المنظومة الروسية، سيؤدى إلى تعرضها للعقوبات الواردة فى هذا القانون».
كشفت «بلومبرج» عن أن بحث فرض عقوبات على تركيا بدأ فى أروقة الإدارة الأمريكية منذ عام تقريباً، بعدما تبين مدى تشبث أردوغان بالصفقة الروسية المثيرة للجدل. وأشارت إلى أن الكثير من المسئولين الأمريكيين يؤيدون التعامل على نحو شديد الحزم مع تركيا ومن بينهم ويس ميتشل المساعد السابق لوزير الخارجية للشئون الأوروبية، الذى سبق له أن حذر من أن قرار نظام أردوغان شراء الـ «إس-400» سيؤدى إلى «حدوث تغيير نوعي فى العلاقات الأمريكية التركية، لا يمكن إصلاحه».
من المؤكد أن إعادة انتخابات إسطنبول هى أسوأ القرارات التى اتخذها المتغطرس أردوغان على مدار مسيرته السياسية، فكان قراره هذا بمثابة مذبحة للديمقراطية. كما أنه فتح المجال أمام خصومه السياسيين للمعارضة بطريقة أخرى ستؤدى فى نهاية المطاف إلى ربيع تركى يزيح الرئيس من السلطة، وينهى مهمة العدالة والتنمية فى البلاد. إن نموذج أردوغان جديد وغريب لدكتاتور يعيش نرجسية مفرطة، لكن مشكلته أنه جاء فى زمن لا مكان فيه للدكتاتورية فى العالم. هذا الرجل كذب الكذبة وصدقها؛ إذ يظن فى قرارة نفسه أنه خليفة جديد لمسلمى العالم، وأنه القائد الإسلامى الملهم الذى سيستعيد القدس من الصهاينة، ويحرر فلسطين من الاحتلال، وينقذ الأقليات المسلمة حول العالم من البطش والظلم، ويعيد للأمة الإسلامية هيبتها المفقودة.
‏الكل فى تركيا يعلم أن أردوغان لم يعد بمقدوره البقاء فى السلطة عن طريق الانتخابات الديمقراطية لذا أسس جيشا خاصا ليحميه تجاه أى خطر لأنه لا يثق بالجيش والأمن بعدما غدر بهما. غير أن الربيع التركى قادم لا محالة، وقد تدفع تركيا فاتورة وجود الظلم والاستبداد والتجبر والعنف، فى ظل الرفض الشعبى والدولى لسياسات أردوغان وتراجع شعبيته، وتراجع الاقتصاد وسقوط الليرة المتواصل، وسوء الأوضاع المعيشية الصعبة للكثير من الأتراك، كذلك معاداة أردوغان للأكراد واتهامهم بالإرهاب، والإجراءات التعسفية ضد كل من يعارضه، وسجن أعداد كبيرة من الأتراك والمعارضين والصحفيين بتهم زائفة؛ وهو ما جعل الشعب التركى يكره سيطرة أردوغان وحزبه نتيجة القبضة الحديدية التى يستخدمها ضدهم، وإلغاء الكثير من الحريات فى البلاد. وكذلك السياسات الطائشة والعدوانية التى يمارسها أردوغان مع الكثير مع جيرانه الأوروبيين، ومع الدول العربية أيضاً كالتدخل فى الشأن الداخلى لسوريا وليبيا.
الغضب الشعبى هو السلاح الوحيد القادر على زعزعة نظام أردوغان، لأن الغضب هو ما يجعل شقا من المواطنين يخرجون عن معسكر المؤيدين، ما يخلق انقساما حادا يدفع نحو اضطرابات اجتماعية من الصعب احتواؤها من قبل أجهزة الدولة. ورغم إحكام أردوغان سيطرته على مفاصل المؤسسات الحيوية فى البلاد، فإن المجتمع التركى منقسم كما لم يحدث من قبل، ولذلك فإن فوز حزب العدالة والتنمية فى إسطنبول قد يؤدى إلى اضطرابات اجتماعية لن تقدر الدولة على مواجهتها. فالانفجار الشعبى، سواء فاز مرشح أردوغان أو خسر، من شأنه أن يمهد الطريق لتحول نموذجى هائل فى السياسة التركية، وقد يعطى شارة قدوم نظام بديل يحل محل حزب العدالة والتنمية الذى يحكم منذ 2002.
الخلاصة هى أن هناك العديد من التحديات التى تنتظرها تركيا، ولن يتم تجاوزها إلا بالإطاحة بحزب العدالة والتنمية وأردوغان الذى انكشف على حقيقته، داخليا أيضا، بعد أن قام بتصفيات دموية وسياسية، طالت معظم رفاق مسيرة البدايات الذين كان من بينهم، فتح الله جولن، الذى أصبح لاجئاً سياسياً فى الولايات المتحدة، وعبدالله جول وأحمد داود أوغلو، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من كبار ضباط الجيش التركى، الذين إمّا تم اغتيالهم بالرصاص، أو رميهم فى السجون التركية.
عملية لن تكون يسيرة بالتأكيد، بل مؤلمة أيضا، نظرا للمهام الشاقة التى سيتكبدها أى ساكن جديد لقصر الرئاسة فى أنقرة، حيث تنتظره عملية إعادة هيكلة لبنية السلطة القديمة. فرحيل أردوغان عن السلطة ستتبعه، بديهة، إجراءات انتقامية سيلجأ إليها كل من اضطهدهم ونكل بهم، خصوصا من أعضاء حركة الداعية فتح الله جولن وحزب الشعوب الديمقراطى، وسيتفجر مخزون الحقد الذى زرعه طوال سبعة عشر عاماً.