ياسر بركات يكتب عن: أسرار خاصة من وحى الجولات المصرية.. غينيا وكوت ديفوار والسنغال ثلاث خطوات مصرية لضرب تل أبيب
ـ التاريخ يلعب لصالح القاهرة .. والاستثمارات تلعب لصالح إسرائيل !
ـ الرئيس وضع الصورة الأخيرة لخريطة التبادل الإفريقى
إلى القاهرة عاد الرئيس عبدالفتاح السيسي، مساء الخميس، بعد جولة خارجية شملت أربع دول هي غينيا، وكوت ديفوار، والسنغال. مرورا بالعاصمة الأمريكية واشنطن، والتي كانت هي الزيارة الرسمية الثانية للرئيس إلى الولايات المتحدة، واستغرقت ثلاثة أيام.
زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى الثانية للعاصمة الأمريكية، جاءت في ظل مناخ جديد، وآفاق أرحب، حيث رسم انتصار مصر في معركتي الاقتصاد والإرهاب ملامح زيارة الرئيس لواشنطن. وصل الرئيس السيسى إلى واشنطن هذه المرة، ومصر تحظى بتقدير قاري وإقليمي وعالمي غير مسبوق، كنتيجة طبيعية لانجازات كبرى حققها شعب مصر في الداخل وفى سياسته الخارجية. وها هو المعنى الذي لخصته عناوين لقاءات الرئيس في واشنطن، ففي تصريحات الرئيس الأمريكي قال إن الرئيس السيسي قام بعمل عظيم في مكافحة الإرهاب. وبنفس اللغة قالت «كريستين لاجارد» مدير عام صندوق النقد الدولي عقب لقائها بالرئيس، إن الاقتصاد المصري ينمو بقوة، والبطالة في أدنى مستوياتها منذ 2011 والشعب المصري أبدى وعياً كبيراً لسياسات الإصلاح، وأنها هنأت الرئيس السيسى على هذا النجاح.
على جانب آخر، وقبل وبعد زيارته الناجحة للولايات المتحدة الأمريكية، توجه الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى ثلاث زيارات إفريقية بدأها بزيارته جمهورية غينيا، ويختتمها بزيارة السنغال، وبينهما زار جمهورية كوت ديفوار في زيارة تاريخية، هي الأولى لرئيس مصري، في ترجمة حقيقية لحركة السياسة الخارجية المصرية في قارة إفريقيا، في إطار انفتاح مصر على القارة، وحرصها على مواصلة تعزيز علاقاتها بدولها في كل المجالات، وتكثيف التواصل والتنسيق مع دول قارة إفريقيا، إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية المصرية.
الرئيس عبدالفتاح السيسي، أكد اعتزازه بكونه أول رئيس مصرى يزور كوت ديفوار، معربا عن التطلع بأن تثمر هذه الزيارة فى تدعيم أواصر الود وتعزيز العلاقات التاريخية السياسية والاقتصادية بين البلدين بما يتناسب مع ما يمتلكانه من إمكانات. وقال الرئيس، خلال مؤتمر صحفى مشترك مع رئيس كوت ديفوار الحسن واتارا فى قصر الرئاسة الإيفوارية بأبيدجان، إن كوت ديفوار دولة محورية فى غرب قارتنا الإفريقية وتلعب دورا مهما فى محيطها الإقليمي، كما تتحمل فى الوقت الراهن مسئولية تمثيل شواغل وقضايا القارة الإفريقية على الساحة الدولية من خلال عضويتها الحالية فى مجلس الأمن الدولي. وأشار الرئيس إلى أن زيارته إلى كوت ديفوار تتزامن مع رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي، وتهدف إلى دفع العمل المشترك بين البلدين نحو تعزيز الأمن والاستقرار وتحقيق التنمية والرخاء والارتقاء بالتنسيق القائم والمستمر بين البلدين فى هذا الشأن».
السيسى شهد مع الرئيس «واتارا» التوقيع على عدد من الاتفاقات فى المجالات السياحية والثقافية والصحية بهدف توطيد أطر التعاون بين البلدين والعمل على أن يمثل هذا التعاون نموذجا لباقى الدول الأفريقية ونسعى لأن يكون نجاح الزيارة الحالية خطوة أولى على طريق التعاون الثنائى لتحقيق الهدف الإفريقى الأسمى وهو التكامل الاقتصادي. وتناولت المباحثات بين الرئيسين سبل الاستفادة مما حققته مصر فى مجال البنية الأساسية لربط القارة الإفريقية بعضها ببعض لتأسيس التبادل التجاري، إضافة إلى التباحث حول تأسيس لجنة مشتركة بين البلدين للعمل على دعم البنية الأساسية فى مجال تكنولوجيا المعلومات خاصة فى مجال الهوية.
المباحثات تطرقت كذلك إلى الرؤية المشتركة بين مصر وكوت ديفوار لمحاور أولويات عمل الاتحاد الإفريقى خلال العام الحالى وسبل دفع جهود العمل الإفريقى المشترك، وقدم فى هذا الصدد التهنئة لكوت ديفوار بصفته رئيسا للاتحاد الإفريقى على التصديق على اتفاقية التجارة الحرة فى ديسمبر الماضي، حيث يعد تحقيق الدمج الاقتصادى أهم أولويات الرئاسة المصرية للاتحاد، وهو ما تتوافق مصر فيه مع كوت ديفوار كون الرئيس الحسن واتارا رائدا لجهود القارة فى تنفيذ أجندة 2063، مثمنا جهوده فى هذا الإطار ومؤكدا ثقته فى قدرته على توثيق جهود العمل الإفريقى المشترك فى هذا المجال. واتفق الرئيسان خلال المباحثات على تكثيف التشاور السياسى والتنسيق بين البلدين فيما يتصل بالقضايا الملحة على الساحة الإفريقية والملفات ذات الاهتمام المشترك، وما يأتى فى إطار تزامن رئاسة مصر للاتحاد الإفريقى وعضوية كوت ديفوار الحالية غير الدائمة لمجلس الأمن الدولى خاصة فيما يتعلق بجهود مكافحة الإرهاب وإعادة الإعمار فى مرحلة ما بعد النزاعات.
كما شهدت المباحثات بين الرئيسين اتساقا فى وجهات النظر بشأن عدد من القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك، خاصة الأزمة الليبية فى ضوء التطورات الأخيرة، وتم التوافق فى هذا الصدد حول تكثيف التشاور السياسى والتنسيق بين البلدين خلال الفترة المقبلة بخصوص الملفات الملحة على الساحة الإفريقية، ومن بينها تطورات الأوضاع فى بؤر النزاعات المختلفة بالقارة، إلى جانب أنشطة مكافحة الإرهاب والفكر المتطرف، وجهود إعادة الإعمار فى مرحلة ما بعد النزاعات، حيث أشاد الرئيس فى هذا السياق بالدور الذى تقوم به كوت ديفوار داخل المجلس فى تمثيل صوت إفريقيا فى عملية صياغة المواقف الدولية. واتفق الرئيسان في ختام المباحثات على تفعيل دور اللجنة المشتركة بين البلدين على مستوى وزراء الخارجية، وذلك لمتابعة ودفع مجالات التعاون الثنائية.
توقفنا عند ساحل العاج، لأن إسرائيل أنشأت عدة مؤسسات استثمارية لمنافسة وتشجيع حركة استثمار رجال الأعمال الإسرائيليين فيها. وتتولى شركة فيزيوول ديفنس الإسرائيلية الكندية تأمين مطار فليكس هوفيت بوني الدولي بالعاصمة الاقتصادية أبدجان وكذلك تأمين ميناء أبدجان المستقل، مما يعني أن حركة الأفراد والواردات والصادرات الاقتصادية للبلد خاضعة للرقابة الإسرائيلية.
هناك أيضًا هدف مهم وهو زيادة التبادل التجاري مع غرب إفريقيا، ومعروف أن اهتمام إسرائيل الاقتصادي بهذا الجزء من القارة، ظل مقتصرا على دول قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، فحجم التبادل التجاري بين إسرائيل وإفريقيا يظهر أن علاقات تل أبيب بها في المجال الاقتصادي ما زالت ضعيفة جدا. وقد كشف معهد الصادرات الإسرائيلية -في تقرير له سنة 2015- أن حجم صادرات إسرائيل نحو إفريقيا يبلغ فقط 1.6% في حين تصل الواردات من إفريقيا 0.5%، مما يعني أن استفادة إسرائيل من سوق بحجم تكتل «إكواس» الاقتصادي -والذي يبلغ حجم مستهلكيه 340 مليون نسمة، ويمتلك مقدرات اقتصادية هائلة وثروات طبيعية كبيرة ومتنوعة- ما زالت ضعيفة جدا.
وقد مهدت الدبلوماسية الإسرائيلية على مدار السنوات الأخيرة لمساعي اختراق غرب إفريقيا، فقبل حوالي سبع سنوات اعتبر ليبرمان في إحدى زياراته لإفريقيا أن إسرائيل ستدخل قريبا هذه المنطقة بشكل قوي وفاعل، وأن ثمة دولا أفريقية صديقة ستلعب أدوارا كبيرة لتهيئة التقارب الإسرائيلي مع «إكواس»، ذكر منها نيجيريا وغانا. وقد حصرت إسرائيل أدوات اختراقها الدول الأفريقية في جوانب التعاون الأمني والعسكري والاقتصادي، مركزة على الاقتصاد بوجه خاص بالنسبة للدول التي يصعب فيها تحقيق اختراق على مستوى الشعوب في المنظور القريب، لكونها في الغالب دولا ذات أغلبية مسلمة.
صحيح أن الحضور الإسرائيلي في فضاء غرب إفريقيا ليس متجذرا ولا تاريخيا، لكن إسرائيل -في المقابل- تحتفظ بعلاقات مهمة مع بلدان مؤثرة في هذه المنطقة، كنيجيريا مثلا التي تسللت إسرائيل إليها عشية استقلالها عن بريطانيا سنة 1960. واستطاعت تل أبيب أن تنجح في إقامة منشآت اقتصادية مهمة في هذا البلد، وكانت تمتلك شركة ضخمة للإنشاء والتعمير اسمها «نيوجيرسال». كما كانت إسرائيل داعما سخيا للانفصاليين النيجيريين في حرب بيافرا الأهلية عام 1967 (تواصلت هذه الحرب ما بين 1967-1970)، ولديها جالية كبيرة هناك ذات نفوذ اقتصادي ضخم.
كما أن لإسرائيل علاقات وطيدة مع غانا، حيث ساهم في تطوير العلاقات بين البلدين حضورُ غولدا مائير (كانت آنذاك وزيرة لخارجية إسرائيل) فعاليات تخليد استقلال غانا سنة 1957. لكن العنصر البارز في تحسن العلاقات يرجع من جهة إلى الخلفية الدينية للزعيم الأفريقي والأب المؤسس لدولة غانا أكوام أنكروما، الذي تربي في الإرساليات البروستانتيية التي تؤمن بالعودة المزعومة لليهود إلى فلسطين، ومن جهة أخرى إلى تأثر أنكروما وإعجابه بالجامايكي ماركوس كارفي المناصر لإسرائيل. ولا شك أن تأثير هذين البلدين في القرار الأفريقي على مستوى منظمة «إكواس» -إضافة للعلاقات الحميمة بين تل أبيب ونظام الرئيس الحسن وتارا في ساحل العاج- كانت من العوامل التي سمحت للقادة الأفارقة بالاحتفاء برئيس الوزراء الإسرائيلي في القمة الأخيرة للمنظمة.
أيضا، اعتمدت إسرائيل سياسة انفتاح جديدة على هذه المنطقة من إفريقيا بعد أن عاشت عزلة أو إهمالا أو هما معا، فأرادت أن تكون عودتها إلى هذه القارة مجددا قائمة على أسس صلبة. لذلك حصرت أدوات اختراقها الدول الأفريقية في جوانب التعاون الأمني والعسكري والاقتصادي، مركزة على الاقتصاد بوجه خاص بالنسبة للدول التي يصعب فيها تحقيق اختراق على مستوى الشعوب في المنظور القريب،. وعندما نتصفح مثلا مجالات التعاون بين إسرائيل وبلد كالسنغال نجد أن ملف الزراعة يعتبر إحدى الكلمات المفتاحية لهذه العلاقات، فإسرائيل جعلت الزراعة في صدارة تعاونها مع دكار. إنها سياسة تطمح عبرها تل أبيب ليس فقط للتأثير في الاقتصاد السنغالي -الذي تُعتبر الزراعة أحد أركانه الرئيسية- وإنما أيضا لتحقيق اختراق للوسط الريفي في بلد يعتنق أكثرُ من 95% من سكانه الدينَ الإسلامي، ويعدّ الوسط الريفي فيه أكثر محافظة من سكان المناطق الحضرية، كما أن نسبة 70% من سكانه يعتمدون على الأنشطة المرتبطة بالقطاعين الزراعي والرعوي.
ومن خلال الاقتصاد تحاول إسرائيل خلق مصالح لها مع الدول الإفريقية، فأقامت شركة النجمة السوداء للملاحة البحرية في غانا وشركة الأسطول البحري في ليبيريا، وساهمت في بناء مطار أكرا في غانا، وأقامت أيضاً مدارس وجامعات، مثل جامعة هيلاسيلاسي في إثيوبيا، ومستشفيات مثل مستشفى مصوع في أرتيريا، كما تقوم بتقديم المِنَح المالية من هيئة الماشاف الذي بدأ كمُقترح بإنشاء صندوق للمساعدات المالية و الفنية لدول آسيا و إفريقيا تابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية عام 1958 ثم تطوّر ليصبح الوكالة الإسرائيلية للتعاون الدولي. ولم يتوقّف نشاطه خلال فترة قطع العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، فكان جسراً مهماً لاختراق إفريقيا وتوطيد النفوذ الإسرائيلي فيها عن طريق تقديم دورات تدريبية للطلاب الأفارقة في مجالات الطب والزراعة والتعليم والصناعة ( وصل عدد الطلبة الأفارقة الدارسين في إسرائيل منذ أواخر الخمسينات حتى أوائل السبعينات إلى حوالى 16 ألفاً و797 طالباً). ويمثل المجال الأول عنصراً مهماً من عناصر التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا، حيث يدرس الأطباء الأفارقة في المستشفيات الإسرائيلية، كما ترسل إسرائيل البعثات الطبية إلى دول إفريقية مثل كينيا وليبيريا وناميبيا، ولم يفتها بالطبع استغلال وباء الإيبولا في غرب إفريقيا لتعمل على زيادة تواجدها في هذه المنطقة التي يبلغ عدد الإسرائيليين فيها نحو 5 آلاف نسمة. فأوغندا كانت محط اهتمام بن جوريون فور استقلالها وقدّم 150 منحة دراسية مجانية كإثبات للحضور الإسرائيلي إفريقيا. ولا تكتفي إسرائيل بالتوسّع الممّول حكومياً، بل تشجّع رجال الأعمال الإسرائيليين على إقامة المشاريع الاقتصادية في القارة الإفريقية، وتعتبرهم إحدى أذرعها لزيادة الاعتماد الإفريقي على إسرائيل، ليصبح خلعها من إفريقيا أو حتى محاصرتها كاستئصال الورَم يخرج بالدم واللحم فلا يغادر بسلام.
نحن أمام جولة خارجية مهمة ليس فقط لأنها شملت غينيا، وكوت ديفوار، والسنغال. مرورا بالعاصمة الأمريكية واشنطن، ولكن أيضًا لأن قمة السيسى وترامب اكتسبت أهمية بالغة من حيث توقيتها فى ظل التحديات والتطورات التى تشهدها المنطقة، والتى تعكس حرص الرئيس الأمريكي على الاستماع والتعرف على رؤية مصر فى حل الازمات التى تشهدها المنطقة وفى مقدمتها القضية الفلسطينية ، وتتمسك مصر بموقفها، مؤكدة أن تحقيق السلام والأمن فى المنطقة مشروط بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وأعلنت مصر بشكل قاطع رفضها لقرار الرئيس الأمريكي الأخير بالاعتراف بالسيادة الاسرائيلية على هضبة الجولان السورية المحتلة.
بالتالي، يمكننا أن نقول إن زيارة الرئيس للولايات المتحدة أكدت أن هناك مسارا جديدا ونقلة نوعية فى العلاقات المصرية ـ الأمريكية، إلى جانب التنسيق المشترك بين البلدين فى القضايا الإقليمية والدولية، وتسوية أزمات المنطقة عن طريق الحلول السياسية، وتأكيد حقوق الشعب الفلسطيني، وفقا للمرجعيات الدولية، وبحث سبل استئناف عملية السلام، للوصول إلى حل عادل، وكذلك الأوضاع في سوريا وليبيا واليمن، وقد ساعدت القمة على تقريب وجهات نظر الزعيمين فى هذه القضايا.
أما الجولة الأفريقية، فزادت من انفتاح مصر على القارة السمراء، وأكدت حرصها على مواصلة تعزيز علاقاتها بدول القارة في كل المجالات، وأدت إلى تكثيف التواصل والتنسيق مع أشقائها الأفارقة، إضافة إلى تدعيم التعاون مع هذه الدول على كل الأصعدة، وبالأخص الصعيدين الاقتصادي والتجاري، في ضوء الأولوية المتقدمة التي تحظى بها القضايا الأفريقية في السياسة الخارجية المصرية. وأن التواجد المصري بهذا الشكل، قام بتعويض غياب السياسات العربية لمحاصرة الدور الإسرائيلي في هذه المنطقة، وقلل من تأثير هرولة بعض الدول العربية نحو التطبيع مع إسرائيل في هذا التوقيت بالذات!.