الموجز
الخميس 21 نوفمبر 2024 10:52 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن: الساعات الأخيرة من قلب فرنسا.. شبح السبت الأسود يطارد ماكرون


باريس تحترق.. وغموض حول حقيقة
أصحاب السترات الصفراء
بعد أن كان السبت يوماً عاديا، ككل أيام السنة، تحوّل في فرنسا إلى يوم "أسود".. بدأ داكناً بعض الشيء في بداية الأحداث، ومع كل أسبوع ظلت دكانته تزداد حتى أصبح اليوم حالك السواد. وانقلب إلى اللون الأحمر بلون دماء مئات الجرحى من المحتجين ورجال الأمن، أو بلون لهب الحرائق التي اشتعلت في الأحياء الباريسية الراقية.
الاحتجاجات هدفها منع فرنسا من أن تصبح دولة ليبرالية متعولمة، وهدفها أيضاً فرملة ماكرون الذي كان قد وعد في خطاباته، وفي حملته الانتخابية، بأنه سيعيد تجديد فرنسا ويطلق إبداعاتها! وعلى هذا الأساس بدأ في إصلاحاته، منها زيادة ساعات العمل، وخفض سن التقاعد، وتقليص النفقات، وزيادة الضرائب غير المباشرة، وتخفيضها على الشركات لجذبها لفرنسا، ومحاباة رجال الأعمال.
الدولة الفرنسية في عصر العولمة لم تعد تستطيع تلبية شعار "الحرية والإخاء والمساواة"، بالتحديد في المجال الاقتصادي. ولا ضمان مساواة اقتصادية، ولا خدمات اجتماعية سخية للمواطن. فالعولمة من تداعياتها أنها أطلقت العنان لرجال الأعمال، وأصبحوا عملياً أسياد العالم، وساهمت العولمة كذلك في نقل الصناعات من قارة أوروبية إلى قارات أخرى في العالم بحثاً عن عمالة رخيصة. بهذا السياق العولمي شعر الفرنسيون، بالتحديد "أصحاب السترات الصفراء"، أنهم خاسرون، وأن دولتهم أصبحت تسمع وتأتمر وتخضع لرغبات الأثرياء من رجال الأعمال.
هذه السياسة الاقتصادية المتعولمة كان لا بد أن تصطدم برفض الفرنسي لأنها تنطوي على تغيير في دور الدولة؛ فالدولة لم تعد الضامن للمجتمع بما يتضمنه من مساواة اقتصادية، ورفاهية اجتماعية، بل تتحول تدريجياً إلى دولة محايدة همها ضمان الأمن، وترك المواطن ينافس ويكد ليكسب عيشه، وفق معادلة الناجح يأخذ كل شيء. لذا فإن الاحتجاج الواسع هو رد شعبي صارم على تغيير مفهوم الدولة؛ المحتجون يريدون دولة ضامنة وليس دولة محايدة. بالمقابل فإن النظام الليبرالي الذي جسدته رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر ينكر المجتمع ويلغي ضامنه الدولة؛ لذا قالت عندما سُئلت عن دور الدولة لضمان المجتمع: "لا يوجد مجتمع بل يوجد أفراد! هذا النظام الليبرالي يعترف بالأفراد ويترك لهم أن يتنافسوا، ويكسبوا كل حسب قوته، والدولة دورها تأمين الأمن والاستقرار، ولربما الحد الأدنى من رعاية اجتماعية. هذا الشكل من الدولة هو ما يعتقد المحتجون في فرنسا أن رئيسهم يأخذهم إليه، وهم يرون أن رئيسهم يمثل مصالح الناجحين من رجال الأعمال، بالتالي هم ضد رئيسهم لأنه يجسد هذا النظام الظالم.
بدأت الاحتجاجات قبل ثلاثة أسابيع، وخرجت في بدايتها رافضة لقرار زيادة الضرائب على أسعار الوقود، قبل أن تتطور بعد ذلك لتعكس غضبًا واسع النطاق على الحكومة، وتشمل قضايا أخرى منها إصلاحات في نظام التعليم. وكانت الحكومة الفرنسية قد قالت إنها ستجمد القرار المثير للجدل بزيادة ضريبة الوقود في ميزانيتها، إلا أن شعورا تنامى بعدم الرضا عن أداء الحكومة، بحيث تحولت الاحتجاجات لتثير عددا من القضايا الأخرى.
الحكومة الفرنسية زعمت أن "عناصر راديكالية" تحاول استغلال احتجاجات "السترات الصفراء" لإسقاط النظام في البلاد، محذرة من أن الرد عليهم سيكون "مناسبا وحاسما". وفي تعليقه على الفعالية الاحتجاجية المزمعة قرب قصر الإليزيه في باريس، قال المتحدث باسم الحكومة بنجامين جريفو في حديث لصحيفة "لوباريزيان" الفرنسية: "عناصر مسيّسة وراديكالية تحاول استغلال الحراك. هم يريدون الإطاحة بالسلطة". وأعرب المتحدث عن قلقه إزاء احتمال "انتشار الأسلحة النارية" بين المتظاهرين، وقال: "قتل أربعة أشخاص وأصيب مئات آخرون خلال الفعاليات الاحتجاجية. وتابع: "السترات الصفراء" الحقيقيون يجب ألا يكونوا دروعا بشرية. يوجد في صفوف المتظاهرين من يمنع الشرطة من شن حملات التوقيف". كما نصح جريفو المواطنين بعدم المشاركة في احتجاجات السبت في باريس، محذرا من أن "أي اعتداءات خلال التظاهرات ستواجه برد مناسب وحاسم". وأكد أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سيلقي كلمة في وقت قريب حول الوضع في البلاد على خلفية الاحتجاجات الأخيرة.
في وقت سابق من يوم الجمعة صرح رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية ريشار فيران لوكالة الأنباء الفرنسية بأن ماكرون سيلقي خطابا "مطلع الأسبوع المقبل" حول أزمة "السترات الصفراء" التي تشهدها فرنسا، موضحا أنه اختار هذا الموعد لتجنب "صب الزيت على النار" قبل تظاهرات السبت. وبعد ثلاثة أسابيع من التعبئة الشعبية احتجاجا على زيادة أسعار المحروقات، تستعد الحكومة للأسوأ وتخطط لنشر 89 ألف شرطي بينهم ثمانية آلاف في باريس وحدها لاحتواء مظاهر العنف المتوقعة.
كان رئيس الحكومة الفرنسية إدوار فيليب أعلن، الخميس، تعبئة استثنائية في صفوف قوات الأمن للتصدي لأعمال تخريب وعنف محتملة قد تندلع خلال احتجاجات "السترات الصفراء"، مشيرا إلى نشر 89 ألف شرطي وعربات مدرعة لم تستخدم منذ أعمال الشغب التي شهدتها ضواحي باريس في 2005. وكان الإليزيه قد عبّر، الأربعاء الماضي، عن خشيته من أعمال عنف واسعة خلال تظاهرة السبت، على الرغم من تراجع الحكومة عن قرار زيادة الضريبة على الوقود، في خطوة أملت أن تكون حاسمة لتراجع الاحتجاجات.
تصرفات للشرطة الفرنسية أثارت غضبا وانتقادا كبيرين، بعدما ظهر عناصر منها في مقطع فيديو وهم يركّعون طلبة بمدرسة ثانوية، فيما بدا شبيها بطريقة "الإعدام رميا بالرصاص". وقال موقع "بي إف إم تي في" الفرنسي إن الفيديو جرى تداوله على نطاق واسع خلال الساعات الماضية، حيث يظهر إيقاف العشرات من التلاميذ قرب مدرسة ثانوية في "مانت لا جولي" بطريقة مهينة وغير أخلاقية.
يرصد الفيديو نحو 150 طالبا راكعين يضعون أياديهم فوق رؤوسهم، في مشهد يوحي بأسرى الحرب أو باللحظة التي تسبق تنفيذ الإعدام رميا بالرصاص. وذكرت إذاعة "فرانس إنفو" أن السلطات الأمنية اعتقلت الطلاب بعد اندلاع أحداث عنف تخللها إحراق سيارتين، والإضرار بالمباني العامة. وواجهت الشرطة كما هائلا من الانتقادات شديدة اللهجة، حيث أجمعت كلها على أن تعامل العناصر الأمنية مع التلاميذ غير مقبول، ودخيل على المجتمع الفرنسي. ورد الأمن على هذه الانتقادات بالقول إنه وضع ‏الطلاب بهذا الشكل في انتظار وصول التعزيزات، مشددا على أن الهدف كان ضمان أمن الطلاب قبل كل شيء.
ماكرون جاء من وسط مالي واقتصادي، حيث عمل في البنوك وتولى حقيبة الاقتصاد مع الرئيس هولاند، دخل الحملة الرئاسية ببرنامج انتخابي حمل وعوداً عريضة بإصلاح اقتصادي واسع، أهم محطاته الإصلاح الضريبي. اُنتخب بأصوات الرفض للآخرين وليس بأصوات المؤيدين له. مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف التي نافسته هي من رفعته إلى كرسي الرئاسة. مشكلة أوروبا اليوم أنها وسط رأسمالية جديدة متحركة. تداخل فيها النسيج الأوروبي عبر سياسات مالية معملها في بروكسل. والعولمة التي فرضت حقائق عابرة للدول، وغزو التقنية للمصانع الصغيرة والكبيرة، مما أعاد صياغة مواصفات الطبقة العاملة وتسبب برفع نسبة البطالة.
تغيرت المفاهيم في العقول والحسابات على الأرض. الطبقة الوسطى تغيرت اليوم في كل الدنيا من حيث القدرات على مستوى الدخل ونمط الحياة. الفوارق بين الطبقات تتغير وتتسع، ومساحة الفقر لا تتوقف عن التمدد. وبالتالي كان العنوان هو رفض برنامج الإصلاح الاقتصادي، كما سماه الرئيس ماكرون في برنامجه الانتخابي. هذا البرنامج هو الأساس لإعادة ترتيب البلاد اقتصادياً، لكن الغالبية من الشعب الفرنسي تراه يصب في مصلحة الأقلية الغنية. زيادة الضرائب على المحروقات ومروحة واسعة من الإجراءات المالية ستغير حركة آلة الحياة العامة في فرنسا. برزت الأزمة أمنياً، حالة غضب شعبي شامل عنيف يتحرك فيه آلاف من شرائح مختلفة، بلا قيادة لها أسماء أو تنظيمات أو أحزاب محددة، كل ما يجمعهم لون السترات التي يرتدونها. النظام في فرنسا رئاسي، بمعنى أن القرار في مجمله بيد الرئيس.
مشكلة ماكرون أن طموحاته أكبر من قدراته؛ يريد أن يكون رجل أوروبا، ومنافس ترامب، والمؤثر في العالم! يريد كذلك أن يغير دور الدولة الفرنسية! هذا ليس صعباً بل شبه مستحيل، لذا يتستر ماكرون على توجهاته بتوسل شعارات وإجراءات مثل زيادة ضريبة الوقود وتقديمها على أنها لحماية البيئة! هذه الزيادة، كمثال، ستدر عائدات على خزينة الدولة، لكنها بالمقابل سترهق الطبقة الفقيرة، وأصحاب الدخول المتوسطة، وليس الأغنياء الذين يحاول ماكرون تخفيض الضرائب عليهم، وعلى شركاتهم، بحجة جذب الاستثمار وزيادة الإنتاج وفرص العمل. هذا النهج الماكروني لم ينطل على الفرنسيين، لأنهم استشعروا تداعياته على حياتهم وكدهم ودخولهم. ويعرف المحتجون أيضاً أنه في كندا، على عكس فرنسا، فرض رئيس الوزراء الكندي ضرائب مماثلة، لكن بالتشاور مع المواطنين ووفق إجراءات وقائية؛ منها أن العائدات الضريبية لا تستخدم لسد ديون الدولة، بل لدعم الطاقة البديلة وتطوير النظام الصحي، وبناء منازل سكنية مناسبة؛ أي إعادة تدويرها على المواطنين، وليس لتسديد فواتير الدولة المستحقة للأغنياء.