ياسر بركات يكتب عن:دماء على الورق الأبيض
الجحيم الذى ينتظر الصحافة فى مصر
كيف تنجو المهنة من الألغام الموضوعة فى طريقها؟
الجهاز المركزى للإحصاء يحذر من تراجع إصدار الصحف اليومية والتأثير السلبى على لاقتصاد السوق
تحديات جديدة ومستمرة تواجه الصحافة الورقية قد تؤدى للأسف إلى توقف بعضها عن الصدور، واكتفاء بعضها بمواقع إلكترونية، وكأن هناك من يصرون على إصدار شهادة وفاة للصحافة، بدلا من مساعدتها على التطور، والانتقال إلى مراحل مختلفة من أجل التكيف والإبداع والتعايش مع تحديات عالم الفضاء الإلكترونى بكل أدواته، وتغير عادات القراءة بمختلف أسبابها.
مع التطور التكنولوجى السريع فى مجال الوسائط المتعددة وفرض الإعلام المرئى الفضائى نفسه على المشهد بشكل شبه كلى واستحواذ الإذاعات حيزا مهما فى معركة نقل المعلومة، لا تزال الصحافة المكتوبة قادرة على الحفاظ على استمرارها لتبقى مصدرا للخبر مع أنها بدأت تفقد فئة من جمهورها يوما بعد آخر، ومن غير المحتمل أن تفقد موقعها مع محاولات صانعى الصحافة استغلال الإنترنت على نحو فعال.
منذ عشرين سنة، ومع بداية ظهور الصحافة الإلكترونية قيل كثيراً إن هذا المولود الجديد سيسقط الصحافة المكتوبة عاجلا أم آجلا من على عرشها الذى سيطرت عليه طيلة عقود. وتزايدت تلك التوقعات بعد أن بدأت المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعى تستأثر باهتمام المتصفحين. لكن السنوات العشرين مرت وما زال الأمر محل جدل متواصل وما زال كل شىء نسبياً أو مجرد توقعات.
بل على العكس «لا تزال الصحف موثوقاً فيها وسط ثورة وسائل التواصل الاجتماعى»، وكان هذا عنوان مقال سير مارتن سوريل أحد أكبر صناع الإعلان والعلاقات العامة فى العالم، فى مقال نشرته جريدة الـ«صنداى تليجراف» البريطانية أكد فيه أن الصحف الورقية مازالت مصدراً جديراً بالثقة وسط بحر من المعلومات الرقمية الخاطئة بوصفها تقف حارسا وجهة مسئولة عن مصالح المعلنين أكثر من غيرها. وأوضح سوريل أن «العيوب المدركة والحقيقية فى الإعلام الرقمى هى مصدر محتمل لميزة تنافسية للصحف - فى كل من المطبوع والأشكال الرقمية للصحف». ويواصل قائلا: «نظرا لأن جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها يواجهون اتهامات بتحولهم إلى منصات للكراهية والأخبار المزيفة.. فإن عدم الثقة فى المعلومات التى تتم مشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعى يجب أن يزيد من شهية الجمهور لمتابعة الوسائل التقليدية الأكثر مصداقية». ويقول سوريل إن أحدث الأبحاث تكشف عن أن الصحف يمكن أن تزيد من فاعلية الحملات الإعلانية بنسبة ٣٠٠ ٪. كما يشير إلى أن الدراسات العالمية تبين أن الناس أكثر انخراطا واندماجاً مع محتوى الصحف أكثر من استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعى المتنوعة وهو يعتبر أن هذا الأمر هو أحد الاعتبارات المهمة للمعلنين الذين يبحثون عن اهتمامات المستهلكين والوصول إلى محافظ أموالهم.
مع ذلك، فإن الواقع مظلم. والأرقام تجعله أكثر إظلاما، إذ إن عدد الصحف اليومية المصرية حالياً 23 صحيفة؛ منها 9 صحف قومية، و13 خاصة، وواحدة حزبية هى جريدة «الوفد»، وفقاً لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، الذى أفاد فى شهر مايو قبل الماضى، فى تقرير أصدره بمناسبة اليوم العالمى لحرية الصحافة، بأن عدد الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية فى مصر كان قد بلغ 75 صحيفة، منها 3 صحف حزبية سنة 2015، مقابل 80 صحيفة عامة منها 8 صحف حزبية عام 2014، بانخفاض بلغت نسبته 6٪.
الأرقام السابقة تعطى مؤشراً سلبياً عن حالة الصحافة المطبوعة فى مصر، إذا ما قورنت ببيان الجهاز الحكومى نفسه عام 2012، حيث أفاد بأن عدد الصحف المصرية آنذاك بلغ 142 صحيفة فى عام 2010، فيما بلغ عدد الصحف الحزبية فى العام نفسه أيضاًً 23 صحيفة، لا يصدر منها الآن سوى صحيفتين «الوفد» و«الأهالى»، وفقاً لرئيس المجلس الأعلى للصحافة سابقاً. كما ذكر بيان «الإحصاء» سنة 2012 أيضاًً، أن عدد النسخ الموزعة محلياً بلغ 917.9 مليون نسخة عام 2010 بمتوسط 2.5 مليون نسخة يومياً، لكنها هبطت إلى 560.7 مليون نسخة فى عام 2015. بمتوسط نحو مليون ونصف المليون نسخة، ويقدر الخبراء نسب التوزيع الحالية بـ400 ألف نسخة فقط لكل الصحف المصرية يومياً.
عالمياً تعد عائدات الصحف المطبوعة الأسوأ منذ العام 2009، فوفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال»، يواجه قطاع الصحف انخفاضاً متسارعاً فى عائدات الإعلانات المطبوعة، وضغوطاً كبيرة فى السوق، ما اضطر بعض الناشرين إلى اعتماد سياسة تخفيض التكاليف، وإدخال تغييرات جذرية على المنتجات المطبوعة. وأشارت «الصحيفة» إلى أن الإنفاق العالمى على إعلانات الصحف المطبوعة قد انخفض بنسبة 8.7% عام 2016، أى ما يعادل 52.6 مليار دولار أمريكى، وذلك وفقاً لتقديرات الشركة المتخصصة فى شراء الإعلانات، GroupM التى أشارت إلى أن ذلك الانخفاض هو الأكبر منذ الركود الاقتصادى فى عام 2009، حين انخفض الإنفاق بنسبة 13.7%. ورأت أن هذا الانخفاض سيكون له ارتدادات سلبية على كبار الناشرين حول العالم، ما قد يزيد من عبء الضغوط عليهم لتعزيز الإيرادات الرقمية أو الإسراع للتعويض عن الإيرادات المفقودة، وصولاً إلى إعادة النظر فى شكل المطبوعات ومحتواها. ولهذا السبب، سارعت صحف عالمية عريقة إلى تقليص التكاليف للتأقلم مع الواقع الجديد، منها «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، أما صحيفتا «ذى جارديان» و«ديلى ميل» فأقدمتا على تقليص عدد الوظائف وتسريح مئات الموظفين.
حسب تقرير نشرته مؤخرا جمعية ناشرى الصحف، يظل ملياران ونصف المليار من البشر يقرأون الصحف الورقية كل صباح. خاصة فى دول العالم الثالث، وفى الصين والهند. لكن، طبعاً، كلما ظهرت صحيفة أو موقع إلكترونى، قل الإقبال على صحيفة ورقية. وقد ظهرت هذه الحقيقة بصورة واضحة مع نهاية تسعينات القرن الماضى. بحلول قنوات تليفزيونية فضائية تعمل 24 ساعة فى اليوم، وبانتشار الكومبيوتر الشخصى، صار الإنترنت يشكل تحدياً مستمراً لمعظم الصحف الورقية، خاصة فى أوروبا وأمريكا الشمالية. انخفض التوزيع مدفوع القيمة. وقل دخل الإعلانات التى، عادة، تشكل الجزء الأكبر من إيرادات معظم الصحف. ما أدى إلى انخفاض عام فى الأرباح. وأطلقت كثير من الصحف حول العالم طبعات فى الإنترنت، فى محاولة لمتابعة التحول العظيم، وللمحافظة على قرائها.
لكن، تظل، فى بقية العالم، الطباعة أرخص، والتوزيع أرخص. وتظل زيادة الإلمام بالقراءة والكتابة. وتظل الطبقات الوسطى فى كثير من الدول النامية تزيد. ففى عام 1995، كانت صحيفة «أمريكان ريبورتر» أول صحيفة يومية، بصحفيين متفرغين، ومحتوى أصلى، تبدأ فى الإنترنت. اليوم، توجد أكثر من 10 آلاف صحيفة رئيسية يومية فى الإنترنت. ويزيد العدد بمعدل مائة كل يوم.
تظل الصحف الورقية تواجه ارتفاع أسعار ورق الصحف، وتراجع مبيعات الإعلانات، وفقدان كثير من الإعلانات المبوبة. وهناك العديد من الدراسات ما زالت تتوقع، ومنها دراسة لشركة ماكينزى الأمريكية للاستشارات، منذ سنتين تقريبا، انتهت إلى أن العديد من الأشخاص على استعداد للتنازل عن متابعتهم للصحف والمجلات المطبوعة نهائيا. ومع ذلك لا تزال هناك نسبة ليست بالقليلة تحافظ على اشتراكاتها فى هذا النوع من الإعلام رغم التكاثر الكبير للمواقع الإخبارية التى تقدم لهم الأحداث يوميا على نطاق أوسع وبشكل أنيق لا يخلو من المنافسة فى ما بينها. والأكثر من ذلك هو أن خبيرا مثل فيليب ميير توقع فى كتابه «نهاية الصحيفة» الذى صدر العام الماضى، أن يشهد عام 2043 نهاية آخر صحيفة ورقية فى الولايات المتحدة٬ لكن عالم المستقبليات داوسن كان أقسى منه فى إثارة ذلك الموضوع، إذ توقع قبل خمس سنوات أن يشهد عام 2022 موت الصحافة المطبوعة نهائياً!!
هذه الوضعية تشهدها أيضاًً كبريات الصحف الأمريكية التى تَكَبَّدَت ديوناً بملايين الدولارات، مثل «نيويورك تايمز» التى أرهقتها ديون تجاوزت مليار دولار، وسجلت أسهمها تراجعاً بنسبة 55% فى سنة 2015، ما اضطر الصحيفة إلى تخفيض رواتب معظم موظفيها بنسبة 5%، بينما تراجع عدد محرريها إلى 1250 بعد أن كان يُقَدَّر عددهم بــ1330 محرِّراً». وأوقفت صحيفة «الواشنطن بوست» إصدار عددها الأسبوعى الخاص، وعمره 27 عاماًً، بعدما انخفضت نسبة مبيعاته، بينما اتجهت صحف أخرى مثل «لوس أنجلوس تايمز» إلى تسريح عدد كبير من موظفيها. وفى فرنسا، عرف عدد من المؤسسات الإعلامية المصير نفسه وبدأ التراجع عن الحديث حول «الاستثناء الفرنسى» بعد أن توقفت صحيفة «فرانس سوار» نهائيًّا عن الصدور، منذ شهر نوفمبر 2011، واكتفت بطبعتها الإلكترونية إثر تراجع مبيعاتها إلى أقل من 40 ألف نسخة فى اليوم. أما الصحف والمجلات الأقل صيتاً فقد قامت بتسريح عدد كبير من العاملين فيها؛ ما جعل الكاتب والخبير الفرنسى برنار بوليه (Bernard Poulet) يشير فى كتابه «نهاية الصحف ومستقبل الإعلام» (La fin des journaux et l’avenir de l’ information) إلى أن نهاية الصحف المطبوعة وشيكة و«تبقى مسألة وقت» لا غير.
لإثبات هذه الفكرة ينقل الكاتب تصريحاً لـ«إيريك فوتورينو« (Éric Fottorino)، مدير صحيفة «لوموند» الفرنسية المشهورة، الذى يعتبر أن «النموذج الاقتصادى الذى تم على أساسه بناء مجد الصحافة منذ عقود عدة بدأ يتآكل وأن هذه الحالة المثبتة تنطبق بحق على معظم الصحف اليومية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وباقى دول أوروبا»، مضيفاً: فى 2001 بلغت الإيرادات الإعلانية لصحيفة لوموند مستوى قياسياً وصل 100 مليون يورو، أما اليوم فهى بالكاد لا تتجاوز 50 مليون يورو«، مشيراً إلى أن «عائدات لوموند من الإعلانات بلغت بعد الحرب العالمية الثانية 40%، وفى السبعينات 60%؛ أما اليوم فإنها لا تتجاوز 20%.
وبالإضافة إلى تراجع عائدات الإعلان فى الصحف الورقية الفرنسية، ذكر برنار بوليه عوامل أخرى صنَّفها ضمن الأسباب الرئيسية لأزمة الصحف الورقية، منها: «ارتفاع تكاليف صناعة الورق وسعره والمواد الأولية ومصاريف التوزيع والعدد الضعيف لنقاط البيع، وعدم الإقبال المتزايد من قِبَل القراء الشباب على قراءة المطبوع؛ إذ تراجعت نسبة الفرنسيين، الذين يبلغ سنهم أكثر من خمسة عشر عاماًً، ممن كانوا يقرأون صحيفة يومية من 59% عام 1967 إلى 34% سنة 2005»، ويُتَوَقَّع أن تكون النسبة اليوم فى حدود 25%.
إن العوامل والمؤشرات التى قادت إلى تراجع مَجْدِ الصحف الورقية الفرنسية هى نفسها التى قادت إلى تراجع نسب توزيع الصحف الورقية العربية وخاصة المصرية باعتبارها الأكثر تضرراً فى المنطقة العربية. غير أن أزمة التوزيع لم تكن الوحيدة التى طالت الصحف المصرية، لكن الأزمات المالية كانت السبب الرئيسى فى إغلاق عدد من الصحف. ومع أن التكنولوجيا الحديثة أعادت تشكيل كل مظاهر النُّظم الاتصالية الأساسية، إلا أن المؤسسات الإعلامية العربية وكذلك المنظومات الإعلامية التقليدية، لم تتمكن بعد فى ظل تبدُّل وظائف الإنترنت التفاعلية والإعلام المتعدد الوسائط، من إعادة النظر فى معظم المفاهيم الجوهرية حول أساليب جمع المعلومات ونشر الأخبار، أو فرض أنماط جديدة لممارسة مهنة الصحافة.
صناعة الصحف فى مصر، كانت تحقق عائدات سنوية تبلغ قيمتها نحو نصف مليار جنيه من التوزيع فقط قبل 5 سنوات، لكن انخفاض حجم التوزيع والإعلانات حالياً بدرجة مخيفة يعطى مؤشراً على اقتراب نهاية أجل الصحافة الورقية فى مصر. ونشير هنا إلى أن الأرقام الرسمية تؤكد تراجع نسب التوزيع حالياً. كما أن ارتفاع نسب إغلاق الصحف تؤيدها أرقام رسمية أخرى سلبية صادرة من «الهيئة الوطنية للصحافة»، التى أكد رئيسها فى تصريحات تليفزيونية أن ديون الصحف القومية وصلت إلى 19 مليار جنيه وهو مؤشر غير مبشر للخروج من الأزمة.
لو حدث ذلك نكون أمام كارثة حقيقية. ويكفى أن نشير إلى دراسة صدرت عن جامعة «فورتسبورج» الألمانية، أكدت أن درجة ثقة القراء فى الصحافة التقليدية فى ألمانيا ارتفعت جدا فى وقت تسود فيه حالة من الشك إزاء وسائل الإعلام فى أجزاء كثيرة من العالم الغربى. فوفق التقرير، قال 55.7٪ من الجمهور إنهم يثقون فى الصحافة التقليدية بزيادة قدرها ١٠ نقاط مئوية عن عام ٢٠١٥. ومن المثير للاهتمام، تحسن موقف الصحافة التقليدية نسبيا بين صغار السن الذين تتراوح أعمارهم ما بين ١٥ و٢٤ عاماً، فقد أعرب ٦ من كل ١٠ أشخاص عن ثقتهم فى الصحافة الورقية فى عام ٢٠١٦. وقالت الدراسة إن ثقة الألمان فى وسائل الإعلام ارتفعت بشكل حاد فى العام الماضى وهو أعلى مستوى من الثقة منذ إجراء المسح لأول مرة فى عام ٢٠٠٠.
نتائج الدراسات تظهر دائما أن الناس لديهم تقدير أكبر لقيمة وسائل الإعلام الراسخة فى عصر التقارير الإخبارية «الوهمية» التى تنتشر من خلال شبكات التواصل الاجتماعى. وأظهر التقرير أن أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين ٢٥ و٣٤ أقل احتمالا للثقة فى الصحافة المطبوعة، حيث يمنح واحد فقط من بين كل اثنين ثقته فى الصحيفة الورقية، بينما ثلثا من تجاوزت أعمارهم ٧٥ عاماً تزيد درجة ثقتهم فى الصحف. ومن التفسيرات لتلك الحالة أن ألمانيا قد تكون أقل عرضة للأخبار الوهمية Fake News من بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وذلك لتفضيل المستهلكين هناك للصحف والتليفزيون العام كمصادر رئيسية للمعلومات السياسية.
قد تكون الصحافة الورقية مريضة، فهى آخر الملتحقين بقائمة ضحايا التكنولوجيا الحديثة، لكن الكلام عن نهاية الصحافة الورقية وإعلان موتها، وأن كل ما بقى هو تحديد موعد مراسيم التشييع والدفن فى القادم من السنوات، تبقى محل نقاش لأكثر من سبب، أبسطها هو أن الصحافة هى المحتوى وليس الوعاء الذى تصدر فيه، وهو ما عبر عنه «خوان سينور» المستثمر فى مجال الإعلام والأكاديمى فى جامعة أكسفورد حين قال بأن الصحافة الورقية لن تموت، مضيفا بأن الشكل الحالى للصحافة الورقية قد يختفى أو يتأثر، لكن فى النهاية سيكون هناك نموذج ورقى ناجح بشكل أو بآخر.
صحيح أن الصحافة الورقية فقدت وظيفة الأخبار، وتحقيق «السبق» المحسوب لها تاريخيا، مع ظهور صحف إلكترونية أكثر سرعة فى نقل الخبر وتقديمه للجمهور المهووس بالمتابعة. غير أن الخبر وحده ليس كل ما يطلبه القارئ، فإلى جانبه يحتاج إلى زاوية معالجة، وتحليل للمعطيات، واستقصاء عما وراء الخبر، ومقالات جادة وتقارير. والمؤكد هو أن الصحافة الورقية تبقى أكثر احترافية من الصحافة الإلكترونية، رغم نجاح هذه الأخيرة فى نقل القارئ أو المتصفح مباشرة إلى موقع الحدث بالصوت والصورة، فيما تجبر الورقية على الانتظار ساعات قبل طبع الخبر. بيد أنها تتميز بقدرتها على حفظ الأرشيف القومى للشعوب، وصيانة الذاكرة الجماعية، والمساهمة فى حفظ التاريخ اليومى للإنسان. فى حين يفتقر الإلكترونى إلى الديمومة؛ فالتراث الرقمى قابل للتغيير والتحريف والإضافة والحذف بسهولة.
الخلاصة هى أن الصحافة الإلكترونية تتقدم على المستوى الكمى فقط، أما الجودة والنوعية والتأثير فتأبى الصحافة الورقية مفارقتهم. ولا أدل على ذلك من تجربة الموقع الإلكترونى «ويكليكس» أو مؤسسه جوليان أسانج، الذى لم يستطع إثارة ضجة عالمية بوثائقه السرية التى نشرها على موقعه، إلا بعد لجوئه إلى صحف مطبوعة بشكل ورقى.
وأخيراً، هناك اعتقاد بأن الصحف المصرية بشكلها الحالى قد لا تستمر طويلاً، وهناك رهانات على كيانات جديدة ستظهر وقديمة ستختفى. بل هناك من يؤكدون أن المؤسسات القومية ليس لها مستقبل بوضعها المالى الحالى فى ظل توجهات الحكومة الحالية برفع الدعم عن المؤسسات العامة. ويبدو أن تلك التوقعات بدأت تتحقق حيث يواكب مجتمع السلطة الرابعة انسحاب صحف ورقية من المشهد واحدة تلو الأخرى لتترك مكانها لاستسهال الصحف الإلكترونية وشائعات وأكاذيب شبكات التواصل الاجتماعى. ولن يستطيع الاستمرار فى سوق الصحافة الورقية؛ إلا من يحافظ على محتواه ومضمونه المقدم للجمهور، ولا بد من إيجاد بدائل حتى تتمكن الصحف من التغلب على أزماتها، وليكن بدعم حكومى، للجاد منها على الأقل.
كيف تنجو المهنة من الألغام الموضوعة فى طريقها؟
الجهاز المركزى للإحصاء يحذر من تراجع إصدار الصحف اليومية والتأثير السلبى على لاقتصاد السوق
تحديات جديدة ومستمرة تواجه الصحافة الورقية قد تؤدى للأسف إلى توقف بعضها عن الصدور، واكتفاء بعضها بمواقع إلكترونية، وكأن هناك من يصرون على إصدار شهادة وفاة للصحافة، بدلا من مساعدتها على التطور، والانتقال إلى مراحل مختلفة من أجل التكيف والإبداع والتعايش مع تحديات عالم الفضاء الإلكترونى بكل أدواته، وتغير عادات القراءة بمختلف أسبابها.
مع التطور التكنولوجى السريع فى مجال الوسائط المتعددة وفرض الإعلام المرئى الفضائى نفسه على المشهد بشكل شبه كلى واستحواذ الإذاعات حيزا مهما فى معركة نقل المعلومة، لا تزال الصحافة المكتوبة قادرة على الحفاظ على استمرارها لتبقى مصدرا للخبر مع أنها بدأت تفقد فئة من جمهورها يوما بعد آخر، ومن غير المحتمل أن تفقد موقعها مع محاولات صانعى الصحافة استغلال الإنترنت على نحو فعال.
منذ عشرين سنة، ومع بداية ظهور الصحافة الإلكترونية قيل كثيراً إن هذا المولود الجديد سيسقط الصحافة المكتوبة عاجلا أم آجلا من على عرشها الذى سيطرت عليه طيلة عقود. وتزايدت تلك التوقعات بعد أن بدأت المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعى تستأثر باهتمام المتصفحين. لكن السنوات العشرين مرت وما زال الأمر محل جدل متواصل وما زال كل شىء نسبياً أو مجرد توقعات.
بل على العكس «لا تزال الصحف موثوقاً فيها وسط ثورة وسائل التواصل الاجتماعى»، وكان هذا عنوان مقال سير مارتن سوريل أحد أكبر صناع الإعلان والعلاقات العامة فى العالم، فى مقال نشرته جريدة الـ«صنداى تليجراف» البريطانية أكد فيه أن الصحف الورقية مازالت مصدراً جديراً بالثقة وسط بحر من المعلومات الرقمية الخاطئة بوصفها تقف حارسا وجهة مسئولة عن مصالح المعلنين أكثر من غيرها. وأوضح سوريل أن «العيوب المدركة والحقيقية فى الإعلام الرقمى هى مصدر محتمل لميزة تنافسية للصحف - فى كل من المطبوع والأشكال الرقمية للصحف». ويواصل قائلا: «نظرا لأن جوجل وفيسبوك وتويتر وغيرها يواجهون اتهامات بتحولهم إلى منصات للكراهية والأخبار المزيفة.. فإن عدم الثقة فى المعلومات التى تتم مشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعى يجب أن يزيد من شهية الجمهور لمتابعة الوسائل التقليدية الأكثر مصداقية». ويقول سوريل إن أحدث الأبحاث تكشف عن أن الصحف يمكن أن تزيد من فاعلية الحملات الإعلانية بنسبة ٣٠٠ ٪. كما يشير إلى أن الدراسات العالمية تبين أن الناس أكثر انخراطا واندماجاً مع محتوى الصحف أكثر من استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعى المتنوعة وهو يعتبر أن هذا الأمر هو أحد الاعتبارات المهمة للمعلنين الذين يبحثون عن اهتمامات المستهلكين والوصول إلى محافظ أموالهم.
مع ذلك، فإن الواقع مظلم. والأرقام تجعله أكثر إظلاما، إذ إن عدد الصحف اليومية المصرية حالياً 23 صحيفة؛ منها 9 صحف قومية، و13 خاصة، وواحدة حزبية هى جريدة «الوفد»، وفقاً لبيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، الذى أفاد فى شهر مايو قبل الماضى، فى تقرير أصدره بمناسبة اليوم العالمى لحرية الصحافة، بأن عدد الصحف اليومية والأسبوعية والشهرية فى مصر كان قد بلغ 75 صحيفة، منها 3 صحف حزبية سنة 2015، مقابل 80 صحيفة عامة منها 8 صحف حزبية عام 2014، بانخفاض بلغت نسبته 6٪.
الأرقام السابقة تعطى مؤشراً سلبياً عن حالة الصحافة المطبوعة فى مصر، إذا ما قورنت ببيان الجهاز الحكومى نفسه عام 2012، حيث أفاد بأن عدد الصحف المصرية آنذاك بلغ 142 صحيفة فى عام 2010، فيما بلغ عدد الصحف الحزبية فى العام نفسه أيضاًً 23 صحيفة، لا يصدر منها الآن سوى صحيفتين «الوفد» و«الأهالى»، وفقاً لرئيس المجلس الأعلى للصحافة سابقاً. كما ذكر بيان «الإحصاء» سنة 2012 أيضاًً، أن عدد النسخ الموزعة محلياً بلغ 917.9 مليون نسخة عام 2010 بمتوسط 2.5 مليون نسخة يومياً، لكنها هبطت إلى 560.7 مليون نسخة فى عام 2015. بمتوسط نحو مليون ونصف المليون نسخة، ويقدر الخبراء نسب التوزيع الحالية بـ400 ألف نسخة فقط لكل الصحف المصرية يومياً.
عالمياً تعد عائدات الصحف المطبوعة الأسوأ منذ العام 2009، فوفقاً لصحيفة «وول ستريت جورنال»، يواجه قطاع الصحف انخفاضاً متسارعاً فى عائدات الإعلانات المطبوعة، وضغوطاً كبيرة فى السوق، ما اضطر بعض الناشرين إلى اعتماد سياسة تخفيض التكاليف، وإدخال تغييرات جذرية على المنتجات المطبوعة. وأشارت «الصحيفة» إلى أن الإنفاق العالمى على إعلانات الصحف المطبوعة قد انخفض بنسبة 8.7% عام 2016، أى ما يعادل 52.6 مليار دولار أمريكى، وذلك وفقاً لتقديرات الشركة المتخصصة فى شراء الإعلانات، GroupM التى أشارت إلى أن ذلك الانخفاض هو الأكبر منذ الركود الاقتصادى فى عام 2009، حين انخفض الإنفاق بنسبة 13.7%. ورأت أن هذا الانخفاض سيكون له ارتدادات سلبية على كبار الناشرين حول العالم، ما قد يزيد من عبء الضغوط عليهم لتعزيز الإيرادات الرقمية أو الإسراع للتعويض عن الإيرادات المفقودة، وصولاً إلى إعادة النظر فى شكل المطبوعات ومحتواها. ولهذا السبب، سارعت صحف عالمية عريقة إلى تقليص التكاليف للتأقلم مع الواقع الجديد، منها «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال»، أما صحيفتا «ذى جارديان» و«ديلى ميل» فأقدمتا على تقليص عدد الوظائف وتسريح مئات الموظفين.
حسب تقرير نشرته مؤخرا جمعية ناشرى الصحف، يظل ملياران ونصف المليار من البشر يقرأون الصحف الورقية كل صباح. خاصة فى دول العالم الثالث، وفى الصين والهند. لكن، طبعاً، كلما ظهرت صحيفة أو موقع إلكترونى، قل الإقبال على صحيفة ورقية. وقد ظهرت هذه الحقيقة بصورة واضحة مع نهاية تسعينات القرن الماضى. بحلول قنوات تليفزيونية فضائية تعمل 24 ساعة فى اليوم، وبانتشار الكومبيوتر الشخصى، صار الإنترنت يشكل تحدياً مستمراً لمعظم الصحف الورقية، خاصة فى أوروبا وأمريكا الشمالية. انخفض التوزيع مدفوع القيمة. وقل دخل الإعلانات التى، عادة، تشكل الجزء الأكبر من إيرادات معظم الصحف. ما أدى إلى انخفاض عام فى الأرباح. وأطلقت كثير من الصحف حول العالم طبعات فى الإنترنت، فى محاولة لمتابعة التحول العظيم، وللمحافظة على قرائها.
لكن، تظل، فى بقية العالم، الطباعة أرخص، والتوزيع أرخص. وتظل زيادة الإلمام بالقراءة والكتابة. وتظل الطبقات الوسطى فى كثير من الدول النامية تزيد. ففى عام 1995، كانت صحيفة «أمريكان ريبورتر» أول صحيفة يومية، بصحفيين متفرغين، ومحتوى أصلى، تبدأ فى الإنترنت. اليوم، توجد أكثر من 10 آلاف صحيفة رئيسية يومية فى الإنترنت. ويزيد العدد بمعدل مائة كل يوم.
تظل الصحف الورقية تواجه ارتفاع أسعار ورق الصحف، وتراجع مبيعات الإعلانات، وفقدان كثير من الإعلانات المبوبة. وهناك العديد من الدراسات ما زالت تتوقع، ومنها دراسة لشركة ماكينزى الأمريكية للاستشارات، منذ سنتين تقريبا، انتهت إلى أن العديد من الأشخاص على استعداد للتنازل عن متابعتهم للصحف والمجلات المطبوعة نهائيا. ومع ذلك لا تزال هناك نسبة ليست بالقليلة تحافظ على اشتراكاتها فى هذا النوع من الإعلام رغم التكاثر الكبير للمواقع الإخبارية التى تقدم لهم الأحداث يوميا على نطاق أوسع وبشكل أنيق لا يخلو من المنافسة فى ما بينها. والأكثر من ذلك هو أن خبيرا مثل فيليب ميير توقع فى كتابه «نهاية الصحيفة» الذى صدر العام الماضى، أن يشهد عام 2043 نهاية آخر صحيفة ورقية فى الولايات المتحدة٬ لكن عالم المستقبليات داوسن كان أقسى منه فى إثارة ذلك الموضوع، إذ توقع قبل خمس سنوات أن يشهد عام 2022 موت الصحافة المطبوعة نهائياً!!
هذه الوضعية تشهدها أيضاًً كبريات الصحف الأمريكية التى تَكَبَّدَت ديوناً بملايين الدولارات، مثل «نيويورك تايمز» التى أرهقتها ديون تجاوزت مليار دولار، وسجلت أسهمها تراجعاً بنسبة 55% فى سنة 2015، ما اضطر الصحيفة إلى تخفيض رواتب معظم موظفيها بنسبة 5%، بينما تراجع عدد محرريها إلى 1250 بعد أن كان يُقَدَّر عددهم بــ1330 محرِّراً». وأوقفت صحيفة «الواشنطن بوست» إصدار عددها الأسبوعى الخاص، وعمره 27 عاماًً، بعدما انخفضت نسبة مبيعاته، بينما اتجهت صحف أخرى مثل «لوس أنجلوس تايمز» إلى تسريح عدد كبير من موظفيها. وفى فرنسا، عرف عدد من المؤسسات الإعلامية المصير نفسه وبدأ التراجع عن الحديث حول «الاستثناء الفرنسى» بعد أن توقفت صحيفة «فرانس سوار» نهائيًّا عن الصدور، منذ شهر نوفمبر 2011، واكتفت بطبعتها الإلكترونية إثر تراجع مبيعاتها إلى أقل من 40 ألف نسخة فى اليوم. أما الصحف والمجلات الأقل صيتاً فقد قامت بتسريح عدد كبير من العاملين فيها؛ ما جعل الكاتب والخبير الفرنسى برنار بوليه (Bernard Poulet) يشير فى كتابه «نهاية الصحف ومستقبل الإعلام» (La fin des journaux et l’avenir de l’ information) إلى أن نهاية الصحف المطبوعة وشيكة و«تبقى مسألة وقت» لا غير.
لإثبات هذه الفكرة ينقل الكاتب تصريحاً لـ«إيريك فوتورينو« (Éric Fottorino)، مدير صحيفة «لوموند» الفرنسية المشهورة، الذى يعتبر أن «النموذج الاقتصادى الذى تم على أساسه بناء مجد الصحافة منذ عقود عدة بدأ يتآكل وأن هذه الحالة المثبتة تنطبق بحق على معظم الصحف اليومية فى الولايات المتحدة الأمريكية، وباقى دول أوروبا»، مضيفاً: فى 2001 بلغت الإيرادات الإعلانية لصحيفة لوموند مستوى قياسياً وصل 100 مليون يورو، أما اليوم فهى بالكاد لا تتجاوز 50 مليون يورو«، مشيراً إلى أن «عائدات لوموند من الإعلانات بلغت بعد الحرب العالمية الثانية 40%، وفى السبعينات 60%؛ أما اليوم فإنها لا تتجاوز 20%.
وبالإضافة إلى تراجع عائدات الإعلان فى الصحف الورقية الفرنسية، ذكر برنار بوليه عوامل أخرى صنَّفها ضمن الأسباب الرئيسية لأزمة الصحف الورقية، منها: «ارتفاع تكاليف صناعة الورق وسعره والمواد الأولية ومصاريف التوزيع والعدد الضعيف لنقاط البيع، وعدم الإقبال المتزايد من قِبَل القراء الشباب على قراءة المطبوع؛ إذ تراجعت نسبة الفرنسيين، الذين يبلغ سنهم أكثر من خمسة عشر عاماًً، ممن كانوا يقرأون صحيفة يومية من 59% عام 1967 إلى 34% سنة 2005»، ويُتَوَقَّع أن تكون النسبة اليوم فى حدود 25%.
إن العوامل والمؤشرات التى قادت إلى تراجع مَجْدِ الصحف الورقية الفرنسية هى نفسها التى قادت إلى تراجع نسب توزيع الصحف الورقية العربية وخاصة المصرية باعتبارها الأكثر تضرراً فى المنطقة العربية. غير أن أزمة التوزيع لم تكن الوحيدة التى طالت الصحف المصرية، لكن الأزمات المالية كانت السبب الرئيسى فى إغلاق عدد من الصحف. ومع أن التكنولوجيا الحديثة أعادت تشكيل كل مظاهر النُّظم الاتصالية الأساسية، إلا أن المؤسسات الإعلامية العربية وكذلك المنظومات الإعلامية التقليدية، لم تتمكن بعد فى ظل تبدُّل وظائف الإنترنت التفاعلية والإعلام المتعدد الوسائط، من إعادة النظر فى معظم المفاهيم الجوهرية حول أساليب جمع المعلومات ونشر الأخبار، أو فرض أنماط جديدة لممارسة مهنة الصحافة.
صناعة الصحف فى مصر، كانت تحقق عائدات سنوية تبلغ قيمتها نحو نصف مليار جنيه من التوزيع فقط قبل 5 سنوات، لكن انخفاض حجم التوزيع والإعلانات حالياً بدرجة مخيفة يعطى مؤشراً على اقتراب نهاية أجل الصحافة الورقية فى مصر. ونشير هنا إلى أن الأرقام الرسمية تؤكد تراجع نسب التوزيع حالياً. كما أن ارتفاع نسب إغلاق الصحف تؤيدها أرقام رسمية أخرى سلبية صادرة من «الهيئة الوطنية للصحافة»، التى أكد رئيسها فى تصريحات تليفزيونية أن ديون الصحف القومية وصلت إلى 19 مليار جنيه وهو مؤشر غير مبشر للخروج من الأزمة.
لو حدث ذلك نكون أمام كارثة حقيقية. ويكفى أن نشير إلى دراسة صدرت عن جامعة «فورتسبورج» الألمانية، أكدت أن درجة ثقة القراء فى الصحافة التقليدية فى ألمانيا ارتفعت جدا فى وقت تسود فيه حالة من الشك إزاء وسائل الإعلام فى أجزاء كثيرة من العالم الغربى. فوفق التقرير، قال 55.7٪ من الجمهور إنهم يثقون فى الصحافة التقليدية بزيادة قدرها ١٠ نقاط مئوية عن عام ٢٠١٥. ومن المثير للاهتمام، تحسن موقف الصحافة التقليدية نسبيا بين صغار السن الذين تتراوح أعمارهم ما بين ١٥ و٢٤ عاماً، فقد أعرب ٦ من كل ١٠ أشخاص عن ثقتهم فى الصحافة الورقية فى عام ٢٠١٦. وقالت الدراسة إن ثقة الألمان فى وسائل الإعلام ارتفعت بشكل حاد فى العام الماضى وهو أعلى مستوى من الثقة منذ إجراء المسح لأول مرة فى عام ٢٠٠٠.
نتائج الدراسات تظهر دائما أن الناس لديهم تقدير أكبر لقيمة وسائل الإعلام الراسخة فى عصر التقارير الإخبارية «الوهمية» التى تنتشر من خلال شبكات التواصل الاجتماعى. وأظهر التقرير أن أولئك الذين تتراوح أعمارهم بين ٢٥ و٣٤ أقل احتمالا للثقة فى الصحافة المطبوعة، حيث يمنح واحد فقط من بين كل اثنين ثقته فى الصحيفة الورقية، بينما ثلثا من تجاوزت أعمارهم ٧٥ عاماً تزيد درجة ثقتهم فى الصحف. ومن التفسيرات لتلك الحالة أن ألمانيا قد تكون أقل عرضة للأخبار الوهمية Fake News من بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وذلك لتفضيل المستهلكين هناك للصحف والتليفزيون العام كمصادر رئيسية للمعلومات السياسية.
قد تكون الصحافة الورقية مريضة، فهى آخر الملتحقين بقائمة ضحايا التكنولوجيا الحديثة، لكن الكلام عن نهاية الصحافة الورقية وإعلان موتها، وأن كل ما بقى هو تحديد موعد مراسيم التشييع والدفن فى القادم من السنوات، تبقى محل نقاش لأكثر من سبب، أبسطها هو أن الصحافة هى المحتوى وليس الوعاء الذى تصدر فيه، وهو ما عبر عنه «خوان سينور» المستثمر فى مجال الإعلام والأكاديمى فى جامعة أكسفورد حين قال بأن الصحافة الورقية لن تموت، مضيفا بأن الشكل الحالى للصحافة الورقية قد يختفى أو يتأثر، لكن فى النهاية سيكون هناك نموذج ورقى ناجح بشكل أو بآخر.
صحيح أن الصحافة الورقية فقدت وظيفة الأخبار، وتحقيق «السبق» المحسوب لها تاريخيا، مع ظهور صحف إلكترونية أكثر سرعة فى نقل الخبر وتقديمه للجمهور المهووس بالمتابعة. غير أن الخبر وحده ليس كل ما يطلبه القارئ، فإلى جانبه يحتاج إلى زاوية معالجة، وتحليل للمعطيات، واستقصاء عما وراء الخبر، ومقالات جادة وتقارير. والمؤكد هو أن الصحافة الورقية تبقى أكثر احترافية من الصحافة الإلكترونية، رغم نجاح هذه الأخيرة فى نقل القارئ أو المتصفح مباشرة إلى موقع الحدث بالصوت والصورة، فيما تجبر الورقية على الانتظار ساعات قبل طبع الخبر. بيد أنها تتميز بقدرتها على حفظ الأرشيف القومى للشعوب، وصيانة الذاكرة الجماعية، والمساهمة فى حفظ التاريخ اليومى للإنسان. فى حين يفتقر الإلكترونى إلى الديمومة؛ فالتراث الرقمى قابل للتغيير والتحريف والإضافة والحذف بسهولة.
الخلاصة هى أن الصحافة الإلكترونية تتقدم على المستوى الكمى فقط، أما الجودة والنوعية والتأثير فتأبى الصحافة الورقية مفارقتهم. ولا أدل على ذلك من تجربة الموقع الإلكترونى «ويكليكس» أو مؤسسه جوليان أسانج، الذى لم يستطع إثارة ضجة عالمية بوثائقه السرية التى نشرها على موقعه، إلا بعد لجوئه إلى صحف مطبوعة بشكل ورقى.
وأخيراً، هناك اعتقاد بأن الصحف المصرية بشكلها الحالى قد لا تستمر طويلاً، وهناك رهانات على كيانات جديدة ستظهر وقديمة ستختفى. بل هناك من يؤكدون أن المؤسسات القومية ليس لها مستقبل بوضعها المالى الحالى فى ظل توجهات الحكومة الحالية برفع الدعم عن المؤسسات العامة. ويبدو أن تلك التوقعات بدأت تتحقق حيث يواكب مجتمع السلطة الرابعة انسحاب صحف ورقية من المشهد واحدة تلو الأخرى لتترك مكانها لاستسهال الصحف الإلكترونية وشائعات وأكاذيب شبكات التواصل الاجتماعى. ولن يستطيع الاستمرار فى سوق الصحافة الورقية؛ إلا من يحافظ على محتواه ومضمونه المقدم للجمهور، ولا بد من إيجاد بدائل حتى تتمكن الصحف من التغلب على أزماتها، وليكن بدعم حكومى، للجاد منها على الأقل.