ياسر بركات يكتب عن ... الأكاذيب والمناورات فى وثيقة حماس
التصريحات الفضفاضة لا تصنع تياراً سياسياً
لا تحتاج إلى أن تحلل وتفسر الـ43 بنداً التى تضمنتها الوثيقة السياسية الجديدة لحركة «حماس» التى عنونوها بـ«وثيقة المبادئ والسياسات العامة». فقط عليك أن تطرح أسئلة من عينة: هل هناك جديد فى البرنامج السياسى لحركة «حماس»؟!.. وهل فعلا أدخلت تعديلات على برنامجها ووافقت على إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وشدّدت على الطابع السياسى غير الدينى للنزاع مع إسرائيل؟!
كثيرون شغلوا أنفسهم، طوال الأيام الماضية، بالوثيقة التى عرضها فى الدوحة خالد مشعل رئيس المكتب السياسى السابق للحركة، وخرج منها بأنها تنهى ارتباط حماس بجماعة الإخوان، واستنتجوا أن تلك الخطوة تستهدف تحسين علاقاتها مع الدول العربية الخليجية إضافة إلى مصر. بينما لم أجد فى الوثيقة أى جديد وإنما محاولات لطرح اكتشافات تم اكتشافها منذ عشرات السنين، ومحاولة فاشلة للالتحاق المتأخر بما اعتبرته قبل ذلك خيانة تستحق طرد السلطة الفلسطينية من قطاع غزة.
وما أراه لغزاً هو الإصرار على إعلان الوثيقة من الدوحة وليس من غزة وكأن الحركة أرادت أن تعلن خضوع الوثيقة وخضوع الحركة نفسها لكيانات أو دول تقوم بالتصديق على الأوراق قبل اعتمادها.
وأغلب الظن، هو أن الهدف من هذه الوثيقة هو الدخول فى لعبة المفاوضات الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية. خاصة أن الإعلان عنها جاء قبل لقاء مرتقب بين الرئيس الفلسطينى محمود عباس والرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى البيت الأبيض. وهو الربط الذى أكده تصريح خالد مشعل لوكالة الأنباء الفرنسية قال فيه إنه يأمل بأن تقوم الإدارة الأمريكية الجديدة بـ«تحرّك أكثر جدية من أجل القضية الفلسطينية، وبأن تُغيّر المفاهيم الخاطئة عن الشعب الفلسطينى»، مضيفاً أن «حماس حركة متجددة تتطور فى فكرها السياسى».
والربط أيضاًً قامت به صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، وهى تستعرض الدلالات التى حملتها الوثيقة الجديدة، فى تقرير بدأته بأن الوثيقة تأتى قبل ساعات من اللقاء المرتقب بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والرئيس الأمريكى دونالد ترامب.
وأشار التقرير إلى أن حماس ومن خلال تقديم وثيقتها الجديدة، فإن الحركة تحاول تقديم نسخة أكثر اعتدالاً لرؤيتها للقضية الفلسطينية، وكسب أرض جديدة فى صراع السلطة الفلسطينية بزعامة الرئيس محمود عباس، الذى يتزايد نفوذه بشكل أكثر وضوحاً.
وفقاً للتقرير، كان الانقسام بين الحركتين –فتح فى الضفة الغربية، وحماس فى غزة– إحدى العقبات الرئيسية فى عملية السلام مع إسرائيل: من –يسأل الإسرائيليون- يكون شريكهم إذا كان الفلسطينيون منقسمين بشدة؟!.. كما أن هذا الانقسام كان مناسباً ومشجعاً من جانب اليمين الإسرائيلى، الذى لا يريد التوصل إلى اتفاق سلام. لكن التقرير ذكر أن وثيقة حماس، التى تسربت منذ أسابيع، لم تعكس تغيراً كبيراً فى معتقدات حماس الأساسية.
كما أوضح التقرير أن هناك دلالة يحملها توقيت ومكان الإعلان عن الوثيقة الأخيرة لحماس، حيث تم الإعلان الرسمى فى العاصمة القطرية الدوحة، حليفة الولايات المتحدة، التى من شأنها أن تلعب دوراً حاسماً فى أى صفقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وقال التقرير إن هذه الوثيقة تعد خلاصة بيانات عامة مختلفة على مر السنين؛ ما يشير إلى محاولة حماس أن تبدو أكثر واقعية منذ سيطرتها على غزة فى عام 2007، بعد فوزها فى الانتخابات البرلمانية،
ورأى تقرير «نيويورك تايمز» أن الحركة خففت من لهجتها مقارنة بميثاق عام 1988 لافتاً النظر إلى نقطة فى غاية الأهمية وهى أن الوثيقة الجديدة لا تحل محل الميثاق القديم أو الأصلى للحركة.
ونشير هنا إلى أن الوثيقة الجديدة تكرر كثيراً من رؤى وأفكار «حماس» السابقة، ولكنها تطرحُ جديداً لم يكن مُعلناً عنه بهذا الوضوح فى خطابات القيادات سابقاً ولا فى الميثاق السابق، جديد الوثيقة هو القبول بإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 67، «مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التى أخرجوا منها». لم تنشر حماس فى نصٍّ رسمى سابق لها قبولاً بدولة فلسطينية على حدود عام 67، ودائماً ما كانت تؤكد على إقامة دولة فلسطينية على كامل أرض فلسطين. ربما كان هذا التحوّل محاولة لكى تُطرح حماس كحلٍّ فى الجدل الدائم حول القضية إذ باتت كافة المبادرات والحلول المطروحة تتحدث عن حدود 67 فقط ولا شىء غيرها، وتختم هذه المادة (برقم 20) من الوثيقة بإقرار بأن دولة على هذه الحدود هى «صيغة توافقية وطنية مشتركة».
2
وهناك بالطبع فوارق واضحة بين ميثاق 1988 ووثيقة 2017 تحللت الوثيقة إلى حد بعيد من الحمل الأيديولوجى والعبارات الفضفاضة والمصطلحات الحادة، كما تختلف النظرة للمجتمع الدولى فى الوثيقة عنها فى الميثاق، وربما أرادت حماس من خلال هذه الإشارات تقديم نفسها كحركة سياسية أكثر من كونها تياراً إسلامياً، رغم تأكيدها فى المادة الأولى على أن «مرجعيتها الإسلام». كما أن الحركة ميزت نفسها بوضوح عن بعض التيارات المتشددة المرفوضة مجتمعياً والمحاربة دولياً من خلال تأكيدها على طبيعتها «الإسلامية الوسطية» نصاً، إضافة إلى ما احتوته عدة بنود أخرى من أفكار وسياسات. ويتضح الفارق أيضاً فى توصيف الصراع مع «الحركة الصهيونية» وليس مع «اليهود»، مع صياغات تشير إلى رفض العداء للسامية والظلم والتمييز. أضف إلى ذلك وجود إشارة واضحة للقبول بمنظمة التحرير كـ«إطار وطنى» تسعى الحركة للانضمام له بعد إصلاحه، وتأكيد على التعددية والحوار والشراكة والخيار الديمقراطى كوسائل لإدارة هذه العلاقات. ومن اللافت أن التوصيف أتى دون «ال» التعريف بما يزيل عن المنظمة احتكار الأطر الوطنية. أما الفارق الأهم فكان إشارة الوثيقة إلى فكرة «دولة على أراضى العام 1967» باعتبارها تمثل «صيغة توافقية وطنية مشتركة».
بشكل أو بآخر، فإن حماس لن تتمكن من خلال هذه الوثيقة أن تحدث اختلافاً مهماً فيما يتعلق بعلاقاتها مع العالم. وكان يمكن أن تراهن عليها حماس فيما يخص العلاقة مع المنظومة الأوربية فى ذات اليوم الذى شكل فيه إسماعيل هنية الحكومة، أما فى اليوم الذى يتولى فيه هنية رئاسة المكتب السياسى فإنه مطالب بقضايا معقدة على الصعيد المحلى سياسياً بحل قضية الانقسام الداخلى، ومجتمعياً بوضع حد لمسلسل الانهيار فى الخدمات المقدمة للمواطن الفسلطينى فى غزة.
أما على صعيد العلاقات الوطنية، فإن الفصائل الفلسطينية بمجملها حركات تحرر وطنى وتسعى نحو فلسطين وتختلف فى الأدوات وتتفق فى الغايات، وعليه فإن السياق الطبيعى لإعلان حماس القبول بدولة بحدود 67 مع عودة اللاجئين إلى ديارهم، ووفق تعريفها لفلسطين من بحرها إلى نهرها، يعود بالحركة إلى مساحات الوهم.
أيضاً، أشار جرانت روملى فى مقال نشرته مجلة «بوليتيكو» الأمريكية إلى أن وثيقة حماس الجديدة يمكن تفسيرها باعتبارها حيلة لتأمين بعض التمويل الإقليمى، ومحاولة لنسف القاعدة الجماهيرية لحركة فتح، أكثر من كونها بادرة لإثبات حسن النية. مؤكداً أن حماس لن تذهب بالجسد السياسى الفلسطينى لأى مكان، وإنما ستتسبب دائماً فى إفساد فرص التوصل لاتفاقية سلام سواء بالقوة أو برغبتها واتجاهها.
ويرى روملى أن الخطوة الأولى على الطريق قد تكون دعوة السلطة الفلسطينية لانتخابات رئاسية وتشريعية خلال 60 يوماً، وهى المدة المنصوص عليها فى الدستور الفلسطينى فى حالة الأزمات، ومن خلال هذه الانتخابات، سيتمكن عباس وفتح من تقديم أنفسهما من جديد باعتبارهما يملكان «حكم القانون»، وسيمنح فرصة لعباس البالغ من العمر 82 عاماً إما للتنحى أو للترشح لدورة أخرى.
الخطوة الثانية على الطريق هى أن يُجرى عباس إصلاحات داخلية عامة فى حركة فتح، فالسبب الوحيد وراء عدم إجراء أية انتخابات على مدار أكثر من 10 سنوات هو الخوف من أن تحقق حماس فوزاً كبيراً كما حدث فى 2006، إلا أن حقيقة الأمر أن حماس لم تحقق فوزاً كاسحاً، إذ حصدت 44% من الأصوات مقابل 41% لفتح، فى الوقت الذى كانت تمر فيه فتح بانقسامات داخلية عميقة حول مرشحى الحركة، ما دفع عدداً من أعضائها لخوض الانتخابات بوصفهم مستقلين.
لذلك، يمكن القول إن الإصلاح الداخلى لفتح يعد العقبة الأكبر أمام إعادة تنشيط الديمقراطية الفلسطينية، فالأوضاع داخل فتح اليوم هى أكثر انقساماً ما كانت عليه فى 2006، وهنا ينصح الكاتب عباس أن يتواصل مع أعضاء الحركة المنشقين، ومن بينهم من تحالفوا مع خصمه محمد دحلان، وأن يدعوهم لتوحيد الحركة فى قائمة واحدة فى كل المناطق.
سيكون على مسئولى حماس الاختيار بين نبذ العنف والمشاركة فى أول انتخابات حرة نزيهة منذ أكثر من 10 سنوات، أو رفضها والمخاطرة بفقدان اتصالهم بالشعب الفلسطينى. قبل كل ذلك، يجب أن تشعر الولايات المتحدة بحالة من الاتحاد والتوافق داخل فتح وفرصتها فى التفوق على حماس.
الخطوة الثالثة من وجهة نظر الكاتب هى وضع شروط أولية للمشاركة فى الانتخابات. لأنه فى 2006، رفضت إدارة بوش ضغوطات عباس لوضع بعض الشروط، مثل نبذ العنف والتقيد باتفاقيات منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل، وهو ما أعطى الفرصة لحماس بإقحام مرشحيها دون تراجعهم عن بعض «الأفكار الإرهابية» كما يصفها التقرير، وهو ما ندم عليه المسئولون الأمريكيون فيما بعد.
كما يؤكد روملى أن هذه الخطة ليست خالية تماماً من المخاطر، فقد تشارك حماس وتتمكن من الفوز، وقد يحدث تفتت داخلى لفتح فى اللحظات الأخيرة، وربما تُجرى الانتخابات فى الضفة الغربية فقط. من المسلم به أيضاًً أن الفساد المستشرى فى الضفة الغربية، وبعض النفقات التى تضعها الحكومة فى المكان الخاطئ، تجعل من فتح شريكاً ليس مثالياً للسلام فى الوقت الحالى، إلا أن ذلك لا يجب أن يمنع الولايات المتحدة من التفكير فى حلول مبتكرة لقطاع غزة، فما يحتاج إليه أى قائد فلسطينى هو رغبة فى التوقيع على اتفاقية ما، وقدرة على تنفيذها، وهو ما لا يتوافر حالياً فى عباس، والذى لا يملك السيطرة على قطاع غزة.
الخلاصة، هى أنه لا توجد أى أهمية للوثيقة نفسها، ليس فقط لأن الوثيقة الجديدة لا تحل محل الميثاق القديم أو الأصلى للحركة، ولكن لما هو أهم كثيرا من ذلك، وهو أن حركة حماس لم تنشأ أصلاً إلا كرد فعل على مسار السلام الذى اتخذه الراحل ياسر عرفات، وبدأه باتفاق أوسلو وعملية السلام المستمرة منذ ثلاثين عاماً. وهو ما يعنى بوضوح أن أى تعديلات فى مواثيقها لن تكون أكثر من مناورات مكشوفة أو مفضوحة.