الموجز
الخميس 21 نوفمبر 2024 10:57 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن: مجنون تركيا يترنح النهاية المأساوية لأردوغان


* لجأ إلى نظرية المؤامرة مع خصومه.. وتخلص من صديقه داود أوغلو
* شيد قصراً لتقليد الخليفة العثمانى.. وحاصر الثورة ضده ببناء المساجد فى ميدان تكسيم
* جلس على مقعد الرئيس بعد أصداء فضيحة فساد عائلته واتهم معارضيه بتدبير الفضيحة!
* احتاج لشخصية «الجانى» واستخدم حركة فتح الله جولن للقضاء على منافسيه وإسكات الإعلام
* شبح الدولة الدينية يطارد الأتراك.. وأنصار أتاتورك يعلنون الثورة على الكاذب
* الاتحاد الأوروبى اعتبر تصريحاته حول إنجاب خمسة أطفال «هلوسة»
اقتربت نهاية المجنون التركى.
هذا إذا لم يكن انتهى بالفعل.
ولا نفهم كيف هلل رئيس الوزراء التركى السابق، أحمد داود أوغلو، لرؤية أردوغان وهو يستحوذ على مقاليد الأمور حتى عام 2023، وقت إتمام الجمهورية التركية 100 عام، ولا نعرف كيف اعتقد أن تركيا ستصبح قوية وذات نفوذ كما كانت الإمبراطورية العثمانية فى أوجها.
ولا يمكننا تفسير ذلك بغير أن هؤلاء المجانين، يعجلون بنهاية تركيا فى ظل تلك الظروف الصعبة أو الأصعب التى تعيشها، والتى تقول بوضوح إن تركيا لا يمكنها أن تحقق حلم أردوغان بعيد المنال، لأنه لم يكمل عمله كما بدأ، حيث الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والقضائية والتطورات الاقتصادية، فعلها فقط فى أول تسع سنوات قضاها فى السلطة، وحينها كانت تركيا بالفعل لاعباً رئيسيًّا على الساحة العالمية وقوة إقليمية.
لحسن حظنا وسوء حظه، تخلى أردوغان عن كثير من الإصلاحات الديمقراطية الرائعة التى كان بطلاً لها، وبدأ فى تفكيك ركائزها، ويحاول تكديس سلطاته بشكل غير مسبوق، وتحويل تركيا من دولة ديمقراطية إلى استبدادية، وضمان أن لديه الكلمة الأخيرة فى كل أمور الدولة. فلم يلتزم أردوغان بالشكل الديمقراطى للحكومة، والإصلاحات التى قام بها خلال أول تسع سنوات فى السلطة، تلك الإصلاحات التى كان الاتحاد الأوروبى يريدها لضم تركيا إليه.
هكذا، يواصل الرئيس التركى رجب طيب أردوغان استفزازه للدول الأوروبية وهذه المرة من خلال حثه الأتراك المقيمين فى أوروبا على إنجاب 5 أطفال، وخاطب الجاليات التركية هناك التى تعد بالملايين قائلا: «أنتم مستقبل أوروبا».
وهكذا، تمر العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبى بفترة توتر شديد، غضبت أنقرة من منع دول أوروبية عقد لقاءات بحضور مسئولين أتراك على أراضيها، دعماً لتعزيز صلاحيات الرئيس التركى رجب طيب أردوغان خلال استفتاء 16 أبريل.
أردوغان اتهم دول الاتحاد الأوروبى مراراً بالتصرف مثل ألمانيا النازية، فيما يرى أنه تمييز تجاه الأتراك، وأثارت تعليقاته غضب أوروبا. وقال أردوغان: «من هنا أقول لمواطنيَّ ولإخوانى وأخواتى فى أوروبا: علّموا أولادكم فى أفضل المدارس، احرصوا على أن تعيش عائلاتكم فى أفضل الأحياء، قودوا أفضل السيارات، اقطنوا أفضل البيوت». وأضاف «أنجبوا خمسة أطفال وليس ثلاثة، فأنتم مستقبل أوروبا».
وتابع فى خطاب تليفزيونى فى مدينة اسكيشهر فى جنوب إسطنبول: «هذا هو الرد الأفضل على الوقاحة والعدائية والأخطاء التى ارتكبت بحقكم». ويعيش حوالى 2.5 مليون مواطن تركى فى أوروبا يحق لهم التصويت فى بلادهم، إلا أن ملايين أخرى من أصول تركية يعيشون فى دول الاتحاد الأوروبى.
إن مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الدولة التركية الحديثة فى عام 1923، يتخذه أردوغان مثله الأعلى، قاد الأمة بيد من حديد، وتجاهل الفصل بين السلطات، إلا أنه أقام دولة علمانية غربية ديمقراطية، فى حين أن أردوغان يذهب فى الاتجاه المعاكس، بينما يتحرك أردوغان بثبات لإنشاء دولة دينية ومحو صورة أتاتورك، الذى يحظى بمكانة كبيرة عند معظم الأتراك، وهو يعرض نفسه على أنه من يقود بعزم، ويسعى فى نهاية المطاف إلى استبدال نفسه مكان أتاتورك، وبالتعديلات الدستورية الأخيرة سيحظى بسلطات أكبر من التى كانت لدى أتاتورك.
ومع تنامى شعبيته الاقتصادية استطاع أردوغان أن يظهر بصورة الزعيم «الأب» القوى الحازم لتركيا الجديدة، وبدهاء اختار التركيز على الوعى الإسلامى للشعب التركى لقيادة البلاد إلى العظمة. ويصمم أردوغان على أن تركيا ستكون من بين أقوى عشر دول اقتصادياً، ويمتد نفوذها من الشرق إلى الغرب، وتعود الإمبراطورية العثمانية بحلول ذكرى مرور مائة عام على إنشاء الجمهورية التركية.
ولإدراك رؤيته الكبرى، اتخذ أردوغان عدة تدابير لتعزيز سلطته المطلقة. فى البداية مهد الطريق لنفسه، وبدأ التهميش الكامل والقضاء على أى شخص داخل وخارج حزب العدالة والتنمية الحاكم، وشكك فيمن لا يؤيد سياسته، ولجأ إلى نظرية المؤامرة مع خصومه السياسيين، ووصفهم بأعداء الدولة، حتى إنه تخلص من صديقه داود أوغلو، وأبعده عن الحكومة.
احتاج أروغان لشخصية «الجانى»؛ ليصبح هو كبش الفداء، حيث استخدم حركة فتح الله جولن ليوفر غطاء ودليلاً على وجود فساد هائل، واتخذها مبرراً لشن إجراءات صارمة ضد العديد من الكيانات الاجتماعية والسياسية والمؤسسية، وإسكات الإعلام، والسيطرة على السلطة القضائية، وإخضاع الجيش.
وفى أعقاب محاولة الانقلاب العسكرى فى يوليو 2016 زود ذريعة الجانى، وتخلص من عشرات الآلاف من الأكاديميين وغيرهم، ليسمح لنفسه بفرض السيطرة الكاملة على قطاعات الدولة، ويصور أردوغان للأتراك أن التعديلات الدستورية الجديدة ستعيد تركيا إلى القيادة وتحيى الإمبراطورية العثمانية، وحدد موعد الاستفتاء فى 16 أبريل المقبل.
خلق رمز العثمانية أحد الأمور التى يستغلها أردوغان، حيث الرؤية العظيمة التى يرغب فى نشرها فى الوعى العام، وظهر ذلك فى قصره الذى بناه ليمكث فيه، ذى التكلفة الباهظة، وبدأ بناء المساجد فى ساحة تكسيم، موقع أشرس احتجاجات ضده، على الطراز العثمانى، حتى الأجهزة المستخدمة لعزف النشيد الوطنى تم تصميمها مشابهة للعصر العثمانى، والهدف من ذلك تلقين الشعب بطريقة مموهة بالفترة العثمانية.
يحاول أردوغان من خلال سياسته الخارجية تأكيد الدور العثمانى، ويظهر ذلك بشكل كبير فى سياسته مع قبرص والعراق، فهو عازم على تطبيق شروطه، وفى سوريا يدعم المقاتلين الأجانب ضد حكومة الرئيس السورى، بشار الأسد، ويحاول إيقاف الأكراد السوريين من التقدم، خوفاً من مطالبتهم بمنطقة حكم ذاتى.
2
الصورة الأقرب للحقيقة الآن، هى أن أردوغان يمرّ بمرحلة مفصلية من تاريخه السياسى، وتاريخ بلده، بعد أن عاش لمدة طويلة بين جدران «نظرية المؤامرة»، مستعدياً الداخل والخارج. بدأها بالسيطرة على الجيش وأجهزة الأمن والقضاء والإعلام، بالتزامن مع شن حملات اعتقال لم تتوقف منذ أكثر من سنتين! وهى السياسات التى يمكن وصفها بالخوف والارتياب الزائدين.
خوف وارتياب زائدين، وقد يدفعانه بعد مرحلة الجنون التى وصل إليها أن يهدم المعبدعلى من فيه.. ما يعنى أن يربط نهايته بنهاية تركيا نفسها!
وما من شك فى أننا شاهدنا طوال السنوات الماضية عشرات بل مئات الوقائع الثابتة التى كانت تؤكد أن تركيا تسير بخطى ثابتة نحو نهايتها. ورغم ذلك، رأينا أردوغان (ولايزال) مصراً على ارتكاب الأخطاء والخطايا، بدلاً من أن يستخرج الدروس والعبر منها!!
إن أردوغان الذى جلس على مقعد الرئيس وهو يحاول التخلص من أصداء فضيحة الفساد التى طالته مع أفراد أسرته ووزراء مقربين منه سنة 2013، حاول أيضاً أن ينتقم من «الكيان الموازى» أو من جماعة «فتح الله جولن» التى اتهمها بتدبير الفضيحة، ومن أجهزة الدولة ومؤسساتها بحجة أنها تخطط للانقلاب على نظام الحكم!
وبوضع ذلك فى الاعتبار، يمكننا أن نرى ما حدث مؤخراً أو ما تم وصفه بالانقلاب الفاشل، بأن أردوغان يجنى ما زرعه طوال سنوات من محاولة الانقلاب، وأنه لن يستطيع أن يمسك بزمام السلطة بعد اليوم مهما كانت الظروف، بعد أن أصبح الوضع فى تركيا معقداً ووصل إلى طريق مسدود بسبب طغيان واستبداد الرئيس التركى، الذى قام بتقييد الحريات العامة وتحجيم دور الإعلام الذى بات يسيطر على حوالى 90% منه بشكل مباشر أو غير مباشر، جاعلاً منها ماكينة ضخمة لتلميع صورته داخلياً وخارجياً، على الرغم من كثرة الانتقادات التى طالت سياساته فى الآونة الأخيرة. ويكفى أن تعرف أنه خلال العام الماضى، تحولت عدة صحف معارِضة، إلى مؤيدة لأردوغان، بعد التحفظ عليها، وتغيير إداراتها، فى إطار حملة صارمة على وسائل الإعلام التابعة للمعارضة!
أيضاًً، يمكننا الجزم بأن تركيا دخلت فى مرحلة من عدم الاستقرار وأنها فقدت مؤسستها العسكرية، بشكل يجعلنا نقول إن تركيا الدولة خسرت ما لن تتمكن من تعويضه طوال سنوات طويلة قادمة.
ونشير هنا إلى أن قراءة ما حدث فى تركيا من منظور «الحكم العسكرى فى مواجهة الحكم المدنى»، ليست قراءة صحيحة على الإطلاق، إذ إن هذه القراءة تُسقط من حساباتها أزمة مؤسسات الدولة التركية وآليات حكمها وأزمة السياسة التركية تجاه المسألة الكردية وأزمة السياسة الخارجية التركية وآثارها الكارثية على البلد، وأزمة احتداد التفاوت الاجتماعى ونتائج هذا الاحتداد بالنسبة للاستقرار الاجتماعى.
وفوق كل الأسباب التى تجعل انهيار تركيا وشيكاً، هناك أيضاً وقائع الفساد والرشوة التى لم تشهد تركيا مثيلاً لها طوال تاريخها والتى طالت أردوغان ووزراء فى حكومته وأولادهم وهى القضايا التى بدأت تتكشف بعد حملة اعتقالات طالت عشرات الأشخاص، من بينهم أبناء بعض الوزراء ورجال أعمال مقربون من حكومة حزب العدالة والتنمية، مع انتشار تسجيلات صوتية للعديد من المسئولين رفيعى المستوى، وفى مقدمتهم رئيس الوزراء السابق رئيس الجمهورية الحالى رجب طيب أردوغان، ونجله بلال، حول تورطهم فى فضيحة الفساد والرشوة.
3
قبل أن تأخذ تركيا منحًى سلطويّاً تحت حكم رجب طيّب أردوغان، اعتقد كثيرون أنّ التاريخ سيقوم بتخليد الرجل بوصفه القائد الذى استطاع تقليم أظافر الجيش التركى وحلّ النزاع الطويل مع الأكراد. إلا أنّ ما حدث أكد أن هذه الآمال كانت فى غير محلّها على نحوٍ شنيع. أعطى أردوغان الضوء الأخضر للجيش لشنّ حربٍ ضدّ المُتمردين الأكراد وقام ببناء تحالف مع الجنرالات بدا أنه دافئ ثم اتضح أنه غير ذلك.
من وجهة نظر أردوغان، رأى أن هذه السياسة ستضرب عدّة عصافير بحجرٍ واحد. فالحملة العسكريّة على الأكراد تُضعف الأقليّة الأكبر فى البلاد التى أصبحت تمثّل عائقاً أمام طموحاته فى السلطة المُطلقة من جانب، وتُعزّز من قوّته بين الوطنيّين الأتراك من جانبٍ آخر. وعلى الخط نفسه، قد يمثّل الأمر دافعاً لتعديل العلاقة مع الجيش بوصفه أداة مُهمّة تحت اليد خاصّة فى ظلّ تنامى المعارضة الداخليّة والخارجيّة التى تُحيط به. لكن تقوية الجيش يُمكن أن يكون فى الوقت نفسه خياراً محفوفاً بالمخاطر بالنسبة لأردوغان. بل إن هناك من هم فى دائرته ممّن يخشون أن النمر الذى يُحاول الرئيس ركوبه ما زال بعد سنوات من المُعاملة القاسيّة تحت حكم حزب العدالة والتنمية أكثر وحشيّة وتوقاً للانتقام.
هذا التصور أغفل أن الجيش التركى لديه أسباب عديدة لحمل ضغائن تجاه أردوغان. فعلى مدار التاريخ التركى، تمتّع الجيش بسطوة كبيرة على الشئون السياسية فى البلاد، وقد نفّذ أربعة انقلابات عسكريّة مُجبراً السياسىين على الاستقالة وتعامل مع نفسه دائماً على أنّه الحارس الأوحد للديمقراطيّة العلمانية الذى لا يخضع للمُساءلة. ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2002، انبرى حزب العدالة والتنمية لتقليص النفوذ السياسى للجنرالات الذى ترك القوّات المُسلّحة التركية فى حالة ضعف وانقسام. ولتحقيق شروط الانضمام للاتّحاد الأوروبى، شرعت أنقرة بإجراءات لجعل الجيش خاضعاً بشكل أكبر للسلطة المدنيّة. وقلّصت صلاحيّات المحاكم العسكريّة لصالح المزيد من الصلاحيّات للمحاكم المدنيّة وأصبحت الحكومة تلعب دوراً أكثر فاعليّة فى تعيين القادة الكبار للجيش. وقد تعرّض الجيش لضربة قويّة فى أبريل 2007، بعد أن نشر على صفحته الإلكترونيّة إنذاراً (سُمىّ فيما بعد بـ«الانقلاب الإلكترونى») يُحذّر فيه حزب العدالة والتنمية من مغبّة دعم عبدالله غول المعروف بانتمائه التقليديّ للتيار الإسلامى الذى تلبس زوجته الحجاب فى انتخابات الرئاسة. أثار الأمر حينها غضب حزب العدالة والتنمية وأنصاره ودفعهم إلى تأكيد موقفهم وإيصال غول إلى منصب الرئاسة. وهكذا فمن خلال محاولته التدخل ضدّ الحزب ذى الجماهيريّة الكبيرة عرّض الجيش نفوذه لضربة قاسيّة، وفى أقرب انتخابات بعد «الانقلاب الإلكترونى» ازداد التصويت لحزب العدالة والتنميّة بنسبة 13%.
وفى ذلك الوقت أيضاً، أطلق حلفاء الحكومة فى جهاز القضاء من أنصار رجل الدين فتح الله جولن تحقيقات واسعة حول أنشطة ضبّاط الجيش. وفى الدعاوى القضائيّة مثل قضيّة «أرغينيكون» وقضيّة «المطرقة»، التى اتّهم فيها بعض عناصر الجيش بتدبير انقلاب ضدّ حزب العدالة والتنمية، جرى حبس العشرات من الجنرالات وتم احتجاز المئات من المسئولين العسكريّين المُتقاعدين. وقد تُوّج الصراع بين الحزب والجيش بالاستقالة الجماعيّة للمجلس العسكريّ التركى الأعلى فى أواخر يوليو 2011 وهى الاستقالة التى اعتبرها المراقبون آنذاك علامة فارقة على استسلام الجيش للمدنيّين.
بالرغم من ذلك، فإنّ الجيش يستعيد فى الآونة الأخيرة شيئاً من الحظ. فمنذ أن أصبح نيسديت أوزيل، أحد الرجال المُخلصين لأردوغان، رئيساً لهيئة الأركان، شهدت العلاقات بين أردوغان والقوّات المسلحة التركية بعض التحسّن، على الأقل على مستوى القادة العسكريّين الكبار. لكن ذوبان الجليد الحقيقى بين الطرفين حدث عندما بدأ أنصار فتح الله جولن فى القضاء بفتح تحقيقات فى قضايا فساد طالت عائلة أردوغان ودائرته القريبة. ففى تلك اللحظة، رأى أردوغان الجيش باعتباره حليفاً مُحتملاً فيما سيشن حرباً شاملة على أنصار جولن، حليفه السابق. وهكذا، فبعد إيماءة من أحد مستشارى أردوغان المُقربين فى هذا الشأن، تقدّم الجيش بشكوى يُطالب فيها بإعادة محاكمة العسكريين فى قضيّة «المطرقة» التى اتّهم فيها عشرات الجنرالات بتدبير انقلاب ضدّ حزب العدالة والتنمية. وألغت المحكمة لاحقاً القضيّة برمّتها مدّعية أنّ الأدلّة التى استندت إليها الاتّهامات السابقة كانت مُلفّقة، وحكمت بإطلاق سراح الضبّاط الذين سجنوا على إثرها. وجاءت إحدى الإشارات الدالّة على دفء العلاقات بين الجيش وحزب العدالة والتنمية مؤخراً مع حضور خلوصى أكار الرئيس الحالى لهيئة الأركان كشاهدٍ شرعيّ على عقد قران ابنة أردوغان.
4
ولا شكّ أنّ الفوضى التى اجتاحت سوريا والعراق والتوتّر الذى تصاعد مع روسيا قد ساهما فى عودة الجيش كقوّة وسيطة فى الداخل والخارج. وراح الإعلام الموالى للحكومة، الذى اعتبر يوماً أنّ المُحاكمات ضدّ العسكريّين كانت نصراً كبيراً للديمقراطيّة، يمتدح «الجهود البطوليّة» للقوّات المُسلّحة التركية فى التصدّى لأعداء تركيا الداخليّين والخارجيين. وفى لفتة كبيرة لحلفائه الجُدد، دافع أردوغان عن العلمانيّة بعد دعوة مستشاره إسماعيل كهرمان لإزالة أيّ إشارة لها من الدستور التركى.
راهن أردوغان على أنّ هذه الإشارات سوف تكبح جماح الجيش، لكنّه كان يلعب بالنار فى الوقت نفسه ولعلّه من اللافت أن رئيس هيئة الأركان لا يخضع لسلطة وزير الدفاع وما زال قانون الخدمة العسكريّة الداخلى، الذى اُستخدم للسماح للجيش بالتدخّل فى السياسة سارى المفعول. ويوضح القانون أنّ «مهمّة القوات المُسلّحة التركية تتمثّل فى الحفاظ على حماية الوطن التركى والجمهوريّة كما هو مُحدّد فى الدستور». واستند الجيش إلى هذة المادة كمسوّغٍ قانونى للانقلابات التى نفّذها فى الماضى.
لهذه الأسباب، بدا أن الجيش غير مُهتمٍ بشكلٍ خاص فى التدخّل فى العمليّة السياسية، على الأقل فى هذا التوقيت. فبعد ردّ الفعل الشعبى على «الانقلاب الإلكترونى» يُفضّل الجيش البقاء بعيداً عن السياسة. وسبق أن أصدرت هيئة الأركان بياناً شديد اللهجة تنفى فيه بشكلٍ قاطع الاتّهامات الموجّهة من قِبل بعض الدوائر الحكوميّة بالتجهيز لانقلاب عسكرى. كما أنّها هدّدت باتّخاذ إجراءات قانونيّة ضد المنابر الإعلاميّة التى تروّج لأخبارٍ من هذا النوع. اعتمد الجيش دائماً على الدعم الشعبى عندما قرّر التدخّل فى السياسة. وكان انقلاب عام 1980 الذى يُعدّ الأكثر دمويّة فى تاريخ البلاد، مثلاً حظى بالدعم الشعبى من الجماهير التى رأت تدخّل الجيش ضرورياً لإعادة الاستقرار إلى البلاد. اليوم، يعرف الجيش بشكلٍ جيّد أنّ أيّ تدخّل ضدّ أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذى نال حوالى 50% من الأصوات فى الانتخابات الأخيرة سيحظى بالقليل من الدعم الشعبى وسيحطّم جهود الجيش لاستعادة موقعه فى المجتمع.
لابد هنا أن نعود إلى منتصف أكتوبر 2014 حين وصفت مجلة «نيوزويك» الأمريكية خسارة تركيا سباقها للفوز بمقعد مجلس الأمن الدولى بالمفاجأة الهائلة، التى تكشف الاحتكاكات المستمرة بشكل متزايد مع بعض من جيرانها وأيضاً مع بعض القوى العالمية.
نيوزويك قالت إن إسبانيا ونيوزيلاندا فازاتا على تركيا فى مساع للحصول على عضوية غير دائمة بمجلس الأمن، فى سباق على مقعدين متاحين محفوظين لكتلة تصويتية تسمى أوروبا الغربية ومجموعة أخرى بينها الولايات المتحدة.
وأشارت المجلة الأمريكية، نقلاً عن عدد من المصادر الدبلوماسية، إلى أن الأيام القليلة التى سبقت التصويت شهدت حملة مكثفة بقيادة مصر والسعودية ضد عضوية تركيا فى المجلس، حيث تشعر القاهرة والرياض بالغضب من دعم الرئيس التركى للإخوان المسلمين، الجماعة التى تحاربها البلدان.
وتابعت المجلة أن وزير الخارجية التركى مولود جاوش أوغلو، استضاف حفلاً ضم مجموعة من الدبلوماسيين فى أحد الفنادق بنيويورك، حيث تنبأ الكثير من الحضور بانتصار سهل لتركيا، إلا أن بعض الدبلوماسيين قالوا بعد التصويت، إنهم رصدوا ابتعاداً واضحاً عن المعسكر التركى لصالح إسبانيا.
ونقلت المجلة الأمريكية عن أحد الدبلوماسيين قوله بعدما أفضى الاقتراع السرى إلى فشل تركيا، إن الأمر مفاجأة لأنه قيل له قبل أيام «إن تركيا حصلت على خطابات دعم من 160 دولة، إلا أنه أوضح أن إسبانيا حصلت أيضاً على 154 خطاب دعم من الدول الـ193 الأعضاء بالجمعية العامة»، وتابع الدبلوماسى قائلاً «لم يكن ينبغى أن تسير الأمور كذلك»، مشيراً إلى عادة بين الدول الأعضاء فى التعبير عن دعمهم علانية، بينما يعارضون العضوية فى الاقتراع السرى.
5
وبقدر ما أن الانقلاب الأخير لم ينجح فى الوقت الراهن، إلاً أن هناك سيناريو محتملاً قد يتدخّل الجيش فيه. فالأعوام الأربعة عشر التى حكم فيها حزب العدالة والتنمية خففت إلى حدّ ما من موقف الجيش تجاه العلمانية، لكن النزعة الانفصالية الكردية لا تزال خطّاً أحمر..وإذا كان رد أوردوغان هو اتخاذ إجراءات صارمة ووحشية والتسبب فى المزيد من الفوضى وما قد يتبعها من سفك للدماء؛ فهناك احتمال بأن يتزايد المطلب العام لاتّخاذ الإجراء المناسب. وحتّى فى ظلّ هذا النوع من السيناريوهات الخطيرة وغير المرغوبة، فإنّ تركيا أصبحت بعيدة كل البعد عن الاستقرار. وإلى حين حدوث ذلك، فمن المرجح أن تبقى علاقة الجيش والحكومة متوترة. ومن الضرورى على كل حال تسليط الضوء على الطبيعة التكتيكيّة والقيود المُحيطة بهذه العلاقة؛ وسيظلان على خلاف دائم ومستمر بعد الاستبداد المتزايد الذى سيمارسه أردوغان، وتصرفاته المتقلبة وسياسته الخارجية العدوانية التى تركز على الشرق الأوسط والتى أدت جميعها إلى نفور حلفاء تركيا الغربيين التقليديين وأثارت الامتعاض فى الداخل.. وقد لا ينجح أردوغان فى تحصين نفسه أو خلق توازنٍ فى مواجهة الجيش. وهو ما يدفعنا ننتظر انقلاباً آخر يقوم به الجيش، وإلا ستواجه تركيا مصيرها المحتوم الذى قادها إليه أردوغان.. والمصير المحتوم هنا هو الانهيار.
ابتعد أردوغان عن سياسة «صفر مشاكل» مع جيرانه، وبدأ فى المشاكل مع الاتحاد الأوروبى، واستخدام عضويته فى حلف الناتو كدليل على العظمة.
ولحسن حظنا وسوء حظه، فإن أردوغان، الذى ينظر إليه على أنه البطل من قبل نصف الشعب التركى، يقود البلاد إلى مسار مدمر. فلدى تركيا وشعبها الموارد والإبداع والمؤسسات لجعل بلادهم قوة كبيرة، وقد أظهر أردوغان هذه القدرة الخارقة للأتراك، وربما كان يمكن وصفه بأنه أتاتورك العصر الحديث حال استمراره فى الإصلاحات وخلق نموذج حقيقى للديمقراطية الإسلامية.
إن ما عجل بانهيار الإمبراطورية العثمانية هو الانحطاط السياسى الداخلى، والتعسفية فى ممارسة السلطة، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التى بنيت عليها هذه الإمبراطورية. وبناء على ذلك، فإذا أراد أردوغان إحياء الإمبراطورية العثمانية، فسيفشل؛ لأنه لا دولة تعيش بمفردها لتصبح عظيمة، دون شعب أو حكومة أو حرية أو حلم.