الموجز
الخميس 21 نوفمبر 2024 12:20 مـ 20 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن:البيت الأبيض يفاجئ العالم بتخفيض الــدولار!

الرئيس الأمريكى يصرخ: قوة الدولار تقتل أمريكا لصالح الصين وألمانيا
الصحف الأمريكية: البنوك المركزية لن تستجيب بسهولة لقرار تخفيض الدولار أمام العملات العالمية
مصر تحتاج جراحة اقتصادية دقيقة للاستفادة من متغيرات العالم حولنا
دول العالم كله تعيش «أزمة اقتصادية» وعلينا أن نبحث خططهم للتنمية
تجربة الهند تحتاج دراسة وفحصاً للخروج بنتائج تحافظ للفقراء على حقوقهم فى العيش الكريم
لا صوت يعلو فوق صوت الاقتصاد..
وحجر زاوية أى كلام فى الاقتصاد هو الدولار، الذى يشهد حالة من الارتباك منذ قدوم الرئيس الأمريكى الجديد دونالد ترامب.
أثناء كتابتى لهذه السطور، يجتمع الرئيس عبدالفتاح السيسى، مع المهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء، وطارق عامر، محافظ البنك المركزى، ووزراء المجموعة الاقتصادية. وعرفنا أن السيد الرئيس استعرض خلال الاجتماع، المؤشرات الاقتصادية العامة، ووصول احتياطى النقد الأجنبى إلى 26.3 مليار دولار. وعرفنا أيضاً أنه شدد على ضرورة الاستمرار فى توفير البيئة الملائمة للنمو الاقتصادى المستدام. وأكد على ضرورة توفير الاعتمادات المالية اللازمة لتوفير السلع الأساسية للمواطنين، بأسعار مناسبة.
فهل يمكننا أن نستفيد من المتغيرات التى يشهدها العالم فى تعزيز اقتصادنا بشكل أكبر؟
هل يمكننا أن نستغل حالة عدم اليقين فى الاقتصاد الدولى، لصالحنا خاصة مع التغيرات الاقتصادية والسياسية فى الولايات المتحدة فى ظل إدارة ترامب.. ومع مرور أوروبا بتغيرات صعبة؟
هل بإمكان خطّة إصلاح أن تنجح فى ظل هذه الظروف فى وضع الاقتصاد المصرى على طريق الاستقرار؟!.. وهل يمكننا توجيه رسالة طمأنة إلى الأسواق المالية الدولية واستعادة الاستثمارات الأجنبية؟!
كذلك، هل يمكن للحكومة أن تستفيد من هذه الأوضاع بأقصى درجة لتعظيم تدفقات النقد الأجنبى، وتحسين الأداء الاقتصادى بشكل عام؟!
وهل يمكن أن يصل الجنيه المصرى إلى وضع مستقر ومناسب أمام الدولار؟!
هل تساعد حالة الأداء الاقتصادى الكلى خلال المرحلة المقبلة؟!
وهل يستطيع البنك المركزى أن يقوم بتلبية أى طلبات مستقبلية على الدولار؟!
والأهم، كيف يتم توفير الاعتمادات المالية اللازمة لتوفير السلع الأساسية للمواطنين، بأسعار مناسبة؟!
فى الإجابة عن تلك الأسئلة، تشخيص للأوضاع وللظروف الراهنة، ومنها يمكن أن نرى ما يحدث من حولنا إقليمياً ودولياً، واضعين فى الاعتبار أن الدولة تسعى جاهدة لتوفير كافة السلع الأساسية للمواطنين، بأسعار مناسبة فى ظل تقلبات الأسواق.. وأن تقلبات الأسواق لا ترتبط بمصر فقط، وأن غالبية دول العالم تمر بأوضاع اقتصادية صعبة بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة التى جعلت الكثير من الدول تقوم بتعويم عملتها، وهذا ما لا نتمناه لمصر.. خاصة فى هذا التوقيت الصعب، بل وشديد الصعوبة، الذى لن نتمكن من تجاوزه إلا بخطة شاملة وحلول جذرية للإصلاح الاقتصادى، وليس بسياسات مسكنّة تعالج قضايا جزئية، أو تستهدف فقط المواءمة السياسية.
خطة، تتعامل مع التحديات الاقتصادية، وتسعى للوصول إلى نتائج طويلة المدى ومستمرة. ولتحقيق ذلك، لابد أن يعاد تشكيل الحكومة ويكون تكليف الوزراء، ووزراء المجموعة الاقتصادية بالذات، قائماً على معيار الكفاءة. فبدون وجود إرادة قوية لإدارة الاقتصاد، وخطة محكمة تنفذها كوادر تتمتع بقدر كبير من الكفاءة، ستظل مصر مهددة بمواجهة انهيار اقتصادى.
ومع وزراء المجموعة الاقتصادية.. وربما قبلهم.. نرى ضرورة التوقف طويلاً أمام أداء محافظ البنك المركزى.
غير أن ذلك، لا يمنعنا من الوقوف عند الحصار الاقتصادى الذى تفرضه علينا دول كبرى على خلفية صراعات فرض الهيمنة والنفوذ فى منطقة الشرق الأوسط. وما من شك فى آن الآلة الدعائية المعادية لمصر، نجحت فى إطلاق العديد من الشائعات التى كان لها بالغ الأثر فى تفاقم الأزمة وزيادة تعقيدها. فهى التى ساهمت فى ارتفاع الدولار بشكل جنونى. وما يؤسف هو أن مواقع إخبارية ووسائل إعلام مملوكة لرجال أعمال مصريين، تولّت الترويج للأكاذيب الإخوانية.
نعود ونسأل، هل يمكننا أن نستفيد من المتغيرات التى يشهدها العالم فى تعزيز اقتصادنا بشكل أكبر؟ وهل يمكننا أن نستغل حالة عدم اليقين فى الاقتصاد الدولى، لصالحنا خاصة مع التغيرات الاقتصادية والسياسية فى الولايات المتحدة فى ظل إدارة ترامب.. ومع مرور أوروبا بتغيرات صعبة؟
والحقيقة، هى أنه بينما كان يتوقع البعض أن الدولار سوف يرتفع، قال مديرو الصناديق، الذين شملتهم دراسة استقصائية أجراها «بنك أوف أمريكا ميريل لينش» إنهم يحتفظون بكميات كبيرة من العملة وإنهم قلقون من إنها تجارة خاسرة.
وتسعى إدارة ترامب الجديدة لكشف النقاب عن الحوافز المالية وتعزيز النمو، وينبغى لهذا أن يشجع هؤلاء الذين يريدون شراء الأسهم الأمريكية أو الاستثمار فى مصانع البلاد.
وقال الرئيس ترامب لـ«وول-ستريت جورنال» إن «شركاتنا لا تستطيع التنافس مع الشركات الصينية فى الوقت الراهن، لأن عملتنا قوية جداً والأمر يقتلنا». وأشار ديفيد بلوم من «إتش إس بى سى»: «لم يتصادم هذا الأمر فقط مع النداء طويل الأجل الذى يقول إن الدولار الأمريكى الأقوى يقبع ضمن مصالح الولايات المتحدة»، بل أشار أيضاً إلى أن «الخزانة الأمريكية، هى التى تقترح السياسات الخاصة بالدولار».
الإدارة الجديدة لا تشكو من الصين وحدها، أوضح مستشار التجارة فى إدارة ترامب، بيتر نافارو، لصحيفة «فاينانشيال تايمز» أن «ألمانيا... تواصل استغلال الدول الأخرى فى الاتحاد الأوروبى، إضافة إلى الولايات المتحدة، وأنها تبيع منتجات ألمانية بأقل من قيمتها وأهميتها بشكل واضح».
وتساءل تقرير صادر عن مكتب الدراسات الاستراتيجية، التابع لشركة إى.دى.إس سيكيوريتيز، حول إمكانية أن تؤدى السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى تخفيض الدولار أمام العملات الرئيسية العالمية، وهل تستجيب البنوك المركزية لهذا الطلب، خاصة تلك التى تمثل الدول التى تعد شريكاً تجارياً رئيسياً للولايات المتحدة؟
وحول إمكانية ترامب فى تطبيق خططه الجديدة التى أعلن عنها، ذكر التقرير أنه تبرز احتمالية أن يواجه تحديات على المستويين المحلى والدولى، فعلى الصعيد المحلى هل سيكون قادراً على تخفيض الضرائب على الشركات وتقليل الإنفاق على القطاع الصحى والتسليح، وكيف سيقوم بتمويل خططه الخاصة بتطوير البنية التحتية، فهل سيكون لديه حلول غير الاستدانة وتخفيض الدين العام الذى وصل إلى 20 تريليون دولار؟
أما على الصعيد الدولى فتساءل التقرير حول كيفية تعامل ترامب مع الاتفاقيات التجارية وهل سيتمكن من زيادة الرسوم الجمركية إلى 45% على بعض الدول التى تشكل الجزء الأكبر من العجز التجارى، كلها أسئلة بانتظار الأجوبة حولها فى المستقبل القريب لكى يكون هناك المزيد من الوضوح.
وفى ظل هذا الواقع أشار التقرير إلى الالتفات إلى الذهب خلال هذه الفترة، شهد الدولار الأمريكى أكبر انخفاض له منذ سبتمبر الماضى نتيجة اتهامات ترامب للدول التى تخفض عملاتها أمام الدولار الأمريكى، الأمر الذى أدى إلى موجة بيع مكثفة من قبل المستثمرين، حيث لامس مؤشر الدولار الأمريكى أمام العملات الرئيسة مستويات 99.25، ومن المتوقع أن يبقى الدولار متأثراً بهذا الوضع إلى أن تتضح الصورة بخصوص خطط ترامب والخطوات التى سيقوم بتطبيقها
وأشار التقرير إلى أن أبرز الآليات التى يعتمدها ترامب ليحقق هذا التوازن هى إعادة النظر فى الاتفاقيات التجارية، حيث باشر بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع دول المحيط الهادئ، وفرض رسوم جمركية عالية على المصنعين فى حال لم يعودوا إلى بناء مصانعهم فى الداخل، وتخفيض الضرائب على الشركات من 35% إلى 15%، وبناء المشاريع التى تساهم فى تخفيض تكلفة الطاقة، مثل مشروع أنابيب دوكوتا الذى أعلن عنه مؤخراً بتكلفة 17 مليار دولار، والذى يولد 28 ألف وظيفة، ويقلل من تكلفة استيراد الطاقة.
وتطرق التقرير إلى أنه فى ظل هذه الإجراءات التى تم اتخاذها من قبل الإدارة الأمريكية الجديدة أدت إلى المزيد من الوضوح لدى الأسواق المالية وكان أهم ترجمة لذلك هو تخطى مؤشر الداو جونز حاجز 20 ألف نقطة وهو مستوى تاريخى يتجاوزه للمرة الأولى ما يعكس ثقة المستثمرين بالاقتصاد الأمريكى وكنتيجة لذلك أيضاً انخفضت أسعار الذهب بسبب ارتفاع شهية المستثمرين إلى المخاطرة.
ولفت التقرير إلى أن الولايات المتحدة لديها عجز تجارى بما يقارب 700 مليار دولار سنوياً منها 320 ملياراً مع الصين و161 ملياراً مع الدول التى تأتى ضمن اتفاقية التجارة الحرة عبر المحيط الهادئ مثل اليابان وكندا والمكسيك ومع ألمانيا بحدود 74 مليار دولار سنوياً وفى حال تمكن ترامب من إعادة التوازن التجارى وتساوت الولايات المتحدة تجارياً مع هذه الدول فذلك سيشكل دفعاً قوياً للاقتصاد الأمريكى حيث يشير التقرير فى دراسة أولية إلى أن قيمة العجز التجارى فى حال وصل إلى نقطة التساوى فسينعكس ذلك بما يقارب بثلاثة أضعاف على الاقتصاد الأمريكى أى بزيادة نحو 3 تريليونات دولار على الناتج المحلى الإجمالى.
وأشار التقرير إلى أن المستفيد الأكبر من هذا الواقع ستكون الشركات الأمريكية نظراً لمجالات الاستفادة المتعددة التى ستحصل عليها بدءاً من تخفيض الضرائب والتمويل واستقطاب الاستثمارات الخارجية والقدرة على التوسع والتوظيف بشكل أسرع وأكبر.
ولفت التقرير إلى أنه كما هو ظاهر حتى الآن بأن الرئيس الأمريكى لديه خطط لإيجاد التمويل المناسب لمشروعه الاقتصادى من الممكن أن تكون غير اعتمادية بشكل أساسى على الاستدانة بل عبر خطوات إجرائية مثل تخفيض الضرائب أو زيادة الرسوم الجمركية أو هناك حلول أكثر فاعلية لم يتم الإعلان عنها حتى الآن ويمكن أن يكون تخفيض قيمة الدولار أحد الحلول وكان قد أعلن الرئيس ترامب عن أن قوة الدولار تؤثر بشكل قاتل على الاقتصاد الأمريكى.
أيضاً، أشار مصرفيون إلى أن عدم وضوح برنامج التحفيز المالى الذى تعهد به ترامب، ساهم أيضا فى دفع الدولار للانخفاض منذ بداية العام. وتصاعدت المخاوف حين قال روبرت نافارو، وهو مستشار تجارى كبير للرئيس، إن اليورو مسعر «بأقل من قيمته الحقيقية بكثير» ما دفع اليورو للارتفاع فوق 1.08 دولار للمرة الأولى منذ أوائل ديسمبر، وتراجع مؤشر الدولار نحو واحد٪ إلى أدنى مستوى له فى 7 أسابيع.
وزادت المخاوف بتلك التصريحات التى أطلقها نافارو، حين اتهم فيها دولاً أخرى بالاستفادة من تخفيض العملة، وشملت الاتهامات كلا من اليابان والصين وألمانيا.
وقال ترامب خلال اجتماع مع الرؤساء التنفيذيين لعدد من كبرى شركات صناعة الدواء إن قيام دول أخرى بخفض قيمة عملاتها دفع المزيد من صناع الدواء إلى نقل الإنتاج إلى الخارج. ودعا الشركات إلى زيادة الإنتاج فى الولايات المتحدة.
ويرى محللون أن ترامب يلعب على التوازن بين السيطرة على الأسعار وتخفيف القواعد التنظيمية، رغم أن غالبية الأمريكيين لا يريدون إلغاء جميع القواعد التنظيمية التى تحكم صناعة الدواء.
وكانت التوقعات فى نهاية العام الماضى ترجح أن تعزز سياسات ترامب النمو والتضخم ما يقود لزيادة أسعار الفائدة بوتيرة أسرع وقد رفعت الدولار إلى أعلى مستوياته فى 14 عاماً، لكنه هبط بشكل حاد منذ ذلك الحين ويجرى تداوله حالياً بزيادة تقل بنسبة 2٪ فوق مستوياته ما قبل فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية.
وأصبحت الأسواق اليوم ترجح أن تعتمد الإدارة الجديدة سياسة دفع الدولار للتراجع، لزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الأمريكية، وتشجيع زيادة الإنتاج فى الولايات المتحدة.
وكانت صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية قد نسبت إلى نافارو قوله إن ألمانيا تستخدم اليورو «المسعر بأقل من قيمته الحقيقية بكثير» لكسب ميزة على حساب الولايات المتحدة وشركائها فى الاتحاد الأوروبى.
وقال تيرى ألبرت ويزمان محلل أسعار الفائدة وأسواق الصرف لدى مؤسسة ماكوارى فى نيويورك إن «من الواضح أن ترامب يدلى بتصريحات تفيد أن ما تقوم به الدول الأخرى غير عادل..إذا كان هذا مؤشراً على تغير سياسة الخزانة الأمريكية فيما يتعلق بالدولار فسيكون أمراً مهماً».
التصريحات غير المتناغمة لإدارة ترامب والتسريبات من البيت الأبيض أصبحت تحصل على مزيد من الاهتمام، وفى خلال أسبوعين فقط من توليه الرئاسة، اتخذ ترامب بالفعل بعض التدابير الجوهرية فيما يتعلق بالاقتصاد، بما فى ذلك أمر تنفيذى يحد عموماً من اللوائح ومراقبة التكاليف التنظيمية، ما يتطلب استكمال مشاريع خطوط الأنابيب باستخدام منتجات الحديد والصلب التى يتم تصنيعها فى الولايات المتحدة، ومراجعة قانون «دود-فرانك» لإصلاح وول ستريت، وإلغاء مرسوم أوباما حول الاستشارات المالية قبل أن يدخل حيز التنفيذ فى شهر أبريل. وعلاوة على ذلك، فقد جعل ترامب «ويلبر روس»، مرشحه لتولى وزارة التجارة، أحد كبار المسئولين عن مفاوضات اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا). ومن خلال القيام بذلك، نزع ترامب فتيل وضع ربما يكون قبيحاً وقام بتهميش بعض من مستشاريه. ويُعد إصلاح اتفاقية «نافتا» خطوة مهمة للغاية، ومن الجيد أن ترامب منح «روس» هذه السلطة القوية.
ومن ناحية أخرى، فإن إدارة ترامب ليس لديها أى مشكلات لن يحلها النمو الاقتصادى الذى يبلغ معدله 4٪. ومما قد يعد نعمة بالنسبة للبيت الأبيض أن وسائل الإعلام كانت مهووسة فى أغلب الوقت بمسائل تافهة حتى الآن، وأنها تركت الأمور الاقتصادية المهمة تبتعد عن بؤرة الاهتمام. وربما تكون قد سمحت للمجلس الاقتصادى الوطنى، والقوى التى تنمو ببطء فى وزارة الخزانة ووزارة التجارة وقيادة الحزب «الجمهورى» فى الكونجرس، لكى تعمل بهدوء على بعض التدابير المهمة التى ستغير مسار الاقتصاد الأمريكى. ولكن الآن، تحتاج إدارة ترامب إلى تحويل النقاش تجاه الاقتصاد. وقد جمع ترامب مجموعة من قادة الاقتصاد معظمهم يتصف بالدهاء للعمل فى إدارته. وما يحتاج إلى القيام به هو السماح لرسالته الاقتصادية باختراق كل هذه الضوضاء. لقد لعب الاقتصاد دوراً كبيراً فى انتخابات 2016 وفى فوز ترامب، وهو بحاجة إلى تجنب أو مقاومة الإغراء بالتحدث عن هوس وسائل الإعلام الحالى والتحول إلى رسالة اقتصادية قوية.
وهناك أيضاً أسباب تدفع للاعتقاد بأن طموحات «ستيف بانون» (وهو كبير الاستراتيجيين فى البيت الأبيض)، لتبنى منهج «القومية الاقتصادية» ستصطدم بعوائق سياسية لا تقل عن تلك التى يواجهها فى أثناء تنفيذ التعليمات الأمنية فى مسقط رأسه (نورفولك -فيرجينيا).
وفيما يتعلق بالأمن، فإن من المتوقع أن يواجه معارضة من المحاكم المختصة والشركات الأمريكية وعامة الشعب، وحتى من مسئولى الحكومة فى إدارة ترامب ذاتها. وعندما يتعلق الأمر بالتجارة، فإن ترامب يستأثر بالسلطة اللازمة التى تخوله فرض الحواجز الجمركية على السلع العابرة للحدود، ولكنه أيضاً لا يمتلك الكثير من القوة لمواجهة معارضى هذه الإجراءات. وفيما يبدو أن عامة الناس ليسوا حمائيين للدرجة التى يعتقدها المنتقدون، إلا أن من المؤكد أن القسم الأكبر والأكثر صخباً منهم يهوون فكرة التخلص من المنافسة الأجنبية.
على أن صيغة «بانون» الاقتصادية بسيطة، فهو يريد إعادة النظر فى الضوابط المحلية، وفى الاقتطاعات الضريبية المفروضة على الشركات، وتحديد الإنفاق على البنى التحتية والدفاعية، وتبنى أنظمة متكاملة للحماية الجمركية المفروضة على السلع والخدمات المستوردة، وأيضاً على البشر الذين يتم استقدامهم للعمل.
ولاشك أن الدول الأخرى سترد على هذه الإجراءات بطرق يمكن أن تضر بالصادرات الأمريكية أيضاً، ولكننى لا أعتقد أن هذه الحقيقة يمكنها أن تزعج الفريق الذى يعمل إلى جانب ترامب فى البيت الأبيض. وعندما يتحدث مستشار ترامب «بيتير نافارو» عن عودة أمريكا عن العولمة، وعن سلسلة التموين الصناعى الأمريكى الذاتى، فستعلم عندئذ أن إدارة ترامب تريد تغيير الاقتصاد الأمريكى وإعادة تشكيله من جديد.
ولكن إذا تم تنفيذ هذه الخطط، فما التأثيرات السياسية والاقتصادية التى ستخلفها على أجندة إدارة ترامب؟ وحتى نستخدم اللغة الشائعة فى علم الاقتصاد السياسى، فإننا نقول إن «قومية بانون الاقتصادية» هى محاولة لمكافأة القطاعات غير التجارية على حساب القطاعات التجارية.
ويلاحظ أن الإنفاق على البنى التحتية، وإعادة التنظيم الإدارى والتوجهات الحمائية، ستصب جميعاً فى مصلحة قطاعات معينة، مثل الإسكان وصناعة الفحم والنفط. وأما الحواجز التجارية والعوائق التى توضع فى وجه المهاجرين، فستضر بقطاعات، مثل التكنولوجيا والطيران التجارى والتعليم العالى. وفى قطاع التصنيع، ستتلقى الشركات الأقل قدرة على المنافسة دفعة قوية إلى الأمام. وستعانى قطاعات أخرى، مثل الزراعة نتائج وتأثيرات متنوعة.
ويبدو أن هناك نمطية جديدة بدأت لتوّها فى العمل هنا. فهذا النوع من «القومية الاقتصادية» من شأنه أن يمثل دافعاً يستنهض همم مواطنى بعض أجزاء أمريكا التى أيدت ترامب فى انتخابات عام 2016.
ومن الناحية النظرية، يمكن القول إن تقوية قطاعى الطاقة والتصنيع يصب فى مصلحة الولايات المحاذية لجبال الآبالاش، بالإضافة إلى تكساس والغرب الأوسط الصناعى.
وأما المناطق التى ستتأثر كثيراً بهذه السياسات، فهى التى تقع على الشاطئين الشرقى والغربى، وهى الأماكن التى يمكن وصفها بأنها لا تحب دونالد ترامب. ويقول أحد المعلقين، إن سياسات ترامب الاقتصادية الخارجية تم تصميمها من أجل شد عضد الائتلاف الهش الذى ساعده على الفوز فى الانتخابات الماضية.
ويدفعنا كل ذلك إلى القول، إن التداعيات التى ستخلفها سياسة «بانون» القومية الاقتصادية ذات طبيعة توزيعية. فإذا أثمر شعاره هذا عن إعادة توزيع عادلة للنمو الاقتصادى فى الولايات المتحدة، فإن ذلك سيقوى من شعبوية «بانون» الاقتصادية فى أوساط مواطنى أكثر الولايات أهمية من النواحى الانتخابية. أما لو كُتب لها أن تتسبب فى موجة من التراجع إلى الوراء، فعندئذ لن تكون كل القوى الاقتصادية التى يحتكم إليها العالم كافية لإنقاذ ترامب.
ماذا ينبغى على مصر أن تفعل فى هذا الوقت العصيب الذى يغلفه عدم اليقين فى الاقتصاد الدولى، ومع سياسات الولايات المتحدة الاقتصادية الجديدة فى ظل إدارة ترامب، وكذا مرور أوروبا بتغيرات جذرية وصعبة؟!
هل يكون الحل فى الاستفادة من التجربة الهندية؟
بعد قرار الحكومة الهندية إبطال قيمة أوراق النقد ذات الفئات الكبيرة الذى أدى إلى بطء فى نمو الاقتصاد الهندى، حاولت الحكومة تقديم ميزانية سنوية لهذا العام تستهدف تقليص تأثير عملية إبطال قيمة أوراق النقد تلك. والهدف الذى أعلنته حكومة «ناريندرا مودى» من وراء إبطال قيمة أوراق النقد تلك هو التصدى لاقتصاد الأموال السوداء فى الهند الذى يُقدر بأنه يساوى أو يزيد على حجم الاقتصاد الرسمى فى البلاد. واستهدف الإجراء أيضاً إعادة ما يُعادل مليارات الدولارات من النقد فى صورة ثروة غير محسوبة فى الاقتصاد الرسمى إلى التيار الرئيسى للاقتصاد، بالإضافة إلى توجيه ضربة إلى تمويل المتشددين الذين استهدفوا الهند ويشتبه فى أنهم يستخدمون أوراقاً نقدية مزيفة من فئة 500 روبية لتنفيذ عملياتهم الإرهابية، لكن التنفيذ السيئ للقرار أدى إلى تعطش كبير للنقد فى النظام، ما أدى إلى إنفاق أقل بسبب النقص فى الأوراق النقدية الجديدة فى النظام.
وأضر هذا بالقطاع غير الرسمى، حيث فقد مئات من عمال المياومة أعمالهم فى اقتصاد يسيطر عليه الدفع النقدى وواجه المزارعون ضربة قوية بسبب ضعف المبيعات وانخفاض أسعار منتجاتهم. وكل هذا أضر بنمو الاقتصاد الهندى الذى كان قبل إبطال قيمة فئات العملة من بين أسرع اقتصادات العالم نمواً، لكنه انخفض إلى نسبة نمو بلغت 6.5% فى هذه السنة المالية مقارنة مع 7.6% فى السنة المالية الماضية. وحاول وزير المالية الهندى أثناء تقديمه للميزانية الاتحادية 2017-2018 فى البرلمان فى الأيام القليلة الماضية أن يقلل من شأن الآثار السلبية لإبطال قيمة الأوراق النقدية خاصة بالنسبة لمن هم فى القطاعات الأدنى والصغيرة والمتوسطة من الصناعات التى تضررت أشد الضرر بسبب الافتقار إلى النقد. وخصصت الميزانية 3.96 تريليون روبية للبنية التحتية فى السنة المالية 2017/2018 بزيادة 2.12 تريليون روبية عن السنة السابقة. وخفضت أيضاً معدل الضرائب على الشركات للأنشطة الاقتصادية الصغيرة التى تكسب أقل من 500 مليون روبية سنوياًً.
ومما لا شك فيه أن تعزيز الإنفاق على البنية التحتية فى الطرق السريعة والسكك الحديدية والموانى وغيرها من عناصر البنية التحتية الأخرى خطوة مهمة بالتأكيد ولها قدرة كامنة على تحفيز الصناعات الأخرى وعلى زيادة الوظائف.
لكن رغم هذا فمن المحتمل أن يتفاقم بطء النمو الاقتصادى نتيجة الإصرار على منع الدفع نقداً فوق مبالغ معينة من أجل تعزيز عملية الدفع الرقمية كجزء من مسعى الحكومة لمكافحة الفساد، وهذا لأن المناطق الريفية التى تجرى فيها معظم التعاملات المالية نقداً ما زالت غير قادرة على التعافى من هزة إبطال قيمة الأوراق النقدية. ورغم تقديم أكبر زيادة فى الدعم للمناطق الريفية فى الخطة القومية من 385 مليار روبية إلى 480 مليار روبية، لكن الميزانية لم يأتِ فيها ما يدل أنها أولت معالجة القضية ما يكفى من الاهتمام. والصناعة صغيرة ومتوسطة الحجم، والتى تمثل القوة المحركة للصناعة فى الهند، تضررت بشدة من عملية إبطال قيمة الأوراق النقدية ويتعين أن تستعيد السيولة النقدية لتعود قادرة على السير على الطريق الصحيح من جديد.
وتم وصف الميزانية بأنها «متوازنة»، ولم يتم الإعلان عن مبادرات جديدة أو عن انفتاح جديد فى الاقتصاد أو تشجيع الاستثمار الأجنبى المباشر.
ولكى نعطى دفعة للنمو الاقتصادى تحتاج الحكومة أن تحسن الإجراءات وتضمن أن يكون المستثمرون الأجانب قادرين على الاستثمار بسلاسة دون مواجهة عراقيل إجرائية وبيروقراطية. وعلينا أن نعمل جاهدين على اجتذاب الاستثمارات من دول العالم المختلفة، وتحديداً من دول الخليج العربى.
الهند مثلاً، أعلنت إلغاء هيئة الترويج للاستثمار الأجنبى وجعلت الاستثمار فيها أيسر على المستثمرين الأجانب. وهو ما يجب أن نستفيد منه وأن نتخذ قرارات جريئة لتخفيف الإجراءات كى يتحقق هذا الهدف، ولنكرر تلك التجربة المبشرة، والتى تقول السنوات الثلاث الماضية إنه ذهب ما يزيد على 90% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الهند تلقائياً بسبب دعم الحكومة السابقة والحالية لسياسة الدعم المباشر للاستثمار الأجنبى.
الحل، إذن، لا بد أن يأتى عن طريق الإصلاح الاقتصادى؛ غير أن ما نراه من وزراء المجموعة الاقتصادية فى حكومة شريف إسماعيل، يشير بوضوح إلى أنهم لم ينجحوا فى اختبار التعامل مع الأزمة، التى فجرها تراجع الاستثمار الأجنبى إلى أقل من ثلاثة مليارات دولار، وتراجع تحويلات المصريين فى الخارج من عشرين مليار دولار إلى نحو مليارين فقط. وكذلك وصول إيرادات السياحة إلى أدنى معدلاتها بتراجع بلغ نحو أحد عشر مليار دولار، واختلال الميزان التجارى بين واردات مصر، التى بلغت قيمتها السنوية ما يزيد على ثمانين مليار دولار، فى مقابل صادرات سنوية تتراوح قيمتها بين عشرين وخمسة وعشرين مليار دولار؛ الأمر الذى راكم عجزاً فى الموازنة العامة، تجاوز ثلاثمائة وعشرين مليار جنيه للسنة المالية الجارية.
وبالطبع، فإن أى مسكنات لن تحل الأزمة التى لن نتجاوزها بدون برنامج إصلاح اقتصادى متكامل يزيد من موارد الدولة، مع وقف استيراد السلع التى لا لزوم ولا حاجة ضرورية لها وتشجيع الصادرات وخلق مناخ جاذب للاستثمار.
وبناءً على ذلك، فليس أمامنا غير استمرار النمو وزيادة القدرة على الإنتاج بعوامل أكثر قدرة تأخذ بعين الاعتبار صياغة استراتيجيات للنمو تنحاز إلى تطوير الزراعة والصناعة والتجارة عبر التصنيع والمشروعات طويلة الأجل إضافة إلى المشروعات صغيرة والمتوسطة.‏
وهنا تظهر أهمية وضع خطة ولتكن سباعية من خلالها يتم الاهتمام بتوجيه جزء أكبر من الموازنة العامة للدولة نحو الاستثمار فى التعليم والبحث العلمى والصحة بما يخدم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مع إعادة النظر فى المخصصات التى كانت تنفق على الأمن بغرض تأمين النظام الفاسد، وأن تقتصر على تحقيق الأمن النفسى والمادى للمواطنين، وفتح المجال للقطاع الخاص وفقاً لتوجيهات الدولة ورقابتها لاتخاذ دوره الأساسى فى تحقيق تغير هيكلى فى النشاط الاقتصادى يؤدى إلى زيادة نمو الناتج القومى الحقيقى وتنويعه وفقا لأولويات المجتمع من ضروريات. وبالشكل الذى يعالج تشوهات هيكل النشاط الاقتصادى المصرى الذى يعكسه سوء توزيع النشاط الاقتصادى بين القطاعات الرئيسية، الصناعة والزراعة والخدمات.. ونشير هنا إلى أن قطاع الخدمات هو صاحب النصيب الأكبر من حيث مساهمته فى الناتج المحلى لاستحواذه على ما يزيد على 50%، وهو ما أدى إلى تهميش مساهمة قطاعى الصناعة والزراعة وهما القطاعان اللذان يتيحان فرص عمل حقيقية ودائمة ويشكلان قدراً مهماً من القيمة المضافة. وقد كان ذلك نتيجة طبيعية لسلوك رجال الأعمال المنتفعين الذين حصلوا على كافة المزايا من ضرائب وجمارك وأسعار شديدة الانخفاض لأراضى ومرافق الدولة، واتجهوا لقطاع الخدمات وأهملوا قطاعى الصناعة والزراعة.
وما من شك أن النجاحات التى تحققت اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً فى مصر‏ تغرينا بأن نكمل المسار‏ وأن نحتشد لإحداث عملية تراكمية أكبر وأقوى فى النمو ما حدث فى السنوات الخمس الأخيرة‏ باستخدام وسائل وأساليب مبتكرة باعتبارها مصدر الحلول الجذرية الأساسى للحد من ظاهرة الفقر مع المصدر الثانى وهو تقوية القوة البشرية فى بلادنا‏ بأن يدرك كل مواطن أهمية القدرة على الإنتاج وأن يحاول قدر إمكانه الإسهام فى عملية التطور والنمو‏ كل حسب قدراته وإمكانياته.‏
وأخيراً، فإن السعى إلى تعزيز الاقتصاد بشكل أكبر، يأتى كما قلنا فى وقت من عدم اليقين فى الاقتصاد الدولى، خاصة مع لجوء الولايات المتحدة فى ظل إدارة ترامب إلى سياسات الحماية، ومرور أوروبا بتغيرات بعد قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبى، والذى قد تتبعها فيه دول أخرى.
وتبقى الكرة فى ملعب الحكومة ومدى قدرتها على معالجتها للوضع الاقتصادى الكلى وكيفية مواجهتها للتضخم، والهبوط بمعدلاته إلى مستويات معقولة، وزيادة الأجور وضبط الأسواق لضمان عدم ارتفاع أسعار السلع التى لا يوجد مبرر حقيقى لارتفاعها، مع توسيع شبكة الضمان الاجتماعى لتغطى كافة الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، والتى هى غالبية عدد السكان.