الموجز
السبت 9 نوفمبر 2024 12:45 صـ 7 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن:وقائع قتل الأطفال وهتك عرض النساء وتعذيب الشيوخ وسحل القضاة فى شوارع إسطنبول

تحريم الصلاة على الجنود القتلى
بأمر هيئة الشئون الدينية فى أنقرة
قاعدة إنجرليك العسكرية.. لغز المخابرات الأمريكية فى تركيا
أسرار التهديد بالسلاح النووى الأمريكى فى انقلاب الساعات الخمس
قصة ثلاثة رجال فى حياة فتح الله جولن:
اليهودى إبراهام فوكس



الكاردينال الكاثوليكى جون أوكونير
بابا الفاتيكان
بمجرد نزول طائرته فى مطار أتاتورك بإسطنبول، كانت جملة «رجب طيب أردوغان» الأولى: «إن محاولة الانقلاب هبة من الله»، بما يعنى أنه كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر ليتمكن من تنفيذ خطته المؤجلة!
إنها الخطة «الإخوانية» داخل تركيا التى تستهدف طحن عظام جميع المعارضين لشخص «السلطان» واستئصالهم لكى ينفرد بالسلطة ويتحكم تحكماً مطلقاً فى البلاد والعباد، وهى الخطة نفسها التى كنا سنشهد مثلها وربما أبشع منها لولا ثورة 30 يونية المجيدة.
لم تمض ساعات قليلة على وقوع الانقلاب إلا وخرجت من أدراج السلطان المذعور وقبل أى تحقيقاًت أو تحريات، قوائم اتهام معدّة سلفاً بأسماء عشرات الآلاف من الجنرالات والأدميرالات وعناصر الجيش والدرك والشرطة والقضاة وأساتذة الجامعات والمدرسين والمعلمين وطالت حملة الاعتقالات والإقالات والتطهير كل من هب ودب.
انقلاب الساعات الخمس ترك ألغازاً كثيرة وطرح أسئلة أكثر، الأمر الذى يستدعى قراءات متعددة قبل محاولات الإحاطة بهذا الحدث الزلزالى وارتداداته وأبعاد ما جرى بعده وانعكاسات ذلك على علاقات تركيا مع دول الجوار والعالم، خاصة أن هذا الانقلاب جاء غير مكتمل ولا يشبه الانقلابات السابقة التى قام بها الجيش التركى من حيث الإتقان والمهنية، وأتى فى خضم حرب على الإرهاب اكتوى العالم بنيرانها، وأحد أطرافها الأساسيين نظام أردوغان، وهو ما جعل كثيرين يفرحون ويبتهجون للوهلة الأولى بسقوطه، وهى الفرحة التى لم تنته بقدر ما يمكن اعتبارها مؤجلة، وسط مخاوف بأن يجر أردوغان ونظامه تركيا كلها فى ذيولهم!
ووسط تواصل الحملة المحمومة التى يشنها النظام التركى بزعامة رجب طيب أردوغان لتصفية معارضيه بذريعة محاولة الانقلاب الفاشلة أقر أردوغان بأن عدد المعتقلين الذين تم القبض عليهم بحجة المشاركة فى محاولة الانقلاب ضده بلغ 13 ألفاً و160 شخصاً.
ونقلت مصادر صحفية عنه أن من بين المعتقلين ثمانية آلاف و838 عسكرياً، وألفين و101 قاض ومدع عام، وألف و485 شرطياً، و52 موظفاً حكومياًً، و689 غيرهم.
كما أشار إلى أن سلطات نظامه أغلقت 934 مدرسة و109 مساكن للطلاب و15 جامعة و35 مؤسسة صحية و1125 جمعية و19 نقابة، مجدداً عزمه على المضى فى سياساته القمعية وهدفه فى القضاء على ما يطلق عليه تسمية «الكيان الموازى» الذى يقصد به فعلياً خصومه السياسيين والمعارضين لسياساته.
إلى ذلك أعلن رئيس الوزراء بنيالى يلديريم حل الحرس الرئاسى.. وقال: لن يكون هناك حرس رئاسى.. ليس هناك سبب لوجوده ولسنا بحاجة إليه.
ودافع يلديريم عن إجراءات نظامه القمعية بالتذرع أن عناصر من الحرس الجمهورى كانوا بين أعضاء مجموعة دخلت مبنى التلفزيون الرسمى «تى آر تى» خلال محاولة الانقلاب وأجبرت مذيعة على قراءة بيان يعلن الأحكام العرفية وفرض حظر التجول وأوقف 283 من أفراد هذه القوة بعد فشل الانقلاب.
وأضاف يلديريم: 13002 قرار توقيف صدرت منذ بداية الأحداث ليل 15 إلى 16 يوليو، ووضع 5873 شخصاً فى الحبس الاحتياطى بينهم 3718 جندياً و123 جنرالاً.
كما أشارت وكالات صحفية إلى أن سلطات النظام التركى أمرت بحبس بعض قادة الأكاديميات العسكرية و10 ضباط على خلفية محاولة الانقلاب.
وفى الإطار أعلن مسئول فى منظمة العفو الدولية أن المعتقلين بتهمة المشاركة فى المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة فى تركيا تعرضوا للتعذيب والاعتداء الجنسى.
ونقلت وكالة أنباء «فارس» عن رئيس مكتب المنظمة فى نيويورك شِرين تدروس قوله على صفحته فى «تويتر»: إن المعتقلين أودعوا فى مراكز الاستجواب الحكومية وغيرها، موضحاً أن أنباء وردت عن إلقاء المعتقلين فى حظائر الحيوانات والملاعب الرياضية.
وأضاف: تقارير تثير الهلع حول ممارسة التعذيب والعنف مع المعتقلين.
كما كشفت مراسلة صحيفة «ديلى تلغراف» البريطانية فى إسطنبول «زيا ويز» أن سلطات النظام التركى اعتقلت 62 طفلاً بحجة التورط بمحاولة الانقلاب، موضحة أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و17 عاماً موجودون حالياً خلف أسوار السجون ولا يستطيعون التحدث مع ذويهم.
«مقبرة الخونة» هى العبارة الوحيدة المكتوبة بحروف بيضاء على لافتة سوداء مغروزة فى الأرض تشير إلى ما تمثله هذه البقعة الجرداء التى تصطلى أرضها الحجرية بالشمس الحارقة خارج إسطنبول.
فى هذه البقعة تقرر دفن القتلى من الجنود الأتراك الذين شاركوا فى الانقلاب الفاشل فى 15 يوليو الجارى، على حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان الذى أودى بحياة 270 شخصاً وفق الأرقام الرسمية. ويظهر من طبيعة المكان أن المراد منه هو توفير أقل قدر من الهيبة للمقبرة التى تجاور موقعاً يجرى فيه بناء مأوى للحيوانات الضالة.
قالت السلطات التركية إن 24 من الجنود الانقلابيين قتلوا، ولكن لم يدفن حتى الآن سوى جندى واحد فى المقبرة، هو الكابتن محمد كارا بكر. وقيل إن هذا الجندى قتل مسئولاً محلياً خلال محاولة الانقلاب وإن عائلته وأقرباءه رفضوا تسلم جثته.
ولا يتعدى قبره الذى لا يعلوه شاهد عن كونه مجرد كومة من التراب حفرت بالقرب منها ثلاثة قبور لا تزال خالية.
وقال شاهد لـ«فرانس برس»: «نقلت الجثة فى سيارة إسعاف وصلت إلى المكان بصمت، ثم أنزلت فى القبر بحضور عدد من الاشخاص، وانتهى الأمر».
ويمنع على المدنيين زيارة المقبرة ويرافق الصحفيين مسئولون أمنيون إذا أرادوا التقاط صور أو تسجيل شريط فيديو.
ونقلت وسائل الإعلام التركية عن رئيس بلدية إسطنبول قادر طوباس أن فكرة إقامة «مقبرة للخونة» طرحت خلال اجتماع للمجلس البلدى. وأضاف «أولئك الذين يخونون بلادهم لا يمكنهم أن يرقدوا بسلام فى قبورهم».
وقالت هيئة «ديانة» للشئون الدينية بعد الانقلاب إنها منعت تنظيم جنازات والصلاة على الجنود القتلى الانقلابيين، معتبرة أنهم «داسوا على قانون أمة بأسرها» وأنهم «لا يستحقون الترحم والصلاة عليهم».
ما حدث ويحدث ليس جديداً، ففى يونية 2013 مثلاً، داهمت الشرطة التركية عشرات المنازل فى العاصمة أنقرة واعتقلت 20 شخصاً على خلفية الاحتجاجات الشعبية المطالبة برحيل رجب طيب أردوغان.
وذكرت «أسوشيتد برس» فى تقرير لها أوردته «سانا» أن عناصر الشرطة التركية داهموا نحو 30 منزلاً فى أنقرة واعتقلت 20 شخصاً بتهم مهاجمة الشرطة والبيئة خلال مشاركتهم فى الاحتجاجات التى اجتاحت أنحاء تركيا على مدى نحو ثلاثة أسابيع.
وكانت عناصر من مديرية مكافحة الإرهاب فى قسم أمن إسطنبول وأنقرة وإسكى شهير داهموا فى 18 من الشهر الجارى أكثر من مئة منزل واعتقلوا نحو 90 شخصاً بتهم التحريض على إثارة الاحتجاجات.
ورفع أردوغان نبرة التحدى ضد شعبه وضد الانتقادات العالمية الواسعة التى وجهت للشرطة بسبب العنف الذى استخدمته لدى قمعها المتظاهرين فى الشوارع، متفاخراً بما سماها «ملاحم» قامت بها الشرطة.
وأثار أردوغان سخرية وسائل الإعلام والمسئولين السياسيين على السواء وهو يقول: إن قوات الشرطة اجتازت بنجاح امتحان الديمقراطية، وهو ما لم يكن على ما يبدو واضحاً لكل دول العالم التى وجهت انتقادات لاذعة لتعامل الشرطة التركية مع المتظاهرين فى شوارع المدن ودخلت مع أردوغان فى سجال سياسى واضح تصدرته ألمانيا والاتحاد الأوروبى اللذين انتقدا قمع الشرطة فى تركيا للمتظاهرين.
يشار إلى أن خمسة أتراك قتلوا وأصيب واعتقل الآلاف بسبب العنف والقمع الشديد الذى استخدمته قوات الشرطة التركية فى تفريق الاحتجاجات الشعبية التى انطلقت فى 31 مايو الماضى وانتشرت فى جميع أنحاء تركيا.
وأشار تقرير للشرطة نقلته صحيفة «ملييت» التركية أواخر الأسبوع الماضى إلى أن 5,2 ملايين تركى شاركوا فى التظاهرات فى جميع أنحاء البلاد منذ 31 مايو وتم توقيف نحو 5000 منهم حسب التقرير.
وكما كانت الألغاز والقراءات كثيرة حول وقوع الانقلاب فإن التوقعات والتكهنات حول الإجراءات التى بدأ أردوغان بتنفيذ فصولها تباعاً كثيرة وتزداد كل يوم.. ولكن السؤال المبدئى وقبل أى سؤال آخر: هل إجراءات التصفيات الجماعية التى يقوم بها الرئيس أردوغان فى المؤسسات الرسمية والخاصة وفى المجتمع، هى دليل قوة، أم دليل ضعف، أم هو شعور بنشوة الانتصار وفشل خصومه؟ والجواب واضح لا يحتاج عناءً كبيراًً وهو أنه سلوك حاكم مذعور، إن لم نقل إنه استمرار لسلوك «سلطان» أحمق تسيطر عليه عقلية «جنون العظمة»، وهو ما يطرح سؤالاً مهماً: إلى أى مدى سيذهب أردوغان فى التصفيات، وخاصة بعد موافقة البرلمان على قانون الطوارئ الذى رفعه؟ ويرى كثيرون أنه سيستمر إلى آخر مدى باعتبار أن أردوغان هو ربيب ثقافة دينية تؤمن بأنها وحدها «على حق»، وكل من يخالفها الرأى «على باطل» وهذا المبدأ يستتبع المبدأ الثانى وهو إلغاء الآخر!!.. وهذا يعنى أن أردوغان سيستمر فى التصفيات ما دام قادراً عليها وشعار المرحلة هو: «اليوم تصفية جولن وأنصاره، وغداً تصفية كل المعارضين».
فبالتزامن مع مطالبة الحكومة التركية واشنطن بتسليمها المعارض فتح الله جولن، المتهم بتدبير الانقلاب، نشر الأخير مقالاً بصحيفة نيويورك تايمز يقول فيه «لقد وقفت أنا وإخوانى فى جماعة الخدمة مع الديمقراطيات الغربية فى الوقت الذى كانت أحوج ما تكون إلى مسلمين معتدلين»، وهى شهادة معتادة من جولن الذى يسعى لتقديم نفسه للغرب بصورة «الإسلامى المعتدل».
ويصف الكاتب التركى على بولاتج فى كتابه «الدين، المدينة والجماعة: نموذج فتح الله جولن» استقرار جولن منذ 1999 فى أمريكا بأنه انتقال من المحلية إلى العالمية، ما جعله محط اهتمام الأكاديميين الغربيين الباحثين فى شئون الإسلام.
اهتم الغرب بجولن منذ زيارته الأولى لأمريكا عام 1997 بدواعى العلاج، حيث التقى خلالها برئيس المنظمة اليهودية المهمة (رابطة مكافحة التشهير) أبراهام فوكس مان، وبعد ثلاثة أشهر اجتمع بالكاردينال الكاثوليكى البارز جون أوكونير، وبعد عودته لتركيا تابع لقاءاته بممثلى الأديان هناك، ثم بلغت ذروة شهرته بلقائه بابا الفاتيكان يوحنا بولص الثانى عام 1998، وهكذا برز جولن بوصفه ممثلاً لوجه «الإسلام المعتدل» والمهتم بحوار الأديان.
وفى عام 1999 سافر جولن إلى الولايات المتحدة بحجة العلاج ولم يعد إلى تركيا، وظلت شهرته محدودة بالأوساط الدينية إلى حين وقوع هجمات نيويورك يوم 11 سبتمبر 2001، حيث سارع جولن إلى نشر بيانات فى الصحف الأمريكية تنتقد عقيدة تنظيم القاعدة، وحرص على إجراء لقاءات صحفية يقدم فيها «الوجه الآخر للإسلام» الرافض للعنف.
ويرى الصحفى التركى روشين تشاكير أن مفهوم جولن للإسلام كان مختلفاً عن المتوارث عبر التاريخ، فهو يفضل التحالف مع الغرب على العالم الإسلامى، وبينما كان نجم الدين أربكان يمثل الحركة الإسلامية الساعية لاستعادة قوة المسلمين الحضارية بمواجهة الغرب، فإن جولن كان يصر على أن تخلف العالم الإسلامى نتيجة لأفعال مجتمعاته وليس لسياسة الغرب، ومن ثم فإن النهضة تتطلب التحالف مع الغرب لا مواجهته.
وهنا انتقلت جماعة جولن إلى تنظيم مؤسساتى، فأسست منصات فى الجامعات للحديث عن حوار الأديان مقابل تبرعات مالية، وأصبحت لديها منظمات خيرية وأوقاف ومحطة تلفزيونية باللغة الإنجليزية، ويعمل تحت مظلة «التحالف التركى الأمريكى» اليوم عشرات المنظمات.
واجه جولن صعوبة فى تمديد إقامته عام 2006، فقدم رسالة تزكية من 19 صفحة تتضمن أسماء شخصيات بارزة، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية جراهام فولر والسفير الأمريكى السابق بأنقرة مورتون أبرامويتز وأسقف الكنيسة الإنجيلية اللوثرية فلويد شونهالز.
ولاحقا، ألّف الباحث البارز فى شئون الإسلام جون إل أيسبوزيتو بالتعاون مع أكاديميين أتراك كتابين عن جماعة جولن، هما «الدولة العلمانية وحركة فتح الله جولن» و«مبادرات حركة جولن: الإسلام وبناء السلام».
ويقول البروفيسور التركى سولى أوزيل إن جماعة جولن تميزت بخبرتها فى حشد الرأى العام الأمريكى، فقدمت للغرب ما يريد الاستماع إليه، وبما أن أفراد الجماعة يتمتعون بتحصيل علمى جيد فقد شكلوا جماعة ضغط قوية على مستوى العالم.
وتمتلك الجماعة فرعاً لها فى كل مدينة أمريكية، وهى تبنى علاقات مع محيطها باستمرار مستغلة الظروف المواتية، حيث تبرعت مثلا بمبالغ ضخمة لحملة هيلارى كلينتون الرئاسية، ويعتقد أن بعض أعضائها يقودون حملتها.
فى عام 2008، أقام المركز الثقافى التركى المقرب من الجماعة حفل عشاء، وشارك فيه عبر اتصال بالفيديو الرئيس الأسبق بيل كلينتون، حيث قال «إنكم تساهمون فى نشر التسامح وحوار الأديان الذى يشجعه فتح الله جولن».
وفى العام نفسه اختير جولن عبر صحيفة فورين بوليسى بقائمة أكثر مئة شخصية مثقفة، كما وضعته صحيفة تايمز عام 2013 بقائمة أكثر مئة شخصية مؤثرة فى العالم.
أما عام 2014 فشهد أزمة غير متوقعة للجماعة عندما بدأ مكتب التحقيقاًت الفدرالى تحقيقاً واسعاً حول نشاط مدارس الجماعة التى تحمل اسم «كونسبت سكول»، وتعرضت للمداهمة بداعى توظيف مدرسين أجانب بطريقة غير قانونية، مع أن هذه المدارس كانت تتلقى دعماً حكومياً، ومازال التحقيق جارياً حتى اليوم.
يرى الصحفى تشاكير أن واشنطن كانت تعلم بأن جولن لم يهاجر إليها للانزواء وأنه يدير منظمة عالمية، فكان لديه زوار من جميع أنحاء العالم باستمرار، وبالنظر لمساحة الحرية التى مُنحت له مقابل التضييق على المسلمين بعد أحداث سبتمبر، فإن أمريكا كانت راضية عنه.
الانقلاب العسكرى انتهى فى ساعات، بينما الانقلاب الأساسى والفعلى، مستمر، وفعالياته كذلك مستمرة ومتواصلة وواسعة ومتصاعدة بوتيرة عالية، كما أعلن بن على يلديريم، رئيس الوزراء التركى الذى أكّد أن «العملية لم تنته بعد».
معروف، قبل ذلك أن أردوغان حذَّر مراراً من وقوع انقلاب جديد متذرعاً بذلك لإبقاء أنصاره فى الشارع لوظيفة ميليشياتية نتج عنها الكثير من التجاوزات ضد الخصوم والقانون على حد سواء.
أيضاً، كشف بيرات البيرق، وزير الطاقة، وهو صهر أردوغان، أن السلطات التركية كانت تخطط فعلاً لطرد كل جماعة الداعية «جولن» من الأجهزة العسكرية، وإن اجتماعاً للمجلس العسكرى «الأعلى» كان على وشك الانعقاد لتنفيذ ذلك هذا الصيف (تبيّن فعلاً أن عمليات الاستهداف قد تخطت الـ60 ألفاً أكثرهم من المدنيين، وفق لوائح معدّة قبل سنوات).
الوزير المذكور، قال أيضاً إن الانقلابيين استبقوا التدابير ضدهم.. وكأنه يبرر الخيبات الثقيلة التى يمكن أن نضيف إليها تقديم أردوغان اعتذاراً مُذلاً للرئيس الروسى، وتنازلاته غير المبررة للحكومة الإسرائيلية بعد عنتريات وادعاءات دعم الشعب الفلسطينى ورفع الحصار عن غزة واعتبار القدس كأنقرة وإسطنبول!
على أن أبرز ما فتحته محاولة الانقلاب التى شهدتها تركيا، هو ذلك الطريق أمام نقاش متصاعد بشأن قاعدة «أنجرليك» الأمريكية، خصوصاً بعدما أفادت وسائل إعلام أمريكية بأنها تحتوى على أسلحة نووية.
وسائل إعلام عديدة أشارت إلى ذلك بمنتهى الوضوح، غير أننا لن نتوقف إلا عند صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» الأمريكية، التى ذكرت أن هذه القاعدة تحتوى على عشرات قذائف «B61»، التى تحمل رؤوساً نووية، مضيفة أن الانقلاب الفاشل أدى إلى هواجس كثيرة فى الولايات المتحدة، ولا سيما فى ما يتعلق بأهمية قاعدة «أنجرليك» وأمنها، موضحة أنها تضم أكبر مخزن للأسلحة النووية الأمريكية فى الخارج.
وفيما لفتت الصحيفة إلى أن الاستنفار الأمنى قائم عند أعلى مستوياته فى القاعدة، أشارت إلى أن انقطاع الكهرباء عن القاعدة لمدة أسبوع، سبّب تدهور الظروف المعيشية للجنود الأمريكيين هناك، الذين يقدَّر عددهم بـ3 آلاف، طلب منهم البقاء داخل أبوابها، بعدما أُرسِلت أسرهم إلى الولايات المتحدة، قبل أشهر، فى ظل مخاوف من وقوع هجمات إرهابية.
وأشار تقرير «لوس أنجلوس تايمز» إلى أن قاعدة «أنجرليك» كانت مركز عمليات لمحاولة الانقلاب، حيث أُوقف قائدها (التركى) ومساعداه بعد الاشتباه فى محاولتهم إسقاط الحكومة التركية.
وأضاف التقرير أن هذه التطورات أشعرت الخبراء العسكريين الأمريكيين بصدمة، ذلك أنهم رأوا أنها تعد مؤشراً مقلقاً على عدم الاستقرار فى القيادة العسكرية التركية، التى ضمن مسئولياتها حماية مخزون القنابل النووية الأمريكية التى تنتمى إلى فئة «B60».
إلا أن «لوس أنجلوس تايمز» أشارت، أيضاًً، إلى أن المسئولين العسكريين لم يعترفوا أبداً بوجود هذه الأسلحة فى القاعدة، ورفضوا هذا الأسبوع فى مؤتمر صحفى بعد محاولة الانقلاب الإجابة عن أسئلة بشأنها. وأوضحت أن هذه الأسلحة وُضعت فى أقبية تحت الأرض، فى منطقة أمنية خاصة فى القاعدة، وهى محمية من قبل نخبة من قوات الحرس الأمريكى.
وفيما ذكر التقرير أن هذه الأسلحة تتمتع بمعدات تمنع التفجير غير المصرح به، أضاف أن الخبراء منقسمون بنحو حاد حول فاعلية هذه الأدوات. كذلك، لفت التقرير إلى أن أى قرار يتعلق بإبقاء هذه الأسلحة فى تركيا أو سحبها، ستواجهه مخاطر سياسية وعسكرية.
والآن يمارس الرئيس التركى سياسة الهروب إلى الأمام. يواصل انقلابه الأساسى الأول، بذريعة قيام الانقلاب، وهى السياسة التى أدخلت تركيا فى اضطراب مفتوح وصراعات داخلية لن يزيدها، القمع، كالعادة، إلا تأججاً. وبالتأكيد لن تكون تركيا قادرة على تجاوز «الهوس» الأردوغانى وما أدى إليه من تقلبات وتوترات وخسائر خارجية، ومن شروخ عميقة داخلية، لم ينجُ منها حزب «العدالة والتنمية» نفسه.
هذا هو أردوغان المتسلط الذى شارك ودعم الإرهابيين فى المنطقة ويحاضر فى الديمقراطية، وتلك حقيقته التى ظهرت مراراً وتكراراً أمام أى احتجاجات سلمية أرادت إسماع صوتها المسحوق اعتراضاً على تهميشها فى بلد متنوع الأعراق تربى على علمانية أتاتورك.
هذا هو أردوغان الذى لم يعد أمامه غير التسليم بطموحه وجموحه نحو الاستبداد والديكتاتورية، بعد أن تعثَّر مشروعه الإمبراطورى المبنى على تيار «الإخوان المسلمين» فى الخارج، وبعد أن تعثّر أكثر مشروعه الديكتاتورى المبنى على استنهاض العناصر الأكثر انتهازية وراديكالية بين إخوان الداخل.
والمؤكد هو أنه حتى سنوات قادمة، لن تستقر تركيا ما دام يجلس فى كابينة قيادتها رجل مهووس ومتسلط، وغبى كرجب طيب أردوغان.