ياسر بركات يكتب عن: نهاية أردوغان أم نهاية تركيا؟!
src="//pagead2.googlesyndication.com/pagead/show_ads.js">
رسالة السماء إلى الشعب التركى بعد ليلة الجمعة
تركيا لن تركع للمغرور المتكبر والصراع لم يحسم بعد
هل فشل الانقلاب العسكرى فى تركيا؟!
«وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ»
هناك شبه إجماع فى وسائل الإعلام على فشله، وهناك تفسيرات عديدة لأسباب ذلك الفشل، نرى أن أغلبها تعجل إصدار الحكم على أحداث لا يمكن الجزم بأنها ستنتهى فى يوم وليلة، وإن كان يمكننا الجزم والتأكيد على أن هذا الانقلاب أسقط سلطة رجب طيب أردوغان، حتى لو لم يسقطه هو شخصيا. وأنه لن يتمكن من استعادة سلطته مهما قدم من تنازلات فى السياسة الخارجية لضمان تقوية قبضته على السلطة فى السياسة الداخلية.
الصورة الأقرب للحقيقة الآن، هى أن أردوغان يمرّ بمرحلة مفصلية من تاريخه السياسى، وتاريخ بلده، بعد أن عاش لمدة طويلة بين جدران «نظرية المؤامرة»، مستعدياً الداخل والخارج. بدأها بالسيطرة على الجيش وأجهزة الأمن والقضاء والإعلام، بالتزامن مع شن حملات اعتقال لم تتوقف منذ أكثر من سنتين! وهى السياسات التى يمكن وصفها بالخوف والارتياب الزائدين.
خوف وارتياب زائدان، وقد يدفعانه بعد مرحلة الجنون التى وصل إليها أن يهدم المعبد على من فيه.. ما يعنى أن يربط نهايته بنهاية تركيا نفسها!
وما من شك فى أننا شاهدنا طوال السنوات الماضية عشرات بل مئات الوقائع الثابتة التى كانت تؤكد أن تركيا تسير بخطى ثابتة نحو نهايتها. ورغم ذلك، رأينا أردوغان (ولا يزال) مصراً على ارتكاب الأخطاء والخطايا، بدلًا من أن يستخرج الدروس والعبر منها!!
«سأكون رئيساً مختلفاً»
الجملة لـ«أردوغان» وقالها فى حملته الانتخابية الصيف الماضى، فى إشارة واضحة إلى أنه لن يكون مثل عبدالله جول أو أى رئيس سبقه التزم بصلاحيات المنصب.
وهذا فعلا ما حدث، وانتزع لنفسه صلاحيات غير مسبوقة، جعلته يتدخل فى شئون الدولة، ويتصرف فى غالبية الأحيان كملك لمملكة لا كرئيس دولة، وتكفى الإشارة إلى أنه اعتاد خرق الدستور التركى، بترؤسه اجتماعات مجلس الوزراء، فى سابقة تركية لم تحدث أيضا من قبل!
وهكذا، فإن أردوغان الذى جلس على مقعد الرئيس وهو يحاول التخلص من أصداء فضيحة الفساد التى طالته مع أفراد أسرته ووزراء مقربين منه سنة 2013، حاول أيضا أن ينتقم من «الكيان الموازى» أو من جماعة «فتح الله جولن» التى اتهمها بتدبير الفضيحة، ومن أجهزة الدولة ومؤسساتها بحجة أنها تخطط لانقلاب على نظام الحكم!
وبوضع ذلك فى الاعتبار، يمكننا أن نرى ما حدث مؤخرا أو ما تم وصفه بالانقلاب الفاشل، بأن أردوغان يجنى ما زرعه طوال سنوات من محاولة الانقلاب، وأنه لن يستطيع أن يمسك بزمام السلطة بعد اليوم مهما كانت الظروف، بعد أن أصبح الوضع فى تركيا معقدا ووصل إلى طريق مسدود بسبب طغيان واستبداد الرئيس التركى، الذى قام بتقييد الحريات العامة وتحجيم دور الإعلام الذى بات يسيطر على حوالى 90% منه بشكل مباشر أو غير مباشر، جاعلا منه ماكينة ضخمة لتلميع صورته داخلياً وخارجياً، على الرغم من كثرة الانتقادات التى طالت سياساته فى الآونة الأخيرة. ويكفى أن تعرف أنه خلال العام الماضى، تحولت عدة صحف معارِضة، إلى مؤيدة لأردوغان، بعد التحفظ عليها، وتغيير إداراتها، فى إطار حملة صارمة على وسائل الإعلام التابعة للمعارضة!
أيضاً، يمكننا الجزم بأن تركيا دخلت فى مرحلة من عدم الاستقرار وأنها فقدت مؤسستها العسكرية، بشكل يجعلنا نقول إن تركيا الدولة خسرت ما لن تتمكن من تعويضه طوال سنوات طويلة قادمة.
ونشير هنا إلى أن قراءة ما حدث فى تركيا من منظور «الحكم العسكرى فى مواجهة الحكم المدنى»، ليست قراءة صحيحة على الإطلاق، إذ إن هذه القراءة تُسقط من حساباتها أزمة مؤسسات الدولة التركية وآليات حكمها وأزمة السياسة التركية تجاه المسألة الكردية وأزمة السياسة الخارجية التركية وآثارها الكارثية على البلد، وأزمة احتداد التفاوت الاجتماعى ونتائج هذا الاحتداد بالنسبة للاستقرار الاجتماعى.
وفوق كل الأسباب التى تجعل انهيار تركيا وشيكا، هناك أيضا وقائع الفساد والرشوة التى لم تشهد تركيا مثيلا لها طوال تاريخها والتى طالت أردوغان ووزراء فى حكومته وأولادهم وهى القضايا التى بدأت تتكشف بعد حملة اعتقالات طالت عشرات الأشخاص، من بينهم أبناء بعض الوزراء ورجال أعمال مقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية، مع انتشار تسجيلات صوتية للعديد من المسئولين رفيعى المستوى، وفى مقدمتهم رئيس الوزراء السابق رئيس الجمهورية الحالى رجب طيب أردوغان، ونجله بلال، حول تورطهم فى فضيحة الفساد والرشوة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
2
انقلاب الجيش
منتصف أغسطس الماضى طرحنا هنا هذا السؤال:
هل ينقلب الجيش على أردوغان وينقذ تركيا من الانهيار؟!
هل تنتظر تركيا انقلاباًً خامساً يقوم به عسكريون؟!
أم أن الأمور فى قبضة أردوغان وتحت سيطرة حزبه؟!
وأنها ستحبط أى محاولة انقلاب يفكر بها عسكريون أو غيرهم؟
هذا الجيش، الجيش التركى كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى مجمل الأحداث التى جرت بعد تأسيس الجمهورية، وتدخل بشكل مباشر من خلال أربعة انقلابات عسكرية خلال أقل من 40 عاما، لتغيير حكومات مدنية منتخبة لأسباب مختلفة فى مقدمتها حماية النظام العلمانى، كان أول هذه الانقلابات عام 1960 وآخرها عام 1997، وفيما كان الأول دمويا جاء الأخير نظريا واكتفى بالتلويح بالقوة.
أول الانقلابات وأكثرها دموية جرى فى 27 مايو 1960 عندما أطاح الجيش بحكومة عدنان مندريس بعدما وجهت له اتهامات بالسماح للقوى الدينية بالعمل بحرية كانت الحكومات العلمانية السابقة قد منعتها تماما، ورغم أن مندريس لم يكن بالأصل إسلامياً فإن مجرد محاولته تخطى شكل العلمانية الذى شرعه أتاتورك كان كفيلاً بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه بتهم غير جدية.
ولعلنا نتذكر أن واشنطن لم تتدخل لإنقاذ مندريس رغم أنه كان قريباً منها وقدم لها وللغرب خدمات جليلة، حيث تحولت تركيا فى عهده إلى مخفر متقدم واستراتيجى للحلف الأطلسى ضد الاتحاد السوفيتى والمد القومى العربى بقيادة الرئيس المصرى جمال عبدالناصر.
وجاء الانقلاب الثانى فى مارس 1971، وهذه المرة لحماية الحسابات الأمريكية حيث كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوى اليسارية التى تصدت لها القوى اليمينية (الإسلامية والقومية) بدعم من الدولة المدعومة من واشنطن التى كانت تتخوف أن يتحول التيار اليسارى إلى قوة جدية فى الشارع التركى، خاصة بعد أن قام اليساريون الذين تدربوا فى مخيمات المنظمات الفلسطينية فى لبنان بعمليات مسلحة استهدفت القواعد الأمريكية والعاملين فيها وقتلوا القنصل الإسرائيلى فى إسطنبول.
وحدث الانقلاب الثالث فى سبتمبر 1980 وسط ظروف داخلية مماثلة لكن هذه المرة بأبعاد إقليمية، حيث كانت تركيا تعيش ظروف التمرد الكردى فى جنوب البلاد بالإضافة إلى صعود القوى اليسارية، فى وقت شهد إقليميا تداعيات الثورة الإيرانية واندلاع الحرب العراقية- الإيرانية والاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وكان كل ذلك يجرى فى غمرة الحديث عن نظرية الحزام الأخضر لبريجنسكى ضد الاتحاد السوفيتى.
كانت تركيا من أهم عناصر هذا الحزام الذى استهدف إحاطة جنوب الاتحاد السوفيتى بطوق من الدول ذات صبغة إسلامية، حيث كان لانقلاب 1980 الذى أعلنت عنه واشنطن حتى قبل السماع عنه فى أنقرة تأثير مهم وكبير فى مجمل المعطيات السياسية حيث حكم قائد الانقلاب كنعان أيفرين البلاد لمدة سبع سنوات رئيسا للجمهورية بعد أن صاغ دستورا غريبا وعجيبا مازال الأتراك يعانون منه رغم تغيير العديد من بنوده ومواده باستثناء تلك التى تعترف لقادة الانقلاب بحصانة دستورية إلى الأبد.
وقد فشل جميع رؤساء الوزراء الذين حكموا البلاد بعد ذلك العام بمن فيهم الذين استهدفهم الانقلاب العسكرى المذكور ومنهم سليمان ديميريل وبولنت أجاويد ونجم الدين أربكان فى تغيير هذه المواد والمواد الأخرى المناقضة للديمقراطية وهو ما يؤكد «حالة الخوف النفسى» التى يعانى منها السياسيون الأتراك من جنرالات الجيش.
أما الانقلاب الرابع فجرى فى فبراير 1997 وكان انقلاباً «نظرياً» اكتفى فيه الجيش بإخراج الدبابات إلى الشوارع فى أنقرة ليضطر رئيس الوزراء نجم الدين أربكان إلى الاستقالة، قبل أن يصل الجيش إلى مقر رئاسة الحكومة.
وبرزت فى هذا الانقلاب حدة الصراع العلمانى الإسلامى الذى دفع إلى تدخل الجيش مرة أخرى للسبب ذاته، لاسيما وأن أربكان قام خلال العام الذى تولى فيه رئاسة الحكومة بإجراءات لم يخف فيها رغبته بتغيير معالم أساسية فى النظام العلمانى التركى الذى يؤكد الجنرالات أنهم أصحابه وحماته باسم الأمة التركية وإلى الأبد.
بقيت ظلال الجيش فى السلطة حتى نهاية التسعينيات بسبب الدستور الذى صاغه قائد انقلاب عام 1980 الجنرال كنعان أيفرين، حتى بدأ الحديث عن ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى فى قمة هلسنكى نهاية عام 1998.
فتح هذا الأمر صفحة جديدة فى التاريخ السياسى التركى بعيدا عن تأثير جنرالات الجيش الذين كان عليهم أن يبتعدوا عن الساحة السياسية حسب المعطيات الأمريكية والأوروبية الجديدة التى لم تعد ترى فى روسيا واليونان وسوريا وإيران والعراق خطرا على الحسابات الغربية التى طالما كان لتركيا دور مهم فيها بجيشها الكبير والعظيم!
وفى عهد حكومة أردوغان انحسرت نسبياً صلاحيات الجيش ومجلس الأمن القومى الذى تقلص فيه وجود العسكريين، وبدأت حملة تقليم أظافر الجيش فى التعديلات الدستورية والقانونية التى استهدفت سلطات وصلاحيات الجيش فى الحياة السياسية، حيث نجحت حكومة أجاويد ومن بعدها حكومة أردوغان فى تمرير هذه الإصلاحات بفضل سيطرتهم على قائد الجيش السابق حلمى أوزكوك.
كما استغلت حكومة أردوغان ذلك فحسمت مجمل التعديلات التى وضعت حدا نهائيا لدور الجيش فى الحياة السياسية بعد أن أصبح عدد أعضاء مجلس الأمن القومى 9 مدنيين مقابل 5 من العسكريين بعد أن كان عدد المدنيين 4 منذ تأسيس المجلس قبل 70 عاما تقريبا، كما أن قرارات المجلس لم تعد ملزمة للحكومات كما كانت فى السابق، حيث أصبح الأمين العام للمجلس مدنيا ويتبع لرئيس الوزراء بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب لمدة 70 عاما وبالعلاقة المباشرة مع رئاسة الأركان التى لم تعد تملك أى صلاحيات فى نشاط المجلس الذى أصبح يجتمع مرة كل شهرين بدلا من مرة فى الشهر.
كما وضعت التعديلات الدستورية الأخيرة تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية بعد أن تخلت القوى التقليدية عن موقفها الداعم للجيش وفى مقدمتها رجال الأعمال الكبار ووسائل إعلامهم الرئيسية!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
3
العقيد «محرم كوسا»
تصدر اسم العقيد «محرم كوسا»، المستشار القانونى لرئيس أركان الجيش التركى، قائمة مدبرى محاولة الانقلاب العسكرى فى تركيا، الجمعة الموافق 15 يوليو 2016. كما لاح اسم حركة فتح الله جولَن من جديد، على قائمة الاتهامات التى ألمح مسئولون أتراك، إلى ضلوعها فى تمويل هذه المحاولات الانقلابية.
وكما تقول الرواية التركية الرسمية، فإن محرم كوسا، هو الضالع الرئيسى وراء التخطيط للانقلاب، بمشاركة ضباط آخرين، وبدعم من فتح الله جولن. وقبل محاولته التى باءت بالفشل حتى الآن، شغل «كوسا» منصب المستشار القانونى لرئيس أركان الجيش التركى، وذلك بعد تقاعده.
وكوسا هو أحد ضباط الصف الثالث داخل الجيش التركى، وهو ممن لم يشغلوا أى منصب قيادى داخل الجيش التركى خلال فترة تأديته الخدمة، إلا أنّه فى المقابل تمتع بصلات وثيقة بعناصر عسكرية، لا تزال قيد الخدمة، ما يُرجح أنه كان دافعًا لهذه المحاولة الانقلابية، بالتنسيق مع صلاته تلك.
ومن بين تلك العناصر العسكرية، التى وردت أسماؤها وهى لا تزال فى الخدمة، قائد اللواء 55 مشاة، الجنرال «بكر كوجاك»، والعقيد «محمد أوجوز أققوش»، والرائد «أركان أجين»، وكذلك المقدم «دوجان أويصال»، بينما لمعت قيادات شرطية تركية فى التنسيق لهذه التحركات، من بينها الأمير «الهاكان أوستام»، قائد خفر السواحل، والذى صدر بحقه قرار من وزير الداخلية التركى، «أفكانآلا»، بإعفائه من منصبه.
وحسب التصريحات الرسمية الصادرة عن الحكومة التركية، فإن عدد الضباط الذى تحركوا بقيادة محرم كوسا، بلغ 1563 عسكرياً، والذين نجحت السلطات بعد ذلك فى اعتقالهم، إلى جانب إقالة ضباط بارزين داخل الجيش التركى، ومقتل 104 عناصر آخرين ضمن الحركة المنقلبة.
تضمنت الخطة التى وضعتها المجموعة الانقلابية، احتجاز رئيس الأركان، الجنرال «خلوصى أكار»، وإرسال بيان عبر البريد الإلكترونى إلى جميع القنوات التلفزيونية التركية، أعلنوا خلاله أن «القوات المسلحة التركية، اليوم 15 يوليو 2016، سيطرت على السلطة فى البلاد، من أجل حماية النظام الديمقراطى وحقوق الإنسان».
كما تضمنت هذه الإجراءات إغلاق جسرىْ «البوسفور والسلطان محمد الفاتح»، ونشر عدد من العناصر الأمنية التابعة، داخل مركبتين عسكريتين لهم، عند مدخل أحد الجسرين، مع نشر 200 جندى يتبعون لهم داخل مبنى رئيس الأركان للسيطرة عليه.
وامتدت هذه الإجراءات للسيطرة على بعض مديريات الأمن فى عدد من المدن التركية، وكذا بعض المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة، كمقرات شبكة «تى أر تى» فى إسطنبول وأنقرة، وإرغام المذيعة التركية على إذاعة بيانهم تحت تهديد السلاح، قبل أن يُقطع البث بعد ذلك عن الشبكة، وكذلك قطعت خدمات الإنترنت والكهرباء عن مقر القناة. بالتزامن مع هذه الإجراءات، أطلقت الحركة الانقلابية أكثر من طائرة مروحية، أعلى مبنى رئاسة الأركان، لإحكام السيطرة عليه.
ومما يُذكر أنه خلال السنوات الخمسين الماضية، كانت تركيا قد شهدت انقلابات عسكرية أطاحت بأربع حكومات ديمقراطية، والتى انتهت بإعدام ثلاثة رؤساء وزراء.
وبين ما تضمنه خطاب الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، عقب ظهور بوادر فشل الانقلاب عليه، إدراجه حركة فتح الله جولن، ضمن قائمة المتورطين بدعم وتمويل الحركة الانقلابية، متهمًا التابعين للحركة بالوقوف خلف هذه التحركات غير الشرعية.
وبينما صدر تعليق رسمى من مقر الحركة فى نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، فى الساعات الأولى من الصباح يوم، يدين فيها محاولة الانقلاب التى شهدتها تركيا الليلة الماضية، أظهر الموقع الإلكترونى لجريدة زمان المنبر الإعلامى للحركة، تغطية إعلامية مُنحازة لتحركات الحركة الانقلابية، وذلك عبر تقارير متنوعة ربطت هذه التحركات برغبة حقيقية لقيادات عسكرية فى «تصحيح المسار، الذى سلكه الرئيس التركى من تضييق على الحريات، ودعم للتيارات المتشددة»، فى الساعات الأولى للأنباء الواردة عن محاولة الانقلاب العسكرى.
وفى 13 من الشهر الجارى، استبقت الجريدة وقائع تحركات الانقلاب العسكرى، بتقرير تحت عنوان «الانقلاب المقنع.. فيلم وثائقى يعرى ممارسات أردوغان بعد فضائح الفساد»، إذ ذكر أنّ «أكبر عملية فساد ورشوة وسوء استغلال للنفوذ والسلطة فى تركيا، كانت من جانب أردوغان، والجرائم التى ارتكبت بحق الشعب التركى، والمظالم التى تعرض لها كل من أراد كشف الحقيقة وفضح ممارسات ديكتاتورية أردوغان».
وهذه الحركة تتبع الداعية الإسلامى التركى فتح الله جولن، المنفى اختيارًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وهى شبكة ضخمة تضم مُؤسسات اجتماعية وثقافية لها نفوذ كبير.
وتضم الحركة حاليًا أكثر من 900 مدرسة خاصة فى تركيا، إلى جانب تولى أنصار للحركة، مناصب رفيعة فى أجهزة الدولة، بخاصة الشرطة والقضاء.
وتضمن تصريح صادر السبت، 16 يوليو 2016، من «أوميت دوندار»، القائم بأعمال رئيس هيئة الأركان التركية، اتهامًا للحركة بدعم هذا الانقلاب العسكرى، متعهدًا بإقصاء عناصر ممن سماهم «بالهيكل الموازى» عن مناصبها، كما صدر اتهام، من قبل الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، للحركة، بتورطها فى دعم المحاولة الانقلابية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
4
عبدالله جولن
أما عبدالله جولن، الذى يقيم فى منفى اختيارى بولاية بنسلفانيا الأمريكية، فهو أحد أبرز رجال الدين الأتراك حاليًّا، وتمتلك الحركة التى تحمل اسمه، مؤسسة اجتماعية ثقافية ضخمة لها نفوذ واسع النطاق تضم أكثر من 900 مدرسة داخل تركيا، وأكثر من 2000 مدرسة حول العالم وما يقرب من 100 مدرسة داخل الولايات المتحدة الأمريكية و20 جامعة متميزة، ولها نفوذ واسع داخل أوروبا، وبالأخص فى منطقة القوقاز والبلقان، وفى 160 دولة حول العالم.
يُنظر لجولن بأنه على عكس نجم الدين أربكان، الذى يعد أبا الإسلام السياسى فى تركيا، فإن فتح الله جولن هو أبوالإسلام الاجتماعى.
جولن المولود فى 11 نوفمبر عام 1941، فى قرية كوروجك بمحافظة أرضروم شمال هضبة الأناضول، وبدأ نشاطه الدعوى والتربوى فى عدة مدن غرب تركيا بداية ستينيات القرن الماضى، وانتشرت أفكاره وأحلامه لدى كل الطبقات الاجتماعية، وازداد محبوه فى جميع أنحاء العالم.
ولكن يبدو أن صعوده الدعوى السريع أثار قلق كثير من أعضاء الحكومة التركية عام 1999، عقب انتقاده علنًا الحكومة، ورغم اعتذاره عنها فإن النائب العام التركى قرر فتح تحقيق معه، ليتدخل الرئيس التركى بولند أجاويد، لحل الأزمة، لكن البعض شكّك فى أهدافه، خصوصًا بعدما ظهر فى فيديو يتحدّث فيه لعدد من أنصاره، أنهم سيتحركون ببطء لتغيير المجتمع والنظام التركى تدريجيًّا من نظام علمانى إلى نظام إسلامى.
ووجد جولن أن الحكومة التركية ستقوم بعرقلة جميع أعمال مدارسه وحركته التى نشطت منذ الثمانينيات، فقرر الاختفاء عن الأنظار، والانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
عقب خروج أردوغان من السجن الذى دخله عام 1998، وجد رئيس الوزراء التركى ضالته فى التحالف مع حركة «جولن» ذات الوجود القوى فى القرى والمجتمعات التركية الدنيا والطبقات الوسطى والأوساط الدينية ورجال الأعمال، وشكّلت الحركة لفترة طويلة «ذراعًا غير رسمية» لحزب العدالة والتنمية «ذراع جماعة الإخوان المسلمين»، واستفاد «إخوان تركيا» من نفوذ جولن فى تقليص سلطات قادة الجيش.
ظهرت حركة «جولن» كمنافس قوى أمام التنظيم الدولى للإخوان، وليس مجرد حزب العدالة والتنمية، خصوصًا أن الأولى ترعى مئات المدارس داخل تركيا وخارجها.
رغم أن الحركة والجماعة تمتلكان نفس المشروع الاقتصادى، فإن حركة «جولن» تميّزت عن المشروع الإخوانى بالبعد الاجتماعى المنفتح وأظهرت الوجه المعتدل الحقيقى للإسلام لا الوجه «الزائف» الذى تقدّمه جماعة الإخوان.
وبمجرد إزاحة «الحركة والجماعة» عدوهما العلمانى المشترك عن طريقيهما، بدأ «إخوان تركيا» فى محاولة إزاحة «جولن» من طريقها، بعدما قررت حكومة أردوغان والبرلمان التركى إقرار قانون يغلق بموجبه عدداً كبيراً من المدارس التابعة للحركة.
بعدما باتت حاجة أردوغان إلى الحركة أقل، جاءت لحظة الانهيار حين حاول أنصار حركة «جولن» إسقاط رئيس مخابرات أردوغان، وهو أحد المقربين المخلصين له، فاقتربوا بذلك إلى حد خطير من مس أردوغان ذاته، فرد بدوره أردوغان بإبعاد عدد من أنصار حركة «جولن» من مناصبهم فى الشرطة والقضاء.ولكن يبدو أن قدرة أردوغان ضعيفة على مواجهة «جولن الأخطبوط»، تم العثور على أجهزة تنصت فى مكتب أردوغان، قامت الشرطة بزراعتها، حسب تصريحات لأحد المقربين من رئيس الوزراء، وهو ما أثار غضب أردوغان، خصوصًا أنه أدرك أن الحركة تمتلك «كنزًا» من المعلومات المخابراتية، الذى يمكن أن تستغله ضده فى أى وقت. ويرى كثير من المحللين الأتراك أن أسلوب أردوغان الصارخ المتهور لن يتمكن من الصمود أمام «رباطة جأش» جولن وحركته الأخطبوطية.
وكان «المنفى الاختيارى» لجولن بمثابة نقطة الانطلاق لحركته، لتعزز من وجودها داخل المجتمع التركى، ولم تكتفِ بالمدارس والجامعات التى أنشأتها، بل توغّلت فى مختلف مؤسسات الدولة، وأبرزها مؤسسة الشرطة.
خلق أتباع حركة «جولن» ما ينظر إليه بصورة فعلية «دولة داخل الدولة التركية»، ورسّخوا وجودهم بقوة فى الشرطة والقضاء والجهاز البيروقراطى للدولة، حسب ما قاله «دانى رودريك» الخبير الاقتصادى التركى وأستاذ العلوم الاجتماعية فى معهد الدراسات المتقدمة بمدينة برينستون الأمريكية.
وينكر أتباع حركة جولن أنهم يسيطرون على الشرطة التركية، لكن كما قال سفير الولايات المتحدة إلى تركيا فى عام 2009، «لم نجد شخصًا واحدًا يشكك فى هذه الحقيقة». ولم تكتفِ حركة جولن بذلك، بل مدّت سطوتها إلى عدد كبير من وسائل الإعلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
5
«واشنطن بوست»
لا بد هنا من أن نتوقف أمام التقرير الذى نشرته صحيفة «واشنطن بوست» للكاتب «إحسان ثارور»، والذى ركز فيه على أن الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان»، ظل يحذر من الدولة الموازية، وأن الغرب لم يستمع له، إلا أن المحاولة الانقلابية أثبتت صحة كلامه.
فى التقرير أشار «ثارور» إلى أن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، الحاكم الأكثر أهمية للجمهورية، منذ مؤسسها مصطفى كمال أتاتورك، ظل مهووسًا بمصر، فقبل ثلاث سنوات تمت الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد مرسى، وتم اعتقاله والإخوان المسلمين، وتم تثبيت نظام جديد لا يزال فى مكانه حتى اليوم.
وذكر التقرير أن «مرسى» الإسلامى له روح مشابهة لـ»أردوغان»، الذى ينتمى لحزب «العدالة والتنمية»، وهو حزب يمين الوسط على الأيديولوحية القومية الدينية السنية، لافتًا إلى أن أردوغان ظل غاضبًا؛ نتيجة الإطاحة بمرسى، وهروب من لم يعتقل من الإسلاميين من البلاد، ووجدوا ملجأ فى إسطنبول.
ويرى ثارور أن أصداء ما حدث فى مصر مهمة، فى الوقت الذى تعيش فيه تركيا محاولة انقلابية، بدأت فعاليتها ليلة الجمعة ضد حكم أردوغان، مشيرًا إلى أن المتآمرين فى تركيا، لم يحظوا بالنجاح بحسب النموذج المصرى، حيث احتشدت الأحزاب السياسية والمعارضة كلها حول الحكومة المنتخبة، بالرغم من خلافاتها معها، بالإضافة إلى أن الاحتجاجات الشعبية فى الشوارع خرجت لتدعم أردوغان، وحكم العدالة والتنمية.
ويلفت التقرير إلى أنه بحسب التقارير التى جاءت من تركيا، فقد رفع المتظاهرون «شعار رابعة»، فى إشارة إلى من وصفهم بـ»الإسلاميين المقموعين» فى مصر، مشيرًا إلى أن أردوغان تحدث خلال جولتين انتخابيتين العام الماضى، وبشكل قاتم، عن القوى المظلمة التى تعمل ضد الديمقراطية وحكومته، والمكونة من المتآمرين الأجانب والتحالف الصليبى.
وذكر التقرير أن أردوغان وأعضاء حكومته قاموا بصب جام غضبهم فى التصريحات العامة ضد حركة «فتح الله جولن»، التى يعيش مؤسسها فى بنسلفانيا، لافتًا إلى أن أتباع جولن، الذين كانوا أصدقاء، حاولوا إضعاف الدولة، من خلال وكلائهم فى مؤسسات الدولة.
ويعلق الكاتب قائلًا «بالنسبة للكثير من المراقبين، بمن فيهم هذا الصحفى، فإن جنون العظمة، الذى كان يعانى منه أردوغان، هو تعبير عن حسابات سياسية مقصودة، ومحاولة تهدف لحشد المحافظين والقوميين الأتراك تحت رايته، لكن أردوغان كان محقًا هذه المرة».
وينوه التقرير إلى أن تركيا لديها تاريخ طويل مع الانقلاباًت، من 1960 و1971 و1980، التى وضع فيها المنقلبون دستور تركيا الحالى، ثم قام الجيش فى عام 1997 بتوصيات فى ما عرف بانقلاب ناعم ضد الإسلاميين.
وجاء فى التقرير أنه عندما جاء أردوغان إلى السلطة عام 2002، بدا وكأن عصر الانقلاباًت قد انتهى، حيث أصبحت البلاد مستقرة ومزدهرة سياسيًا، وتحكم حكمًا مدنيًا، وتم عقد انتخابات دون أية مشكلة، وبدا وكأن الدولة العميقة قد تلاشت.
ويفيد ثارور بأن حكم العدالة والتنمية جلب إصلاحات اجتماعية واقتصادية، ومنح حكم الغالبية الحزبية الفرصة لتثبت دعائم حكمه، وساعده فيها معارضة عاجزة، ونظام قضائى متعاون، ومؤسسة عسكرية قبلت بدورها الجديد، بعد سلسلة من المحاكمات ضد متآمرين.
وتختم «واشنطن بوست» تقريرها بالإشارة إلى أن أردوغان، الذى أصبح رئيسًا فخريًا للبلاد، بدا فى السنوات الأخيرة أكثر طموحًا لتحويل دوره إلى دور تنفيذى، والشروع بتعديل الدستور، وقام بملاحقة الصحافيين، وواجهت البلاد آثار الحرب السورية، وعودة الحرب مع الانفصاليين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
6
«الانقلاب الإلكترونى»
قبل أن تأخذ تركيا منحى سلطويّا تحت حكم رجب طيّب أردوغان، اعتقد كثيرون أنّ التاريخ سيقوم بتخليد الرجل بوصفه القائد الذى استطاع تقليم أظافر الجيش التركىّ وحلّ النزاع الطويل مع الأكراد. إلا أنّ ما حدث أكد أن هذه الآمال كانت فى غير محلّها على نحوٍ شنيع. فقد أعطى أردوغان الضوء الأخضر للجيش لشنّ حربٍ ضدّ المُتمردين الأكراد وقام ببناء تحالف مع الجنرالات بدا أنه دافئ ثم اتضح أنه غير ذلك.
من وجهة نظر أردوغان، رأى أن هذه السياسة ستضرب عدّة عصافير بحجرٍ واحد. فالحملة العسكريّة على الأكراد تُضعف الأقليّة الأكبر فى البلاد والتى أصبحت تمثّل عائقا أمام طموحاته فى السلطة المُطلقة من جانب، وتُعزّز من قوّته بين الوطنيّين الأتراك من جانبٍ آخر. وعلى نفس الخط، قد يمثّل الأمر دافعا لتعديل العلاقة مع الجيش بوصفه أداة مُهُمّة تحت اليد خاصّة فى ظلّ تنامى المعارضة الداخليّة والخارجيّة التى تُحيط به. لكن تقوية الجيش يُمكن أن تكون فى نفس الوقت خيارا محفوفا بالمخاطر بالنسبة لأردوغان. بل إن هناك من هم فى دائرته ممّن يخشون أن النمر الذى يُحاول الرئيس ركوبه ما زال بعد سنواتٍ من المُعاملة القاسيّة تحت حكم حزب العدالة والتنمية أكثر وحشيّة وتوقاً للانتقام.
هذا التصور أغفل أن الجيش التركىّ لديه أسباب عديدة لحمل ضغائن تجاه أردوغان. فعلى مدار التاريخ التركى، تمتّع الجيش بسطوة كبيرة على الشئون السياسيّة فى البلاد، وقد نفّذ أربعة انقلابات عسكريّة مُجبراً السياسيّين على الاستقالة وتعامل مع نفسه دائما على أنّه الحارس الأوحد للديمقراطيّة العلمانية الذى لا يخضع للمُساءلة. ومنذ وصوله إلى السلطة عام 2002، انبرى حزب العدالة والتنمية لتقليص النفوذ السياسىّ للجنرالات الذى ترك القوّات المُسلّحة التركيّة فى حالة ضعف وانقسام. ولتحقيق شروط الانضمام للاتّحاد الأوروبى، شرعت أنقرة بإجراءات لجعل الجيش خاضعا بشكل أكبر للسلطة المدنيّة. وقلّصت صلاحيّات المحاكم العسكريّة لصالح المزيد من الصلاحيّات للمحاكم المدنيّة وأصبحت الحكومة تلعب دورا أكثر فاعليّة فى تعيين القادة الكبار للجيش. وقد تعرّض الجيش لضربة قويّة فى أبريل 2007، بعد أن نشر على صفحته الإلكترونيّة إنذارا (سُمىّ فيما بعد بـ«الانقلاب الإلكترونى») يُحذّر فيه حزب العدالة والتنمية من مغبّة دعم عبدالله غول المعروف بانتمائه التقليدىّ للتيار الإسلامىّ والذى تلبس زوجته الحجاب فى انتخابات الرئاسة. أثار الأمر حينها غضب حزب العدالة والتنمية وأنصاره ودفعهم إلى تأكيد موقفهم وإيصال غول إلى منصب الرئاسة. وهكذا فمن خلال محاولته التدخل ضدّ الحزب ذى الجماهيريّة الكبيرة عرّض الجيش نفوذه لضربة قاسيّة، وفى أقرب انتخابات بعد «الانقلاب الإلكترونى» ازداد التصويت لحزب العدالة والتنميّة بنسبة 13%.
وفى ذلك الوقت أيضا، أطلق حلفاء الحكومة فى جهاز القضاء من أنصار رجل الدين فتح الله جولن تحقيقات واسعة حول أنشطة ضبّاط الجيش. وفى الدعاوى القضائيّة مثل قضيّة «أرغينيكون» وقضيّة «المطرقة»، التى اتّهم فيها بعض عناصر الجيش بتدبير انقلاب ضدّ حزب العدالة والتنمية، جرى حبس العشرات من الجنرالات وتم احتجاز المئات من المسئولين العسكريّين المُتقاعدين. وقد تُوّج الصراع بين الحزب والجيش بالاستقالة الجماعيّة للمجلس العسكرىّ التركىّ الأعلى فى أواخر يوليو 2011 وهى الاستقالة التى اعتبرها المراقبون آنذاك علامة فارقة على استسلام الجيش للمدنيّين.
بالرغم من ذلك، فإنّ الجيش يستعيد فى الآونة الأخيرة شيئا من الحظ. فمنذ أن أصبح نيسديت أوزيل، أحد الرجال المُخلصين لأردوغان، رئيسا لهيئة الأركان، شهدت العلاقات بين أردوغان والقوّات المسلحة التركيّة بعض التحسّن، على الأٌقل على مستوى القادة العسكريّين الكبار. لكن ذوبان الجليد الحقيقى بين الطرفين حدث عندما بدأ أنصار فتح الله جولن فى القضاء بفتح تحقيقات فى قضايا فساد طالت عائلة أردوغان ودائرته القريبة. ففى تلك اللحظة، رأى أردوغان الجيش كحليفٍ مُحتمل فيما سيصبح حربا شاملة على أنصار جولن، حليفه السابق. وهكذا، فبعد إيماءة من أحد مستشارى أردوغان المُقربين فى هذا الشأن، تقدّم الجيش بشكوى يُطالب فيها بإعادة محاكمة العسكريين فى قضيّة «المطرقة» التى اتّهم فيها عشرات الجنرالات بتدبير انقلاب ضدّ حزب العدالة والتنمية. وقد ألغت المحكمة لاحقا القضيّة برمّتها مدّعية أنّ الأدلّة التى استندت عليها الاتّهامات السابقة كانت مُلفّقة، وحكمت بإطلاق سراح الضبّاط الذين سجنوا على أثرها. وقد جاءت إحدى الإشارات الدالّة على دفء العلاقات بين الجيش وحزب العدالة والتنمية مؤخرا مع حضور خلوصى أكار الرئيس الحالى لهيئة الأركان كشاهد شرعىّ على عقد قران ابنة أردوغان.
ولا شكّ أنّ الفوضى التى اجتاحت سوريا والعراق والتوتّر الذى تصاعد مع روسيا قد ساهما فى عودة الجيش كقوّة وسيطة فى الداخل والخارج. وقد راح الإعلام الموالى للحكومة، والذى اعتبر يوما أنّ المُحاكمات ضدّ العسكريّين كانت نصرا كبيرا للديمقراطيّة، يمتدح «الجهود البطوليّة» للقوّات المُسلّحة التركيّة فى التصدّى لأعداء تركيا الداخليّين والخارجيين. وفى لفتة كبيرة لحلفائه الجُدد، دافع أردوغان عن العلمانيّة بعد دعوة مستشاره إسماعيل كهرمان لإزالة أىّ إشارة لها من الدستور التركى.
راهن أردوغان على أنّ هذه الإشارات سوف تكبح جماح الجيش، لكنّه كان يلعب بالنار فى نفس الوقت ولعلّه من اللافت أن رئيس هيئة الأركان لا يخضع لسلطة وزير الدفاع وما زال قانون الخدمة العسكريّة الداخلى، والذى اُستخدم للسماح للجيش بالتدخّل فى السياسة سارى المفعول. ويوضح القانون أنّ «مهمّة القوات المُسلّحة التركيّة تتمثّل فى الحفاظ على وحماية الوطن التركى والجمهوريّة كما هو مُحدّد فى الدستور». وقد استند الجيش إلى هذه المادة كمسوّغٍ قانونى للانقلابات التى نفّذها فى الماضى.
لهذه الأسباب، بدا أن الجيش غير مُهتمٍ بشكلٍ خاص فى التدخّل فى العمليّة السياسيّة، على الأقل فى هذا التوقيت. فبعد ردّ الفعل الشعبى على «الانقلاب الإلكترونى» يُفضّل الجيش البقاء بعيدا عن السياسة. وسبق أن أصدرت هيئة الأركان بيانا شديد اللهجة تنفى فيه بشكلٍ قاطع الاتّهامات الموجّهة من قِبل بعض الدوائر الحكوميّة بالتجهيز لانقلاب عسكرى. كما أنّها هدّدت باتّخاذ إجراءات قانونيّة ضد المنابر الإعلاميّة التى تروّج لأخبارٍ من هذا النوع. فقد اعتمد الجيش دائما على الدعم الشعبى عندما قرّر التدخّل فى السياسة. وقد كان انقلاب عام 1980 الذى يُعدّ الأكثر دمويّة فى تاريخ البلاد، مثلا، يحظى بالدعم الشعبى من الجماهير التى رأت تدخّل الجيش ضروريّا لإعادة الاستقرار إلى البلاد. اليوم، يعرف الجيش بشكلٍ جيّد أنّ أيّ تدخّل ضدّ أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذى نال حوالى 50% من الأصوات فى الانتخابات الأخيرة سيحظى بالقليل من الدعم الشعبى وسيحطّم جهود الجيش لاستعادة موقعه فى المجتمع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
7
مقعد مجلس الأمن
لا بد هنا أن نعود إلى منتصف أكتوبر 2014 حين وصفت مجلة «نيوزويك» الأمريكية خسارة تركيا سباقها للفوز بمقعد مجلس الأمن الدولى بالمفاجأة الهائلة، التى تكشف الاحتكاكات المستمرة بشكل متزايد مع بعض من جيرانها وأيضا مع بعض القوى العالمية.
«نيوزويك» قالت إن إسبانيا ونيوزيلاندا فازتا على تركيا فى مساع للحصول على عضوية غير دائمة بمجلس الأمن، فى سباق على مقعدين متاحين محفوظين لكتلة تصويتية تسمى أوروبا الغربية ومجموعة أخرى بينها الولايات المتحدة.
وأشارت المجلة الأمريكية، نقلا عن عدد من المصادر الدبلوماسية، إلى أن الأيام القليلة التى سبقت التصويت شهدت حملة مكثفة بقيادة مصر والسعودية ضد عضوية تركيا فى المجلس، حيث تشعر القاهرة والرياض بالغضب من دعم الرئيس التركى للإخوان المسلمين، الجماعة التى يحاربها البلدان.
وتابعت المجلة أن وزير الخارجية التركى مولود جاوش أوغلو، استضاف حفلا ضم مجموعة من الدبلوماسيين فى أحد الفنادق بنيويورك، حيث تنبأ الكثير من الحضور بانتصار سهل لتركيا، إلا أن بعض الدبلوماسيين قالوا بعد التصويت، إنهم رصدوا ابتعادا واضحا عن المعسكر التركى لصالح إسبانيا.
ونقلت المجلة الأمريكية عن أحد الدبلوماسيين قوله بعدما أفضى الاقتراع السرى إلى فشل تركيا، إن الأمر مفاجأة لأنه قيل له قبل أيام «إن تركيا حصلت على خطابات دعم من 160 دولة، إلا أنه أوضح أن إسبانيا حصلت أيضا على 154 خطاب دعم من الدول الـ193 الأعضاء بالجمعية العامة»، وتابع الدبلوماسى قائلا «لم يكن ينبغى أن تسير الأمور كذلك»، مشيرا إلى عادة بين الدول الأعضاء فى التعبير عن دعمهم علانية، بينما يعارضون العضوية فى الاقتراع السرى.
ووفقا لهذا التصور فإن السعودية ومصر، كانتا تقفان على المسافة نفسها مع تركيا، ربما ما يميز الرياض هو أنها منذ اندلاع ما يوصف بـ«الربيع العربى» حافظت على نهجها الدبلوماسى الذى يتسم بالهدوء، حتى وهى تتخذ خطوات هجومية، وصلت إلى درجة تحدى السياسة الأمريكية فى ملفات إقليمية.
والدولتان تتفقان أيضا فى الموقف من تيارات الإسلام السياسى، وفى مقدمتها الإخوان المسلمين. وللسعودية مع هؤلاء قصة بدأت فى خمسينات القرن العشرين، بسبب معارضتهم نظام عبدالناصر، لكنها انقلبت إلى عداوة بعد وقوف «الإخوان» فى صف العراق فى أثناء غزو الكويت عام 1990. لكن، ليس هذا الأمر فقط ما جعل الرياض تقرر العمل لإسقاط نظام حكم الإخوان فى القاهرة، والوقوف عموماً فى وجه طموحاتهم فى الوصول إلى الحكم فى بلدان الربيع العربى، بل، أيضاً، لأن الإخوان يشكلون تحدياً «للتفسير» السعودى للإسلام والأهم من ذلك هو أن اتساع نطاق سيطرة التنظيم على دول المنطقة كان يهدد وجود الدولة السعودية ذاتها!
وعليه، دخلت السعودية فى مواجهة لا تقل شراسة مع معسكر تركيا والإخوان على امتداد المنطقة، ووصلت ثقتها بواشنطن إلى أدنى مستوياتها، بعدما برهن الأمريكيون، مرة جديدة، مدى استعدادهم للتخلى عن حلفائهم، واستماتتهم فى سبيل التوصل إلى اتفاق مع إيران!
ولأن الشىء بالشىء يذكر، فإن الموقف التركى أو الأردوغان من بشار الأسد، لا يزال لغزا، ولا يمكن تفسيره إلا بأنه تنفيذ لأوامر أمريكية ولا شىء غير ذلك، فهو نفسه من حصل على «امتيازات» كبيرة من بشار خلال فترة «الصداقة الشخصية» بينهما، حين وقّع الطرفان تحالفا استراتيجيا، شمل تشكيل سوق حرة، الأمر الذى جعل سوريا سوقا مهمة للاقتصاد التركى، وممرا مهما للسلع إلى الخليج، إضافة إلى الامتياز السياسى الذى حصلت عليه تركيا فى سعيها لأن تهيمن على سوق الشرق الأوسط، وهو الأمر الذى دفعها لرفع وتيرة «الصراع» مع الدولة الصهيونية حينها. فقد كانت تسعى لأن تصبح «قوة عالمية» كما صرح «وكتب» داود أوغلو قبل سنوات. ولا شك أن ذلك يحتاج لأن تصبح هى القوة المهيمنة فى «الشرق الأوسط»، فذلك هو ما يعزِّز اقتصادها وحضورها العالمى، وبالتالى يفرضها فعلا كقوة عالمية. وكل هذا الطموح كان يتمحور حول «كسب سوريا»، التى هى إضافة إلى أنها سوق مهم، ودولة مهمة، هى الشريان الذى ينشط علاقة تركيا الاقتصادية بالخليج.
وعلى عكس ما أراد أو كان يحلم، حقق أردوغان للأسد، واحدة من أمنيات أو تطلعات والده!
ففى آخر زيارة له (1988)، قبل انفراط عقد الاتحاد السوفييتى ألح الرئيس السورى الراحل حافظ الأسد على ميخائيل جورباتشوف بأن تحصل سوريا على منظومة «اس-300»الصاروخية، وكان هذا هو الطلب الذى تصدر أولويات دمشق على مدى عقود ما بعد هزيمة 67 ولم يجد آذاناً صاغية من الحليف السوفييتى.
غير أن مطالب حافظ الأسد، قوبلت بتعنت سوفييتى وقتها، وتعثرت صادرات موسكو من الأسلحة إلى دمشق. وتوقفت نهائيا، بعد مجىء بوريس يلتسين وفريقه.. الأمر الذى تغير مع مطلع الألفية الثالثة، ودخول روسيا حقبة بوتين الذى أعاد إلى رأس النسر فى الشعار الروسى التفاتته نحو الشرق. وعادت الحياة إلى صادرات الأسلحة الروسية لسوريا.
وحين حلقت الطائرات الاسرائيلية فوق قصر الرئيس السورى الشاب بشار الاسد، أعلن فلاديمير بوتين أن موسكو ستزود دمشق بالمنظومة المتطورة ذات المدى فى الرصد والدفاع يصل إلى 300 كيلومتر «كى لا تحلق طائرات تل أبيب ثانية فوق القصر الرئاسى السورى».. لكن تل أبيب، استنفرت كل قواها للتشويش على الصفقة؛ وتدخل حماة إسرائيل فى واشنطن لاجهاضها. وباتت زيارة كبار المسئولين فى الدولة العبرية إلى موسكو تتم فى غالبيتها تحت عنوان منع وصول «اس- 300» إلى السوريين.
ثم جاء حادث إسقاط طائرة «سو-24» الروسية بصواريخ الأتراك، لينفض الغبار عن مشروع كانت موسكو وضعته على الرفوف العالية، وتجده اليوم ضرورة حتمية للدفاع عن القوات الروسية المرابطة فى الأراضى السورية. وبدلا من «اس-300» التى حلم بها الأسد الأب، صار لدى الرئيس بشار «اس-400» الأكثر تطورا والتى يصل مداها إلى عمق إسرائيل. وطبعا مستحيل أن الغبى التركى قد توقع ذلك، حين أمر طياريه بملاحقة الطائرة الروسية وإسقاطها!
وقد وضعته الولايات المتحدة فى ورطة، عندما أوحت إليه بضرورة إسقاط القاذفة الروسية ولو كانت تحلق فوق الأراضى السورية، فنفذ تعليماتها وانبرى يحذر روسيا من اللعب بالنار، متجاهلا أن روسيا خاضت حروبا عديدة فى تاريخها الطويل، وأن أكثر الانتصارات، التى أحرزتها كانت فى حروبها مع تركيا، التى لم تخسر معها حربا واحدة. ولكن ذلك الزمان قد انتهى، وتركيا الآن عضو فى الناتو - حلف الدول القوية، المستعد لنجدة أى دولة من أعضائه.
ولعل أردوغان عندما تورط فى النزاع مع روسيا كان يعول على هذا الحلف. وربما لم يدرك «السلطان» العثمانى الجديد أن الحماقة، التى ارتكبها ستكون سببا لمشكلات كبرى، وأهمها إغلاق الأجواء السورية بأحدث منظومات الدفاع الجوى الروسية «إس-400» أمام الطائرات الحربية التركية، التى سيتم إسقاطها فى حال تحليقها فى هذه الأجواء. وقد قال أردوغان إن طائراته لن تحلق بعد الآن فوق سوريا.
كما حكم أردوغان على التركمانيين السوريين، الذين يتعاونون مع «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرهما من الجماعات الإرهابية، بالانقراض البطىء، ولا سيما أن مناطقهم فى سوريا ستتعرض من الآن فصاعدا لغارات مكثفة ومتواصلة.
أضف إلى ذلك أن تركيا، وبإيحاء من الولايات المتحدة، أطلقت يد الرئيس فلاديمير بوتين، وهى تستفزه لصنع مفاجآت من السابق لأوانه الحديث عنها، ولكنها آتية من غير شك.
وبقدر ما أن الانقلاب لم ينجح فى الوقت الراهن، إلًا أن هناك سيناريو محتملاً قد يتدخّل الجيش فيه. فالأعوام الأربعة عشر التى حكم فيها حزب العدالة والتنمية خففت إلى حدّ ما من موقف الجيش تجاه العلمانية، لكن النزعة الانفصالية الكردية لا تزال خطّا أحمر..وإذا كان رد أردوغان هو اتخاذ إجراءات صارمة ووحشية والتسبب فى المزيد من الفوضى وما قد يتبعها من سفك للدماء؛ فهناك احتمال بأن يتزايد المطلب العام لاتّخاذ الإجراء المناسب. وحتّى فى ظلّ هذا النوع من السيناريوهات الخطيرة وغير المرغوبة، فإنّ تركيا أصبحت بعيدة كل البعد عن الاستقرار. وإلى حين حدوث ذلك، فمن المرجح أن تبقى علاقة الجيش والحكومة متوترة. ومن الضرورى على كل حال تسليط الضوء على الطبيعة التكتيكيّة والقيود المُحيطة بهذه العلاقة؛ وسيظلان على خلاف دائم ومستمر بعد الاستبداد المتزايد الذى سيمارسه أردوغان، وتصرفاته المتقلبة وسياسته الخارجية العدوانية التى تركز على الشرق الأوسط والتى أدت جميعها إلى نفور حلفاء تركيا الغربيين التقليديين وأثارت الامتعاض فى الداخل.. وقد لا ينجح أردوغان فى تحصين نفسه أو خلق توازنٍ فى مواجهة الجيش. وهو ما يدفعنا لأن ننتظر انقلاباًً آخر يقوم به الجيش، وإلا ستواجه تركيا مصيرها المحتوم الذى قادها إليه أردوغان.. والمصير المحتوم هنا هو الانهيار.