ياسر بركات يكتب عن: حرب البراميل بين الكرملين والبيت الأبيض
الدب الروسى والثور الأمريكى يتصارعان على نفط الخليج
- السعودية توجه الضربة الخطأ إلى إيران!
- نيكولاى توكاريف.. الرجل الذى فجر القنبلة فى وجه «أوباما»
لقد أصبح الطريق ممهدا أمام الحديث عن «مؤامرة» على شكل توافق عربى-أمريكى يستهدف إحداث الضرر باقتصاديات إيران وروسيا، أشبه بتوافق الثمانينيات الذى هبط بأسعار النفط إلى مستوى كاد يقضى على اقتصاد الاتحاد السوفيتى وإيران، وساهم فى النهاية فى الإسراع بالانسحاب السوفيتى من أفغانستان وقبول طهران بوقف إطلاق النار فى الحرب مع العراق.
كان واضحا تماما أنها مؤامرة وضعتها الولايات المتحدة بتواطؤ مع دول حليفة لتضرب دولا بعينها تحت الحزام، غير أن الأمر تخطى هذا التصور، ليكون هدف المؤامرة تخريب دول وتقويض اقتصاد دول والتأثير على اقتصاديات غالبية دول العالم. إذ أصبح فى حكم البديهى أن النفط الخام هو السلعة الأبرز فى ضبط بوصلة الاقتصاد العالمى.
طوال سنة تقريباً، ظل سعر النفط الخام يهبط، وطوال السنة نفسها لم تتوقف التوقعات والتحليلات والتنبؤات بينما السعر آخذ فى الانخفاض حتى وصل إلى ما تحت الـ30 دولارا وهو أدنى مستوى له منذ سنة 2004.
حاول أن تغمض عينيك أو تنظر بعيداً عن نظرية المؤامرة، وستجد عدة عوامل ساهمت فى خلق تلك الحالة، منها عوامل العرض والطلب ومعدلات النمو الاقتصادى العالمى، خصوصاً لدى الدول ذات الوزن الاقتصادى الكبير، ومنها الولايات المتحدة والصين ودول الاتحاد الأوروبى، إذ يساهم النمو الاقتصادى فى هذه الدول فى زيادة حجم الطلب على النفط، بينما يساهم التباطؤ الاقتصادى فى تراجع الطلب بما يؤدى إلى تراجع الأسعار.
وهذه العوامل قد تكون طبيعية، وقد تكون مصطنعة.. وكلا الاحتمالين حادث، خاصة مع غياب أى إشارة لدى الدول الكبرى عن السعر العادل، وهو السعر الذى يأخذ فى الاعتبار نسبة التضخم أو نسبة التغير فى القوة الشرائية، وهو ما يعرف بالسعر الحقيقى أو السعر المعدل وفق نسبة التضخم. ويُطلَق على السعر الذى تجرى على أساسه صفقات النفط، السعر الاسمى. وإذا كان سعر النفط الحقيقى أعلى من السعر الاسمى، تتكبد الدول المنتجة خسارة من بيع نفطها نظراً إلى استيرادها سلعاً وبضائع وخدمات بالأسعار الجارية التى تعكس نسبة التضخم.
هذا السعر العادل، يصعب الوصول إليه من خلال اتفاقيات بين الدول المنتجة والمستهلكة نتيجة سعى الطرفين إلى تحقيق مكاسب حتى لو كانت على حساب الطرف الآخر. وبعد الانخفاض الكبير فى سعر النفط لم تطالب أى دولة مستهلكة برفع سعره إلى قيمته العادلة تجنباً لإلغاء العديد من المشروعات فى الدول المنتجة وما قد يحمله ذلك من آثار سلبية على حجم العرض.
وبالوضع فى الاعتبار أن كثيرا من تلك العوامل قد يكون مصنوعا أو مصطنعا، تعود نظرية المؤامرة لتطل برأسها من جديد، ويكتسب ما فعلته روسيا الخميس الماضى أهمية مضاعفة.
الخميس الماضى، انتهى بمفاجأة قلبت الموازين، جعلت اليوم ينتهى بارتفاع كبير، سببه «قنبلة» فجرتها روسيا بكشفها عن محادثات تجريها مع منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) تستهدف خفض مشترك للإنتاج.
القنبلة الروسية، ضربت فى مقتل توقعات انخفاض الأسعار التى لم تقف عند البنك الدولى بل شملت عدداً كبيراً من بيوت الخبرة منها موديز وجولدمان ساكس وباركليز وكلها بنت تقديراتها على ضعف نمو الطلب العالمى، دون أن تضع فى حساباتها احتمالية حدوث اتفاق على خفض الإنتاج.
القنبلة أعلنها نيكولاى توكاريف رئيس شركة «ترانسنفت» الحكومية الروسية التى تحتكر خطوط أنابيب النفط فى روسيا بإعلانه أن مسئولين بقطاع الطاقة الروسى قرروا إجراء محادثات مع السعودية ودول أوبك الأخرى حول تخفيضات الإنتاج، فى أول تلميح إلى تعاون محتمل بين أكبر منتج للنفط خارج أوبك وبين المنظمة لمحاولة تقليص تخمة قياسية فى المعروض من الخام.
ونقلت وسائل الإعلام الروسية عن توكاريف أنه أثناء اجتماع عقدته وزارة الطاقة مع شركات البترول الروسية جرت مناقشات تناولت بشكل خاص سعر النفط والخطوات التى ينبغى أن يتم اتخاذها بشكل جماعى لتغيير الوضع إلى الأفضل بما فى ذلك مفاوضات داخل إطار أوبك وعلى الصعيد الثنائى.
وقال توكاريف إن خفض الإنتاج سيكون فى جدول الأعمال لمحادثات مع دول أوبك، موضحا أن تلك واحدة من الأذرع أو الآليات التى ستسمح لنا بأن نحدث توازنا إلى حد ما فى سعر النفط.
المتحدث باسم وزارة الطاقة الروسية، أعلن أيضاً أن تنسيقا محتملا مع أوبك نوقش أثناء الاجتماع الذى استضافته الوزارة، فيما أعلن المتحدث باسم الكرملين أن روسيا تجرى مناقشات منتظمة مع دول عديدة بما فى ذلك دول منتجة للنفط حول الوضع فى أسواق الخام. وترك بيان أصدرته وزارة الطاقة الروسية الباب مفتوحا أمام محادثات مع أوبك بعد لحظات من تصريح رئيس «ترانسنفت».
على مدى السنوات العشر الماضية، حققت روسيا من مبيعات النفط والغاز الطبيعى نهراً ذهبياً من الضرائب والأرباح والإيرادات، وقتها كانت أسعار النفط ترتفع بشكل حاد بسبب الزيادة الكبيرة فى الطلب العالمى، خاصة فى الصين، حيث لم يكن إنتاج النفط يكفى لمواكبة الاحتياج؛ ذلك أدى إلى زيادة الأسعار بنسبة كبيرة، وتراوح سعر النفط حول 100 دولار للبرميل بين 2011 و2014.
لكن بينما كانت أسعار النفط ترتفع، وجدت بعض شركات الطاقة فى استخراج النفط من الأماكن صعبة الحفر أمراً مربحاً، فى الولايات المتحدة، بدأت الشركات باستخدام تقنيات جديدة مثل التكسير والحفر الأفقى لاستخراج النفط من الصخور الزيتية فى أماكن مثل نورث داكوتا وتكساس. الأمر الذى أدى إلى طفرة فى إنتاج النفط، حيث أضافت الولايات المتحدة وحدها قرابة 4 ملايين برميل نفط يومياً منذ 2008 فى السوق العالمى، وإذا علمنا أن الإنتاج العالمى حوالى 75 مليون برميل يومياً، يمكننا إدراك أن هذا الرقم سيكون مؤثراً.
حتى وقت قريب، لم تكن تلك الزيادة الأمريكية، والتى تزامنت أيضاً مع زيادة فى الإنتاج الكندى والروسى، ذات تأثير كبير على الأسعار العالمية، والسبب تزامن ذلك مع صراعات اشتعلت فى مناطق إنتاج النفط الرئيسية، كانت هناك حرب فى ليبيا، وفوضى فى العراق، كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات نفطية على إيران ولجمت صادرات طهران، تلك الصراعات ساهمت بتقليص 3 ملايين برميل يومياً من حصة السوق العالمى.
لكن الأمور تغيرت مرة واحدة فى سبتمبر 2014، فبدأت تلك الاضطرابات تقل، وعادت ليبيا تضخ النفط الخام مرة أخرى، وأهم من ذلك، بدأ الطلب على النفط فى أسيا وأوروبا فى الانخفاض، خاصة فى أماكن مثل الصين واليابان وألمانيا.
فى الاجتماع الكبير فى فيينا فى السابع والعشرين من نوفمبر، كان هناك الكثير من النقاش الساخن بين أعضاء أوبك حول أفضل سبل الرد على الانخفاض الحالى فى الأسعار، بعض البلدان مثل فنزويلا وإيران، أرادت من بقية الأعضاء خاصة المملكة العربية السعودية، أن تخفض الإنتاج من أجل رفع الأسعار مرة أخرى، والسبب هو أن هذه البلدان تحتاج إلى ارتفاع الأسعار من أجل إحداث قدر من التوازن فى ميزانياتها وأن تستطيع تغطية جميع النفقات الحكومية التى تراكمت عليها وألا تضطر للاستدانة فى حالة العجز.
على الجانب الآخر، كانت المملكة العربية السعودية -المنتج الأكبر للنفط فى العالم- والتى تعارض خفض الإنتاج، على استعداد أيضاً للسماح باستمرار هبوط الأسعار.
أحد الأسباب، أن المسئولين السعوديين يتذكرون ما حدث فى الثمانينيات، عندما انخفضت أسعار النفط وحاولت البلاد خفض الإنتاج لدعم الأسعار؛ كانت النتيجة أن أسعار النفط واصلت الانخفاض فى كل الأحوال، وفقدت السعودية حصتها فى السوق، بتلك البساطة! ما هو أكثر من ذلك، فقد أشار السعوديون إلى أنهم يمكنهم التعايش مع انخفاض الأسعار على المدى القصير، وقد استطاعت الحكومة بناء احتياطى ضخم من العملات الأجنبية لتمويل العجز.
فى النهاية، لم تتفق أوبك على رد، وانتهى الاجتماع على حفظ مستوى الإنتاج، الأمين العام لمنظمة أوبك «عبدالله البدرى» قال عقب الاجتماع: «إننا سوف ننتج 30 مليون برميل يومياً لمدة 6 أشهر مقبلة، وسنراقب لنرى كيف هو أداء السوق».
وبغض النظر عن النوايا والمقاصد، تشارك أوبك الآن فى حرب الأسعار تلك مع الولايات المتحدة، وهذا يعنى أنه فى الوقت الذى يُستخرج فيه النفط بتكلفة رخيصة من أماكن مثل المملكة العربية السعودية والكويت، ستكون التكلفة عالية لاستخراج النفط من الصخر الزيتى فى الولايات المتحدة، ولذلك، مع هبوط أسعار النفط، سيرى المنتجون فى الولايات المتحدة أن إنتاجهم غير مربح، ويوقفون إنتاجهم، والنتيجة،،ستستقر أسعار النفط، وستحافظ أوبك على حصتها فى السوق.
لكن القضية هنا أنه لا أحد يعلم تماماً إلى أى حد يجب أن تنخفض الأسعار كى تؤثر على ازدهار النفط الصخرى فى الولايات المتحدة، فوفقاً لوكالة الطاقة الدولية، حوالى 4٪ فقط من مشاريع النفط الصخرى الأمريكية تحتاج إلى أن تظل الأسعار أعلى من 80 دولاراً للبرميل لتظل قادرة على الاستمرار، لكن العديد من المشاريع فى ولاية نورث داكوتا ستظل مربحة ما بقيت الأسعار فوق 42 دولاراً للبرميل، نحن على وشك أن نعرف الأرقام الصحيحة قريباً!
مركز «ستراتفور» الأمريكى للأبحاث، وهو إحدى أذرع المخابرات المركزية الأمريكية كان قد نشر تقريراً فى أكتوبر الماضى يتوقع فيه استقرار الأسعار عند 90 دولاراً للبرميل، مقارنة للأسعار التى تجاوزت 120 دولاراً مع انطلاق ما يوصف بالربيع العربى فى 2011، غير أنه مع استمرار الهبوط اللامتوقع انطلقت عواصف من التحليلات فى محاولة لفهم هذا الانهيار الكبير فى الأسعار، والذى ستتضرر منه الدول بشكل عام.
البعض تحدثوا عن عودة معظم اقتصاديات العالم إلى حالة من الركود، خاصة الاقتصاديات الأوروبية الرئيسة فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واقتصاديات بعض من دول بريكس الرئيسية، مثل البرازيل؛ بشكل ترك تأثيراً ملموساً على معدلات الطلب فى السوق العالمية للطاقة.
غير أن ما استلفت النظر هو أن الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الرئيسية فى العالم وأكبر مستهلكى الطاقة، عادت من جديد لتصبح المنتج الأول للنفط، متفوقة بذلك على السعودية، بفعل التسهيلات التى وفرتها إدارة أوباما لإنتاج النفط فى مناطق لم يكن مسموحاً لشركات النفط بالعمل فيها، وبفعل التطور الكبير فى إنتاج النفط الصخرى.
وبهذا الشكل، أصبح الطريق ممهدا أمام الحديث عن «مؤامرة» على شكل توافق عربى-أمريكى يستهدف إحداث الضرر باقتصاديات إيران وروسيا، أشبه بتوافق الثمانينيات الذى هبط بأسعار النفط إلى مستوى كاد يقضى على اقتصاد الاتحاد السوفيتى وإيران، وساهم فى النهاية فى الإسراع بالانسحاب السوفيتى من أفغانستان وقبول طهران بوقف إطلاق النار فى الحرب مع العراق.
ما فتح الباب أكثر أمام حديث المؤامرة، هو رفض السعودية القاطع لخفض الإنتاج ما يعنى دليلاً واضحاً على سعيها لخفض الأسعار، الأمر الذى عوضته بسحب الـ 50 مليار ريال الاحتياطى، بينما تقول أصوات أخرى مدافعة عن هذا الخفض إنه سعى لتعزيز وضع أوبك الاستراتيجى، ذلك أن وصول السعر إلى مستوى معين سيؤدى إلى توقف قطاع كبير من إنتاج النفط الصخرى فى الولايات المتحدة ودول أخرى، بعد أن تصبح تكلفة إنتاجه أعلى من السعر العالمى لنفط أوبك.
وفى منتصف أكتوبر الماضى، نشرت مديرة الطاقة والمناخ فى مركز كارنيجى للأبحاث «ديبورا جوردون» عدداً من التغريدات على حسابها فى تويتر، تحدثت فيها عن الأسباب «المنطقية» التى تدفع بالسعودية لدعم هبوط أسعار النفط، منها: «مساعدة اقتصاد الصين والاتحاد الأوروبى فى استعادة العافية؛ وبهذا تكسب الرياض أصدقاءً جدداً وتعيد النشاط للطلب على النفط أيضاً»، وأضافت جوردون أن السعودية تهدف كذلك إلى «التأثير سلباً على روسيا، وهى المنافس الحقيقى للسعودية فى مجال النفط، رغم الصعود الأمريكى الكبير»، إضافة إلى سعيها بـ «تذكير منظمة أوبك بمن المسئول! السعودية هى الأقوى فى هذه المعادلة»، وختمت كلامها فقالت إن السبب الرابع يكمن فى «إبطاء الصعود السريع للنفط الصخرى فى الولايات المتحدة، حيث إن هبوط أسعار النفط سيجعله منافساً للنفط الصخرى الذى قد يُعد رخيصاً مقارنة بأسعار النفط السابقة».
وردّ «آندريو هولاند» أحد محللى الطاقة من واشنطن على ما كتبت جوردون فقال إن الأمر قد يكون «مؤامرة» بين الولايات المتحدة والسعودية للضغط على إيران.
ويبقى السؤال: هل تكون روسيا المنقذ غير المتوقع لأسعار النفط؟!
والسؤال طرحه موقع «ماركت وتش»، وهو موقع اقتصادى متخصص، نشر تقريرا أوضح فيه أن أسعار النفط حاليا ما تزال عند مستويات متدنية، لكن بإمكان روسيا إنقاذ الأسعار. واستشهد الموقع برأى لـ«أولى هانسن» المحلل فى «ساكسو بنك» أشار فيه إلى أن أسعار النفط يمكن أن ترتفع مرة أخرى إذا خفضت روسيا إنتاجها من الخام، الأمر الذى سيدفع منتجين آخرين بأن يحذوا حذوها ويقلصوا إنتاجهم ما سيدعم أسعار الخام المتهاوية.
وانتهى تقرير «ماركت وتش» إلى أنه «فى الوقت الذى تسود سوق النفط حالة قلق من عواقب رفع العقوبات عن إيران، فإن سوق الخام بانتظار منقذها الذى من الممكن أن يكون روسيا
- السعودية توجه الضربة الخطأ إلى إيران!
- نيكولاى توكاريف.. الرجل الذى فجر القنبلة فى وجه «أوباما»
لقد أصبح الطريق ممهدا أمام الحديث عن «مؤامرة» على شكل توافق عربى-أمريكى يستهدف إحداث الضرر باقتصاديات إيران وروسيا، أشبه بتوافق الثمانينيات الذى هبط بأسعار النفط إلى مستوى كاد يقضى على اقتصاد الاتحاد السوفيتى وإيران، وساهم فى النهاية فى الإسراع بالانسحاب السوفيتى من أفغانستان وقبول طهران بوقف إطلاق النار فى الحرب مع العراق.
كان واضحا تماما أنها مؤامرة وضعتها الولايات المتحدة بتواطؤ مع دول حليفة لتضرب دولا بعينها تحت الحزام، غير أن الأمر تخطى هذا التصور، ليكون هدف المؤامرة تخريب دول وتقويض اقتصاد دول والتأثير على اقتصاديات غالبية دول العالم. إذ أصبح فى حكم البديهى أن النفط الخام هو السلعة الأبرز فى ضبط بوصلة الاقتصاد العالمى.
طوال سنة تقريباً، ظل سعر النفط الخام يهبط، وطوال السنة نفسها لم تتوقف التوقعات والتحليلات والتنبؤات بينما السعر آخذ فى الانخفاض حتى وصل إلى ما تحت الـ30 دولارا وهو أدنى مستوى له منذ سنة 2004.
حاول أن تغمض عينيك أو تنظر بعيداً عن نظرية المؤامرة، وستجد عدة عوامل ساهمت فى خلق تلك الحالة، منها عوامل العرض والطلب ومعدلات النمو الاقتصادى العالمى، خصوصاً لدى الدول ذات الوزن الاقتصادى الكبير، ومنها الولايات المتحدة والصين ودول الاتحاد الأوروبى، إذ يساهم النمو الاقتصادى فى هذه الدول فى زيادة حجم الطلب على النفط، بينما يساهم التباطؤ الاقتصادى فى تراجع الطلب بما يؤدى إلى تراجع الأسعار.
وهذه العوامل قد تكون طبيعية، وقد تكون مصطنعة.. وكلا الاحتمالين حادث، خاصة مع غياب أى إشارة لدى الدول الكبرى عن السعر العادل، وهو السعر الذى يأخذ فى الاعتبار نسبة التضخم أو نسبة التغير فى القوة الشرائية، وهو ما يعرف بالسعر الحقيقى أو السعر المعدل وفق نسبة التضخم. ويُطلَق على السعر الذى تجرى على أساسه صفقات النفط، السعر الاسمى. وإذا كان سعر النفط الحقيقى أعلى من السعر الاسمى، تتكبد الدول المنتجة خسارة من بيع نفطها نظراً إلى استيرادها سلعاً وبضائع وخدمات بالأسعار الجارية التى تعكس نسبة التضخم.
هذا السعر العادل، يصعب الوصول إليه من خلال اتفاقيات بين الدول المنتجة والمستهلكة نتيجة سعى الطرفين إلى تحقيق مكاسب حتى لو كانت على حساب الطرف الآخر. وبعد الانخفاض الكبير فى سعر النفط لم تطالب أى دولة مستهلكة برفع سعره إلى قيمته العادلة تجنباً لإلغاء العديد من المشروعات فى الدول المنتجة وما قد يحمله ذلك من آثار سلبية على حجم العرض.
وبالوضع فى الاعتبار أن كثيرا من تلك العوامل قد يكون مصنوعا أو مصطنعا، تعود نظرية المؤامرة لتطل برأسها من جديد، ويكتسب ما فعلته روسيا الخميس الماضى أهمية مضاعفة.
الخميس الماضى، انتهى بمفاجأة قلبت الموازين، جعلت اليوم ينتهى بارتفاع كبير، سببه «قنبلة» فجرتها روسيا بكشفها عن محادثات تجريها مع منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) تستهدف خفض مشترك للإنتاج.
القنبلة الروسية، ضربت فى مقتل توقعات انخفاض الأسعار التى لم تقف عند البنك الدولى بل شملت عدداً كبيراً من بيوت الخبرة منها موديز وجولدمان ساكس وباركليز وكلها بنت تقديراتها على ضعف نمو الطلب العالمى، دون أن تضع فى حساباتها احتمالية حدوث اتفاق على خفض الإنتاج.
القنبلة أعلنها نيكولاى توكاريف رئيس شركة «ترانسنفت» الحكومية الروسية التى تحتكر خطوط أنابيب النفط فى روسيا بإعلانه أن مسئولين بقطاع الطاقة الروسى قرروا إجراء محادثات مع السعودية ودول أوبك الأخرى حول تخفيضات الإنتاج، فى أول تلميح إلى تعاون محتمل بين أكبر منتج للنفط خارج أوبك وبين المنظمة لمحاولة تقليص تخمة قياسية فى المعروض من الخام.
ونقلت وسائل الإعلام الروسية عن توكاريف أنه أثناء اجتماع عقدته وزارة الطاقة مع شركات البترول الروسية جرت مناقشات تناولت بشكل خاص سعر النفط والخطوات التى ينبغى أن يتم اتخاذها بشكل جماعى لتغيير الوضع إلى الأفضل بما فى ذلك مفاوضات داخل إطار أوبك وعلى الصعيد الثنائى.
وقال توكاريف إن خفض الإنتاج سيكون فى جدول الأعمال لمحادثات مع دول أوبك، موضحا أن تلك واحدة من الأذرع أو الآليات التى ستسمح لنا بأن نحدث توازنا إلى حد ما فى سعر النفط.
المتحدث باسم وزارة الطاقة الروسية، أعلن أيضاً أن تنسيقا محتملا مع أوبك نوقش أثناء الاجتماع الذى استضافته الوزارة، فيما أعلن المتحدث باسم الكرملين أن روسيا تجرى مناقشات منتظمة مع دول عديدة بما فى ذلك دول منتجة للنفط حول الوضع فى أسواق الخام. وترك بيان أصدرته وزارة الطاقة الروسية الباب مفتوحا أمام محادثات مع أوبك بعد لحظات من تصريح رئيس «ترانسنفت».
على مدى السنوات العشر الماضية، حققت روسيا من مبيعات النفط والغاز الطبيعى نهراً ذهبياً من الضرائب والأرباح والإيرادات، وقتها كانت أسعار النفط ترتفع بشكل حاد بسبب الزيادة الكبيرة فى الطلب العالمى، خاصة فى الصين، حيث لم يكن إنتاج النفط يكفى لمواكبة الاحتياج؛ ذلك أدى إلى زيادة الأسعار بنسبة كبيرة، وتراوح سعر النفط حول 100 دولار للبرميل بين 2011 و2014.
لكن بينما كانت أسعار النفط ترتفع، وجدت بعض شركات الطاقة فى استخراج النفط من الأماكن صعبة الحفر أمراً مربحاً، فى الولايات المتحدة، بدأت الشركات باستخدام تقنيات جديدة مثل التكسير والحفر الأفقى لاستخراج النفط من الصخور الزيتية فى أماكن مثل نورث داكوتا وتكساس. الأمر الذى أدى إلى طفرة فى إنتاج النفط، حيث أضافت الولايات المتحدة وحدها قرابة 4 ملايين برميل نفط يومياً منذ 2008 فى السوق العالمى، وإذا علمنا أن الإنتاج العالمى حوالى 75 مليون برميل يومياً، يمكننا إدراك أن هذا الرقم سيكون مؤثراً.
حتى وقت قريب، لم تكن تلك الزيادة الأمريكية، والتى تزامنت أيضاً مع زيادة فى الإنتاج الكندى والروسى، ذات تأثير كبير على الأسعار العالمية، والسبب تزامن ذلك مع صراعات اشتعلت فى مناطق إنتاج النفط الرئيسية، كانت هناك حرب فى ليبيا، وفوضى فى العراق، كما فرضت الولايات المتحدة عقوبات نفطية على إيران ولجمت صادرات طهران، تلك الصراعات ساهمت بتقليص 3 ملايين برميل يومياً من حصة السوق العالمى.
لكن الأمور تغيرت مرة واحدة فى سبتمبر 2014، فبدأت تلك الاضطرابات تقل، وعادت ليبيا تضخ النفط الخام مرة أخرى، وأهم من ذلك، بدأ الطلب على النفط فى أسيا وأوروبا فى الانخفاض، خاصة فى أماكن مثل الصين واليابان وألمانيا.
فى الاجتماع الكبير فى فيينا فى السابع والعشرين من نوفمبر، كان هناك الكثير من النقاش الساخن بين أعضاء أوبك حول أفضل سبل الرد على الانخفاض الحالى فى الأسعار، بعض البلدان مثل فنزويلا وإيران، أرادت من بقية الأعضاء خاصة المملكة العربية السعودية، أن تخفض الإنتاج من أجل رفع الأسعار مرة أخرى، والسبب هو أن هذه البلدان تحتاج إلى ارتفاع الأسعار من أجل إحداث قدر من التوازن فى ميزانياتها وأن تستطيع تغطية جميع النفقات الحكومية التى تراكمت عليها وألا تضطر للاستدانة فى حالة العجز.
على الجانب الآخر، كانت المملكة العربية السعودية -المنتج الأكبر للنفط فى العالم- والتى تعارض خفض الإنتاج، على استعداد أيضاً للسماح باستمرار هبوط الأسعار.
أحد الأسباب، أن المسئولين السعوديين يتذكرون ما حدث فى الثمانينيات، عندما انخفضت أسعار النفط وحاولت البلاد خفض الإنتاج لدعم الأسعار؛ كانت النتيجة أن أسعار النفط واصلت الانخفاض فى كل الأحوال، وفقدت السعودية حصتها فى السوق، بتلك البساطة! ما هو أكثر من ذلك، فقد أشار السعوديون إلى أنهم يمكنهم التعايش مع انخفاض الأسعار على المدى القصير، وقد استطاعت الحكومة بناء احتياطى ضخم من العملات الأجنبية لتمويل العجز.
فى النهاية، لم تتفق أوبك على رد، وانتهى الاجتماع على حفظ مستوى الإنتاج، الأمين العام لمنظمة أوبك «عبدالله البدرى» قال عقب الاجتماع: «إننا سوف ننتج 30 مليون برميل يومياً لمدة 6 أشهر مقبلة، وسنراقب لنرى كيف هو أداء السوق».
وبغض النظر عن النوايا والمقاصد، تشارك أوبك الآن فى حرب الأسعار تلك مع الولايات المتحدة، وهذا يعنى أنه فى الوقت الذى يُستخرج فيه النفط بتكلفة رخيصة من أماكن مثل المملكة العربية السعودية والكويت، ستكون التكلفة عالية لاستخراج النفط من الصخر الزيتى فى الولايات المتحدة، ولذلك، مع هبوط أسعار النفط، سيرى المنتجون فى الولايات المتحدة أن إنتاجهم غير مربح، ويوقفون إنتاجهم، والنتيجة،،ستستقر أسعار النفط، وستحافظ أوبك على حصتها فى السوق.
لكن القضية هنا أنه لا أحد يعلم تماماً إلى أى حد يجب أن تنخفض الأسعار كى تؤثر على ازدهار النفط الصخرى فى الولايات المتحدة، فوفقاً لوكالة الطاقة الدولية، حوالى 4٪ فقط من مشاريع النفط الصخرى الأمريكية تحتاج إلى أن تظل الأسعار أعلى من 80 دولاراً للبرميل لتظل قادرة على الاستمرار، لكن العديد من المشاريع فى ولاية نورث داكوتا ستظل مربحة ما بقيت الأسعار فوق 42 دولاراً للبرميل، نحن على وشك أن نعرف الأرقام الصحيحة قريباً!
مركز «ستراتفور» الأمريكى للأبحاث، وهو إحدى أذرع المخابرات المركزية الأمريكية كان قد نشر تقريراً فى أكتوبر الماضى يتوقع فيه استقرار الأسعار عند 90 دولاراً للبرميل، مقارنة للأسعار التى تجاوزت 120 دولاراً مع انطلاق ما يوصف بالربيع العربى فى 2011، غير أنه مع استمرار الهبوط اللامتوقع انطلقت عواصف من التحليلات فى محاولة لفهم هذا الانهيار الكبير فى الأسعار، والذى ستتضرر منه الدول بشكل عام.
البعض تحدثوا عن عودة معظم اقتصاديات العالم إلى حالة من الركود، خاصة الاقتصاديات الأوروبية الرئيسة فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا واقتصاديات بعض من دول بريكس الرئيسية، مثل البرازيل؛ بشكل ترك تأثيراً ملموساً على معدلات الطلب فى السوق العالمية للطاقة.
غير أن ما استلفت النظر هو أن الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الرئيسية فى العالم وأكبر مستهلكى الطاقة، عادت من جديد لتصبح المنتج الأول للنفط، متفوقة بذلك على السعودية، بفعل التسهيلات التى وفرتها إدارة أوباما لإنتاج النفط فى مناطق لم يكن مسموحاً لشركات النفط بالعمل فيها، وبفعل التطور الكبير فى إنتاج النفط الصخرى.
وبهذا الشكل، أصبح الطريق ممهدا أمام الحديث عن «مؤامرة» على شكل توافق عربى-أمريكى يستهدف إحداث الضرر باقتصاديات إيران وروسيا، أشبه بتوافق الثمانينيات الذى هبط بأسعار النفط إلى مستوى كاد يقضى على اقتصاد الاتحاد السوفيتى وإيران، وساهم فى النهاية فى الإسراع بالانسحاب السوفيتى من أفغانستان وقبول طهران بوقف إطلاق النار فى الحرب مع العراق.
ما فتح الباب أكثر أمام حديث المؤامرة، هو رفض السعودية القاطع لخفض الإنتاج ما يعنى دليلاً واضحاً على سعيها لخفض الأسعار، الأمر الذى عوضته بسحب الـ 50 مليار ريال الاحتياطى، بينما تقول أصوات أخرى مدافعة عن هذا الخفض إنه سعى لتعزيز وضع أوبك الاستراتيجى، ذلك أن وصول السعر إلى مستوى معين سيؤدى إلى توقف قطاع كبير من إنتاج النفط الصخرى فى الولايات المتحدة ودول أخرى، بعد أن تصبح تكلفة إنتاجه أعلى من السعر العالمى لنفط أوبك.
وفى منتصف أكتوبر الماضى، نشرت مديرة الطاقة والمناخ فى مركز كارنيجى للأبحاث «ديبورا جوردون» عدداً من التغريدات على حسابها فى تويتر، تحدثت فيها عن الأسباب «المنطقية» التى تدفع بالسعودية لدعم هبوط أسعار النفط، منها: «مساعدة اقتصاد الصين والاتحاد الأوروبى فى استعادة العافية؛ وبهذا تكسب الرياض أصدقاءً جدداً وتعيد النشاط للطلب على النفط أيضاً»، وأضافت جوردون أن السعودية تهدف كذلك إلى «التأثير سلباً على روسيا، وهى المنافس الحقيقى للسعودية فى مجال النفط، رغم الصعود الأمريكى الكبير»، إضافة إلى سعيها بـ «تذكير منظمة أوبك بمن المسئول! السعودية هى الأقوى فى هذه المعادلة»، وختمت كلامها فقالت إن السبب الرابع يكمن فى «إبطاء الصعود السريع للنفط الصخرى فى الولايات المتحدة، حيث إن هبوط أسعار النفط سيجعله منافساً للنفط الصخرى الذى قد يُعد رخيصاً مقارنة بأسعار النفط السابقة».
وردّ «آندريو هولاند» أحد محللى الطاقة من واشنطن على ما كتبت جوردون فقال إن الأمر قد يكون «مؤامرة» بين الولايات المتحدة والسعودية للضغط على إيران.
ويبقى السؤال: هل تكون روسيا المنقذ غير المتوقع لأسعار النفط؟!
والسؤال طرحه موقع «ماركت وتش»، وهو موقع اقتصادى متخصص، نشر تقريرا أوضح فيه أن أسعار النفط حاليا ما تزال عند مستويات متدنية، لكن بإمكان روسيا إنقاذ الأسعار. واستشهد الموقع برأى لـ«أولى هانسن» المحلل فى «ساكسو بنك» أشار فيه إلى أن أسعار النفط يمكن أن ترتفع مرة أخرى إذا خفضت روسيا إنتاجها من الخام، الأمر الذى سيدفع منتجين آخرين بأن يحذوا حذوها ويقلصوا إنتاجهم ما سيدعم أسعار الخام المتهاوية.
وانتهى تقرير «ماركت وتش» إلى أنه «فى الوقت الذى تسود سوق النفط حالة قلق من عواقب رفع العقوبات عن إيران، فإن سوق الخام بانتظار منقذها الذى من الممكن أن يكون روسيا