الموجز
الخميس 21 نوفمبر 2024 11:02 صـ 20 جمادى أول 1446 هـ
أهم الأخبار

ياسر بركات يكتب عن: المستقبل الغامض لمافيا المال الحرام!

من هذا المدخل، أو النقطة التى أثارت جدلاً يتعلق بالبرلمان الوليد، ننتقل إلى النقطة التى تلتها وكانت مثار جدل هى الأخرى، والمتعلقة بما وصفوه بالمال السياسى!
والثابت هو أن كل تنظيم سياسى فى العالم يحتاج من المال، بالقدر الذى يمكنه من إقامة هياكله، وتسيير شئونه، وتقديم مرشحيه بشكل يستطيع به كل مرشح أن يخوض المعركة الانتخابية، بنوع من الحيوية ويحصل على الأصوات التى تؤهله للمقعد النيابى.
والحملات الانتخابية فى الغرب كما فى الشرق، أصبحت عالية التكاليف؛ وتتطلب ميزانيات ضخمة، نتيجة تطور الأساليب، وتنوع الوسائل.
وبشكل عام، فإن تمويل السياسيين أو الحركات أو الأحزاب السياسية، يتم عن طريق مصادر محددة: تمويل عام (الدولة).. تمويل خاص (مؤسسات خاصة، شخصيات اعتبارية، اشتراكات الأعضاء، تبرعات من بعض المواطنين).. وأخيراً، هناك التمويل المشبوه والذى يكون مصدره تجار المخدرات وعصابات المافيا أو عصابات الجريمة المنظمة والدول والمؤسسات الأجنبية.
والفساد السياسى أشبه ما يكون، بذلك الوحش الأسطورى، ذى الرؤوس المتعددة، التى يصعب استئصالها جميعاً، وإذا ما تم قطع واحد منها، نبتت مكانها رؤوس أخرى، ربما تتخذ ملامح مختلفة، لكن يظل المال الحرام أو ذو المصدر المشبوه، هو الدم الذى يتدفق فى عروق هذا الوحش، ويغذى أطرافه، ويقوى أنيابه ومخالبه.
وبديهى أن يكون للفساد السياسى طرفان هما المفسِد (بكسر السين)، والمفسَد (بفتحها) وأن العلاقة بينهما تقوم على أساس اقتسام الغنيمة والاستفادة أو المنفعة الشخصية. وبالتالى، فإن الفساد السياسى تشتدّ حدّته، كلما كانت الاستفادة المتوقعة، أكبر والمخاطر المحتملة أقل.
المال، إذن، هو صاحب الدور الأساسى فى الفساد السياسى، وهذا يعنى أن الأطراف تختار بين من يحقق لها أكبر قدر من الاستفادة المادية؛ فهى تستقطب إلى صفوفها الأثرياء المشبوهين، وتزكيهم، لما لديهم من قدرة على خوض المناقصات المشبوهة، والفوز بها، خلال تواجدهم تحت قبة المجالس النيابية. وفى تلك الحالة يصبح صوت الناخب فى مفهوم هؤلاء هو «فاتورة شراء»، يتم تبادلها بمقدار يجرى الاتفاق عليه من المال، وعندما يصبح العمل السياسى أسرع وسيلة لتحقيق المصالح الشخصية، فإن الساحة السياسية، يسيطر عليها مزيج غريب من السماسرة والمتطفلين، والوصوليين وأشباه الأميين.
فى إيطاليا، مثلاً، وحتى سنة 1984، كانت المافيا تبحث باستمرار عن التأييد السياسى للشخصيات السياسية التى تراها مؤهلة لتحقيق مصالحها. والحقيقة أن كل طرف هو فى أمس الحاجة إلى ما يمكن أن يقدمه الآخر. فالمافيو يحتاج إلى الفوز بالامتيازات الكبرى والصغرى، رخص الاستيراد، المناقصات، والمشروعات التى يملك السياسى مفاتيحها. والسياسى بدوره يحتاج إلى أصوات الناخبين التى يتحكم المافيو فى بورصتها. وعادة ما تتم الصفقة بين الطرفين حسب السيناريو التالى: تتصل شخصية مافيوية بالمرشح، وتقول له: سيدى النائب، سنعمل من أجلك كذا وكذا، ونحن ننتظر منك أن تتذكرنا عندما تفوز، وعندما يفوز الرجل، يكون من الواجب عليه أن يدفع الثمن، فتتصل المافيا به بعد ذلك، وتقول له: نحن نحتاج إلى كذا وكذا، هل تقوم به أم لا؟. وبالطبع، فإن النائب ينفذ حرفياً ما يُطلب منه، لأنه لم يعد لديه أى مخرج. أما إذا رفض، فإن مصيره يكون الاغتيال!!.. «سالفو ليما»، نائب صقلية فى البرلمان الأوربى، اغتالته المافيا فى مارس 1992، لأنه توقف عن توفير الحماية القانونية لأعضاء المافيا.
ولا تنحصر المنفعة المتبادلة فيما سبق ذكره فقط، بل تتشعب وتتنوع.
فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك طرف ثالث، من غير المنتمين للمافيا، يريد خدمة ما أو امتيازاً، من ذلك النائب الذى تحتضنه المافيا وتهيمن عليه، فإن طلبه بالضرورة يجب أن يمر عبر المافيا، وإذا كانت هناك جهة ما تزعج ذلك السياسى فإن المافيا تقوم بتصفية ذلك الخصم المزعج، «كارلو ألبرتو دالاّ كييزا»، جنرال إيطالى، كاد ينجح فى محاربة التنظيم الإرهابى الإيطالى «الألوية الحمراء» وأثناء التحقيق الذى كان يقوم به حول اختطاف ومقتل رئيس الحكومة الإيطالية وزعيم الحزب الديمقراطى المسيحى «ألدو مورو»، اكتشف تورط بعض كبار السياسيين من الحزب الديمقراطى المسيحى، الذين لم يكونوا راضين عن المسار الذى اختاره زعيمهم، بشأن التقارب بين حزبه والحزب الشيوعى الإيطالى القوى، فقامت عصابة «كاتان» فى 3 نوفمبر 1982، باغتيال الجنرال «دالا كييزا»، مجاملة أو إرضاء لشخصية كبيرة من الحزب الديمقراطى المسيحى (جوليو أندريوتى).
هل أصابك القلق من احتمالية وجود شبيه لما سبق فى البرلمان القادم؟!
هل خطر ببالك عدد من رجال الأعمال الذين تردد أنهم يسيطرون على البرلمان، سواء من كان منهم أعضاء فازوا بمقاعد أو قاموا بتمويل حملات فائزين؟
للأسئلة ما يبررها، وهو زواج المال بالسلطة الذى كان أحد الأسباب الرئيسية لاتساع رقعة الفساد فى مصر خلال فترة حكم مبارك بشكل أدى فى النهاية إلى الإطاحة به، وكان واضحاً للمصريين -على اختلاف فئاتهم- فى السنوات العشر الأخيرة عودة التضامن بين الحكومة ورجال الأعمال, وعودة الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم بعد50 عاماً من ثورة 23 يوليو 52 التى كان أول أهدافها القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم. وعلى هذه الخلفية يترقب المصريون حال البرلمان الجديد, ومتخوفون من تأثير أصحاب المال عليه وإضرارهم بالسياسة العامة للدولة, والسيطرة على دوائر صنع القرار عبر الإغراءات المالية, وترسيخ زواج المال بالسلطة.
والحقيقة هى أننا ابتلينا برجال أعمال فى المجالس السابقة اشتروا المقاعد بأموالهم من أجل جمع الثروات وداسوا على القانون والدستور الذى يحظر عليهم البيع والشراء مع الحكومة، وأحدهم استولى على شركة وطنية وضمها إلى أملاكه، وآخر استولى على ملايين الكيلو مترات من الأراضى بأسعار بخسة وتبلغ حالياً المليارات، وآخر كان يجلس فى آخر القاعة يعقد الصفقات!
كما لم تحترم الحكومة ولا البرلمان فى السابق الدستور والقانون لمجاملة المقربين من النظام، فرئيس وزراء أسبق، مثلاً، كشف بالصدفة أن 6 رؤساء لجان برلمانية خلال نظام مبارك كانوا أعضاء فى مجالس إدارات شركات حكومية بالمخالفة للدستور، واستدعاهم رئيس البرلمان فقدموا استقالاتهم من الشركات!
المادة 39 من القانون.. فـــخ الفاسدين تحت القبة
فى ذاكرتنا، وليس بعيدا عن أذهاننا ذلك كله، غير أن الواقع يقول إن الدولة المصرية كانت منتبهة إلى ذلك تماماً، فرجال الأعمال الفائزون بعضوية البرلمان ملزمون طبقاً لقانون مجلس النواب بتقديم تقرير عقد إدارة الشركات والتنازل عن إدارة أعمالهم منعاً لتضارب المصالح بين كونهم نواباً برلمانيين ممثلين عن الشعب وكونهم رجال أعمال يسعون لتحقيق أرباح. والمادة 39 من قانون مجلس النواب ألزمت عضو البرلمان فور اكتسابه العضوية أن يتخذ الإجراءات اللازمة لفصل ملكيته فى أسهم أو حصص الشركات عن إدارة أى أسهم أو حصص فى هذه الشركات، وذلك خلال مدة لا تتجاوز الـ60 يوماً من اكتسابه العضوية، والمادة 40 من القانون نفسه نصت على أن فصل ملكية الأسهم والحصص يكون عن طريق قيام عضو مجلس النواب بإبرام عقد لإدارة هذه الأصول مع شخص مستقل من غير أقاربه حتى الدرجة الرابعة، أو شركائه فى النشاط التجارى، كما ألزمته بالامتناع عن التدخل فى قرارات إدارة تلك الأصول إلا ما يتعلق منها بالموافقة على التصرف بالبيع أو التنازل، وطبقاً للقانون، يجب على عضو مجلس النواب أن يخطر مكتب المجلس بالأسهم والحصص التى عهد بإدارتها إلى الغير، وفقاً لأحكام المادة 40 من قانون مجلس النواب، وما من شك فى أن الالتزام بتطبيق هذا القانون سيمنع تضارب المصالح تحت قبة البرلمان، كما أن القانون أيضاً منع النائب من أن يقترض مالاً أو يحصل على تسهيل ائتمانى أو يشترى أصلاً بالتقسيط إلا وفقاً لمعدلات وشروط العائد السائدة فى السوق دون الحصول على أية مزايا إضافية وبشرط إخطار مكتب المجلس، ويسرى حكم ذلك بالنسبة لكل تسوية يجريها عضو مجلس النواب مع الجهة المانحة للائتمان، وشدد القانون على ضرورة قيام عضو مجلس النواب الذى يزاول نشاطاً مهنياً بمفرده أو بالمشاركة مع الغير أن يفصح عن ذلك كتابة لمكتب المجلس.
طبعاً لن يغلب رجال الأعمال وربما يلجأون إلى كتابة حصصهم من الشركات بأسماء أشخاص آخرين، ليسوا من أقاربهم ولكن من معارفهم وأصدقائهم مع أخذ مستندات وشيكات عليهم بقيمتها تعرف بـ«ورق الضد»، وكانت قيادات الحزب الوطنى المنحل من النواب خاصة الوزراء، يفعلون ذلك للتحايل على قانون تضارب المصالح، كما ظلت جماعة الإخوان الإرهابية على مر تاريخها تكتب شركات ومحالاً ومشروعات تجارية بأسماء آخرين، غير أن الواقع يقطع بأن عدد رجال الأعمال ليس كبيراً، وما كان يحدث من قبل من الحصول على امتيازات خاصة من الوزراء لصالح النواب وشركاتهم لن يتكرر بنفس الصورة السابقة؛ نظراً لتغير المناخ السياسى ولأن الأجهزة الرقابية منتبهة وفى أعلى درجات يقظتها. كما أن الوزير سيفكر مائة مرة قبل أن يوقع على تأشيرة لأى نائب، لكى لا يكون مصيره هو نفسه مصير وزير الزراعة السابق، أو مصير محمد فودة الذى كان ينوى الترشح لعضوية هذا البرلمان، وبدلاً من أن يستقر على مقعده تحت القبة، انتقل إلى «البورش»!