ياسر بركات يكتب عن الدب الروسى يدهس الأمـريكان بالحذاء
لمن الحكم اليوم؟
اليوم يقف العالم كله على قدم واحدة ليشاهد «بوتين» وهو يعيد ترتيب المنطقة على غير هوى أمريكا.. اليوم يقف العالم غير مصدق أن «الدب» الروسى عاد من جديد بعد غياب طويل جعل أمريكا هى «شرطى العالم» وهى صاحبة الكلمة العليا فى حياة الشعوب ومصير الرؤساء.
اليوم.. وبعد ثورات وضجيج ملأ أجواء العالم كله... يعود الدب الروسى ليقول إن اللعبة الأمريكية انتهت وإن مصير الشعوب لم يعد فى قبضة البيت الأبيض ولا البنتاجون ولا أى وكالة مخابرات.
نجح بوتين فى فترة وجيزة أن يعيد روسيا وبقوة إلى مكانتها القديمة فى العالم، ولكن كيف نجح بوتين فى كل ذلك؟ هل كان بإمكانه أن يفعل ذلك دون مساندة ودعم مصر ؟! هل كان يستطيع مواجهة أمريكا وتحدى إرادتها على هذا النحو قبل ظهور الجنرال المصرى عبدالفتاح السيسى؟!
التاريخ والأحداث تؤكد أن الدب الروسى كان مريضاً ويحاول التعافى حتى جاء فجر ثورة يونيو لتبدأ مصر إعادة خريطة علاقاتها بالمحيط الدولى.
وبالعودة إلى مقال العدد الماضى حول الصورة التى جمعت بين الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى والمغرور الأمريكى أوباما، نستطيع أن نستكمل الصورة التى نراها اليوم فى سوريا.
كانت نظرات عبدالفتاح السيسى كما قلنا هى نظرات كل المصريين إلى هذا المتعجرف الأمريكى الذى لم يتعلم الدرس ولم يستوعب التحذيرات والكلمات التى وجهها «السيسى» إلى وزير الدفاع الأمريكى عام 2014 وفى أول زيارة له بعد انقطاع بدأ منذ ثورة يونيو، قال له فى رسالة واضحة لأوباما: «رئيسكم يجهل تاريخ مصر».. وكان السيسى يدرك معنى كل كلمة يوجهها إلى واشنطن.
وأثبتت الأيام أن أوباما يجهل تاريخ مصر ومكانتها وقوتها وتأثيرها، لقد ظن أن مصر لن تقوم مرة أخرى ولن تستيقظ ولن تقوى على العيش بدون البيت الأبيض!! وكان كل هذا أوهاماً يدفع ثمنها اليوم وهو يقف يشاهد بوتين يلعب «الروليت» وهى اللعبة الأشهر فى روسيا، فمن خلال طلقة واحدة يتم تحديد مصير أحد المتنافسين، فرصاصة وحيدة يتم تسديدها إلى وجه المنافس، بعد إدارة البكرة.. ثم يبدأ الضغط على الزناد. والحظ وحده هو الذى يقرر إن كانت الرصاصة ستنطلق مع الضغطة أم لا؟!
وقد انطلقت الرصاصة الروسية بقوة بفضل موقف مصر الذى بدأ منذ ثورة يونيو ومع ظهور الجنرال المصرى عبدالفتاح السيسى!
أما بوتين فكان يحلم طوال الوقت بتغيير قواعد اللعبة. وجاءته الفرصة على طبق من ذهب فى سوريا، لكنه لم يفعل ذلك دون أن يمهد الأرضية وركز جهده وتفكيره فى تشكيل تحالف الراغبين، مستغلاً وجود تحالف ضد «داعش» يقع بشار الأسد فى نقطة ارتكازه، مع تحرك إيرانى ساعده ما أسفرت عنه المحادثات بشأن ملفها النووى.
ولأن التحالف بهذا الشكل لن يُكتب له النجاح إلا بوجود حلفاء عرب، اتجه بوتين إلى مصر والأردن والإمارات ومزج العمل بمزيد من العمل، حتى تمكن من جمع الرئيس المصرى وملك الأردن وولى عهد أبوظبى للمشاركة فى عرض جوى عسكرى فى موسكو فى أغسطس الماضى. وكانت أبرز نتائجه هى سحب الأردن دعمها للمعارضة السورية التى تقاتل على الجبهة الجنوبية!
وبين النتائج أيضاً أن مصر، التى كانت حريصة كل الحرص على عدم إظهار دعمها للأسد، تعلن بمنتهى الوضوح تأييدها للتدخل الروسى.
وكان صدمة لمن اعتقدوا أنهم قادرون على تحجيم دور مصر أن يروا سامح شكرى، وزير الخارجية، يقول إن دخول مصر، بما لها من إمكانيات وقدرات، لهو شىء نرى أنه سيكون له تأثيره فى الحد من الإرهاب فى سوريا بل وفى القضاء عليه.
صدمة السعودية !
وكان غريباً أن يصدر بيان مشترك عن دول ثلاث «غير غربية» يدين الهجمات الجوية الروسية!
قطر وتركيا موقفهما معروف، ومعروف بأصابع من تتحركان. أما الصادم فكان وجود «المملكة العربية السعودية».
صحيح أن هذه هى الدول الرئيسية الداعمة لما توصف بـ«المعارضة السورية»، لكن كنا نتوقع من المملكة الشقيقة أن تراجع موقفها فى ظل ما طرأ من متغيرات، لا أن تمارس ضغوطاً على مصر والأردن والإمارات كى يكونوا بين الموقعين! خاصة مع وقوع مبارزة بين طائرة حربية روسية من طراز Su-24 وأخرى تركية من طراز F-16 داخل ما قالت أنقرة إنه المجال الجوى التركى. وهو ما علّق عليه رئيس الوزراء التركى أحمد داود أوغلو بقوله إن سلاح الجو التركى سيفعل قواعد الاشتباك العسكرية مؤكداً أنه «حتى لو كان طائر يطير بجناحيه فإنه سيجرى اعتراضه».
قد يتفهم الروس معارضة السعودية لعملياتهم ضد «داعش» على خلفية العلاقات الوثيقة للمملكة مع واشنطن، غير أن ما نعلمه ويعلمه المتابع الجيد لما تشهده المنطقة، هو أن أمريكا فقدت سيطرتها على حلفائها الذين بات كل واحد منهم يفعل ما يراه مناسباً من وجهة نظره. وقد نرجع الموقف السعودى إلى اعتقادها بأنها إن لم تتصد لحماية الأغلبية السنية فى المنطقة فإن القاعدة أو «داعش» سيفعلون ذلك!
ولا يمكن بحال من الأحوال أن ننظر إلى ذلك كله بغير الوضع فى الاعتبار «مشروع بوتين»، الذى يريد قبل أى شىء استعراض قدرات وإمكانيات الجيش الروسى عبر قيامه بدور قتالى فى المنطقة تستخدم فيه ترسانتها وتقوم فيه بـ«تجربة» ما أنتجته مصانع السلاح بها!
فضيحة المخابرات الأمريكية
هنا، لا بد لنا من وقفة مع سؤال طرحته وكالة رويترز عما إذا كانت وكالة المخابرات الأمريكية قد فوتت المؤشرات المبكرة على ما وصفته بحرب بوتين فى سوريا، أم لا؟
رويترز أشارت إلى تحقيق يجرى فى الكونجرس فى إخفاق مخابراتى محتمل، وبحسب الوكالة الأشهر للأنباء فإن عدداً من كبار نواب الكونجرس الأمريكى قد بدأوا يحققون فى الإخفاقات المخابراتية المحتملة حول تدخل موسكو فى سوريا، ويشعرون بالقلق من أن وكالة المخابرات الأمريكية كانت بطيئة فى فهم نطاق ونوايا الهجوم العسكرى الروسى، حسبما أفادت مصادر بالكونجرس ومسئولون آخرون.
لجان المخابرات بمجلسى النواب والشيوخ الأمريكيين، تريد أن تدرس مدى تغاضى مجتمع المخابرات أو إساءة تقديره للمؤشرات التحذيرية المهمة. وكانت الحلقة الأحدث فى سلسلة الإخفاقات هى إثبات وجود «بقع سوداء كبرى» سيكون الحلقة الأحدث فى سلسلة من إخفاقات المخابرات الأمريكية فى السنوات الأخيرة، والتى تشمل استيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم العام الماضى، وتوسع الصين السريع فى أنشطة بناء الجزر فى بحر الصين الجنوبى. ويقول مسئولون أمريكيون حاليون وسابقون إنه على الرغم من أن وكالة المخابرات سعت لتكثيف جمع المعلومات المخابراتية عن روسيا منذ أزمة أوكرانيا، فإنها ظلت تعانى من عدم كفاية الموارد بسبب التركيز على مكافحة الإرهاب فى الشرق الأوسط ومنطقة أفغانستان وباكستان.
وعن مسئول رفيع المستوى بالإدارة الأمريكية طلب عدم الكشف عن هويته، نقلت رويترز: لم تكن هناك مفاجآت وأن صناع القرار كانوا مرتاحين للمعلومات المخابراتية التى تلقوها قبيل التدخل الروسى.. وتتبعت وكالة المخابرات بعناية تعزيز الرئيس الروسى استعدادات الحراك العسكرى فى سوريا فى الأسابيع الأخيرة، ما أدى إلى انتقادات من البيت الأبيض ومطالب لموسكو بشرح الأمر، إلا أن ضباط المخابرات والإدارة الأمريكية التى يخدمونها قد فاجأتهم سرعة وقوة استخدام بوتين للقوة الجوية وأيضاً قائمة الأهداف الروسية التى شملت جماعات تدعمها الولايات المتحدة، حسبما أفاد مسئولون رفضوا الكشف عن هويتهم، وقال أحدهم لرويترز إنهم رأوا بعض المؤشرات إلا أنهم لم يقدروا أهميتها.
ومع دخول الغارات الروسية على أجزاء من سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد أسبوعها الثانى، قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إنها تتوقع إجراء محادثات جديدة مع الجيش الروسى بشأن سلامة الطيارين فى الحرب هناك.
دخول روسيا أدى، بلا شك، إلى تعقيد الوضع بالنسبة للحملة الجوية التى تشنها أمريكا منذ أكثر من عام ضد تنظيم «داعش» وأجبر طائرات أمريكية على تصحيح مسارها لتفادى إسقاطها! ورغم معارضة واشنطن دعم موسكو للرئيس السورى واستبعادها التعاون مع روسيا، لكنها وافقت (مضطرة) على العمل بشأن اتخاذ إجراءات تتعلق بالسلامة الجوية. وتم تحديد الخطوط العريضة لمقترحات أمريكية خلال مؤتمر أمنى عبر «الفيديو كونفرانس» بين القوات المسلحة الأمريكية والروسية الأسبوع الماضى، قالت «مصادر أمريكية» تضمنت الإبقاء على مسافة آمنة بين الطائرات الأمريكية والروسية واستخدام ترددات لاسلكية مشتركة لنداءات الاستغاثة! وهو ما نشك فى صحته جملة وتفصيلاً، خاصة بعد إعلان «أشتون كارتر» وزير الدفاع الأمريكى وهو فى حالة حزن شديد أن طائرات روسية اقتربت حتى أصبحت على بعد أميال من طائرة أمريكية، بلا طيار، وانتقد روسيا لشنها هجمات بصواريخ كروز دون إنذار!
الأقمار الصناعية تكشف قوة الأسطول الروسى
ومن شبكة «C.N.N» عرفنا أن مسئولين بوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون، كشفوا عن صور بالأقمار الصناعية، أظهرت ملاحقة مقاتلات تابعة لسلاح الجو الروسى لطائرات بدون طيار بمهام مراقبة شمال الحدود السورية.
وأظهرت الصور أن المقاتلات الروسية لاحقت طائرة المراقبة الأمريكية إلى داخل الحدود التركية فى مناسبتين على الأقل.
ونشير هنا أيضاً إلى أن هذه الأنباء تأتى فى الوقت الذى قال فيه وزير الدفاع الأمريكى، إن روسيا شنت مهام هجومية تم تنسيقها مع قوات النظام السورى استهدفت تجمعات ومواقع ليست تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام أو ما يُعرف بـ«داعش»!
على أن الاستعراض الأكبر، حدث فى السابع من أكتوبر.. يوم أطلقت السفن الحربية الروسية فى بحر قزوين 26 صاروخاً عالى التقنية على أهداف فى سوريا تبعد 1000 ميل! وهى الصواريخ التى يسميها البنتاجون SS-N-30s، والتى لم تكن معروفة خارج روسيا قبل ذلك التاريخ! حتى المراقبون والمتابعون عن قرب للجيش الروسى، اندهشوا لرؤيتها؛ خاصة أن الهجوم الصاروخى كان مرئياً بوضوح، بل كان إعلاناً للعالم، خاصة للولايات المتحدة، بأن الأسطول الروسى الذى كان ضعيفاً ذات يوم عاد إلى قوته، وأن صواريخ بوتين باتت الآن ضمن الأسلحة الأكثر تطوراً فى العالم.
التخطيط لهذا الهجوم الصاروخى بدأ يوم 5 أكتوبر، بعد 6 أيام من قيام الطائرات الحربية الروسية بأول قصف لمواقع غرب سوريا.
ومن سيرجى شويجو، وزير الدفاع الروسى، عرفنا أن الصواريخ أصابت الأهداف الـ11 المخطط لها والتى تراوحت بين معاملَ للذخيرة والمتفجرات، مراكزَ قيادة، مخازنَ للذخيرة والأسلحة والنفط، بالإضافة إلى معسكرات تدريب الإرهابيين فى الرقة، إدلب وحلب.
وبناء عليه، كان طبيعياً أن يحتفى الجيش الروسى بالعملية عبر بيانٍ صحفى وفيديو رسمى، كما ظهر «شويجو» على التلفزيون الحكومى ليشيد ويمتدح العملية، أما الجيش الأمريكى فتابع الصواريخ بحسرة ولم يجد ما يعلنه لاحقاً، غير الزعم بأن بعضها سقط فى إيران!
وهكذا، قال مسئول بوزارة الدفاع الأمريكية لموقع دايلى بيست الأربعاء الماضى: «كانت التغطية الإعلامية كبيرةً مثلما كان التدمير الذى لحق بمواقع المعارضة»، مضيفاً أن روسيا تستعرض على مسرح عالمى أن بوسعها الوصول إلى أماكن بعيدة.
مفاجآت الصواريخ الروسية
إريك ويرتايم، المحلل العسكرى المستقل ومؤلف كتاب «الأساطيل الحربية فى العالم» اتفق أيضاً مع ما قاله المسئول الأمريكى، وقال، «أعتقد أنه استعراضٌ أمام العالم».
إن ويرتايم والمحللين العسكريين الآخرين كانوا يعرفون النسخة السابقة من هذه الصواريخ وهى SS-N-27، لكن تلك الصواريخ كانت تستخدم ضد السفن ولم تكن تستطيع التحليق أبعد من 150 ميلاً، أى ما يشكل جزءاً ضئيلاً من الألف ميل التى تقطعها الصواريخ التى تم استخدامها خلال الهجوم الأخير. والجميع فوجئوا بأن الصواريخ الجديدة لديها مدى أبعد بكثير من سابقاتها كما أنها تستطيع إصابة أهداف على الأرض، وهذا يجعلها شبيهةً إلى حد كبير بصواريخ توماهوك الأمريكية والتى يطلقها الجيش الأمريكى عادةً بأعداد كبيرة من السفن الحربية وحاملات الطائرات لتدمير الدفاع الجوى للعدو قبل البدء بحملة القصف الجوى.
دول معدودة فقط تمتلك توماهوك أو أسلحة مشابهة، الولايات المتحدة وبريطانيا، فقط، هى التى استخدمتها بنجاح فى المعارك، وهذا يعنى أن روسيا انضمت الآن إلى نادى القوى العسكرية العالمية الأكثر تميزاً، وهو ما يمثل قلقاً للولايات المتحدة، حسبما يرى «ويرتايم» الذى قال «يجب أن يفيق البنتاجون ويدرك أننا لم نعد نملك الهيمنة المطلقة من حيث القدرة العسكرية»، والمدهش أن روسيا استطاعت بناء هذه القدرة على توجيه ضربات بحرية بعيدة المدى بواسطة سفنٍ أصغر بكثير مما اعتقد الخبراء أنه ممكن.
فالأسطول البحرى الأمريكى يحمل صواريخ توماهوك على متن المدمّرات الكبيرة وحاملات الطائرات، وهذه السفن يصل طولها إلى 500 قدم، بينما السفن الروسية الجديدة الأربع التى أطلقت صواريخ SS-N-30s كانت أصغر بكثير، إذ يتراوح طولها بين 200-330 قدماً.
هذه النقطة مهمة، بل فى غاية الأهمية، لأنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتى سنة 1991، عانت صناعة السفن الروسية من فترة طويلة من التراجع الذى حاول الكرملين مؤخراً معالجته، ويبدو أن جهوده كان لها تأثير كبير على الأسطول البحرى الروسى، للدرجة التى دفعت «ديمترى جورنبرج»، الأستاذ فى مركز ديفيز للدراسات الروسية والأوروبية التابع لجامعة هارفرد، لأن يكتب فى مقال: «توجد سفنٌ جديدة معدودة فى الخدمة حالياً، وكل السفن التى تم تصنيعها فى السنوات الأخيرة صغيرة نسبياً».
غير أن قصف السابع من أكتوبر أثبت أنه حتى السفن الصغيرة التى تبنيها روسية قادرة على أن تمضى بعيداً وتسبب الكثير من الدمار، وهو الأمر الذى كانت الولايات المتحدة وبعض حلفائها المقربين فقط قادرين على القيام به. بما يعنى بمنتهى الوضوح أن ذلك الهجوم الصاروخى ساهم فى إعادة روسيا إلى موقعها كقوة عسكرية عالمية يُحسب لها ألف حساب، وأن الروس جادون جداً فى استعادة مجدهم القديم.
نهاية إمبراطورية الأكاذيب الأمريكية
وإذا كان هناك شبه إجماع أن التدخل العسكرى الروسى فى سوريا والعرض الذى استعرضه بوتين فى الأمم المتحدة، يعنى من حيث الاستراتيجية تحدّياً واضحاً للولايات المتحدة، وأن الرئيس الروسى يريد أن يقول «أنا كذلك موجود فى منطقة الشرق الأوسط»، إلا أن إدارة أوباما مجبرة على عدم التدخل فى أمور قد تجلب لها مشاكل أكثر من المنافع، بما يعنى أنها لا تنوى (ولا تستطيع) الدخول فى نزاع مع روسيا من أجل سوريا.
جريدة «واشنطن بوست» أشارت إلى أن الرئيس الأمريكى عقد اجتماعاً رفيع المستوى مع مستشارى السياسة الخارجية، مساء الخميس الماضى، وقرر عدم مواجهة روسيا فى سوريا مباشرة، ولكن أمريكا ستتبع طريقة جديدة فى مكافحة داعش، بما فيها إرسال أسلحة للمقاتلين العرب والأكراد فى سوريا بصورة مباشرة.
أوباما يزعم أن التدخل الروسى فى سوريا يعبر عن ضعف وليس عن قوة، وأعلن فى مؤتمر صحفى يوم الجمعة الماضى بأن دولتى القذافى والأسد اللتين دعمتهما روسيا فى الشرق الأوسط قد انهارتا، وهى اليوم مضطرة إلى إرسال جنودها وطائراتها لمساعدة النظام السورى لمنع سقوطه!
وطبقاً لرأى أوباما، فإن النظام الروسى سيغرق فى المستنقع السورى إذا ما استمر على هذا النهج، وقد حذَّر نظيره بوتين فى اللقاءات الثنائية من مغبة ذلك، وأشار أوباما إلى أن روسيا تكسب عداء غالبية المعارضة السورية والعالم العربى السنى بهذه السياسة. وفى خطابه أمام الأمم المتحدة أشار أوباما إلى أن أية دولة من دول العالم لم تنضمّ إلى صفّ روسيا بوتين فى أعقاب دعوته المجتمع الدولى إلى الانضمام لتحالفه الشخصى.
والحقيقة، هى أن أوباما على حق، بعض الشىء، فيما ذكره وهو يدافع عن نفسه ويقوم بالدعاية لسياساته، لأنه المسئول السياسى عن تعميق الأزمة السورية. إلا أن مجلس الأمن القومى الأمريكى، خاصة المخابرات والبنتاجون، لا يشعر بالراحة إزاء ما يمكن أن يتمخض عنه التدخل الروسى فى سوريا من مشاكل واضطرابات على المديين القريب والبعيد، بقدر أوباما الذى سيغادر منصبه فى السنة القادمة. حيث إن أولى العمليات التى نفذتها روسيا فى سوريا كانت قصف مجموعة من قوات المعارضة التى لقيت التدريب على يد المخابرات الأمريكية!
ولا شكّ فى أن أمريكا إذا ما قدمت القوات المعارضة المدربة من قبلها كلقمة سائغة لروسيا، فإنه من الممكن أن تهتزّ مكانتها ليس فى سوريا فقط بل العالم كله، وقد تقلب روسيا حسابات الناتو فى المنطقة رأساً على عقب من خلال تمركزها فى الشرق الأوسط وشرق المتوسط، بما يعنى أن الأمر فى غاية الخطورة والجدية.
كما أن هيلارى كلينتون التى ستخوض المنافسة الانتخابية على منصب الرئيس الأمريكى، تختلف من وقت لآخر فى وجهة النظر مع أوباما، زعيمها السابق. فقد أدرجت موضوع حظر الطيران فى جدول الأعمال من جديد، وهو الأمر الذى تطالب به تركيا منذ زمن بعيد!
تركيا تركع للأكراد بأوامر بوتين
فى خطابه الذى ألقاه فى الأمم المتحدة بنيويورك قال بوتين إنه يجب دعم القوات الكردية التى تُعتبر من أكثر القوى الفاعلة فى مكافحة داعش فى سوريا، وهو فى ذلك يلتقى مع وجهة نظر واشنطن، وفى مثل هذا الظرف، فإنه ليس من السهل الموافقة على اقتراح أنقرة بإنشاء 3 مدن تتسع كل منها لـ100 ألف شخص، فى المنطقة الممتدة بين بلدتى جرابلس وأعزاز فى الشمال السورى.
كما أن الغارات الجوية الأمريكية إذا ما تم تحديدها وتقييدها بسبب تحركات روسيا، فإن واشنطن ستكون فى حاجة ملحّة إلى قوة برية أى إلى الأكراد.
خلاصة القول هى أن تركيا لا يتم دفعها إلى قبول الأسد فى سوريا لمدة معينة فقط، بل يتم دفعها أيضاً إلى التحالف مع امتداد حزب العمال الكردستانى فى سوريا فى الوقت الذى تحاربه على أراضيها، وإذا كان الوضع كذلك فإنه من الصعوبة جداً الزعم بأن تركيا تعيش حالياً نصراً فى السياسة الخارجية.
وما من شك فى أن تركيا تعيش حالياً فوضى سياسية داخلية كبيرة، فى زمن يُعاد فيه تأسيس الموازين فى المنطقة بصفة عامة وفى سوريا بصفة خاصة. لذلك فإن عظام أحمد حاكان جوشكون الصحفى فى جريدة «حريت» التركية لم تكن هى الوحيدة التى تكسّرت عند الاعتداء عليه، بل إن حكومة حزب العدالة والتنمية هى التى تكسّرت بتلك الحملات الفاشية التى تهدّد سلامها الداخلى، وقد تقوّض الركائز التى قامت عليها «نهضة»: تركيا، إذا جاز اعتبار ما شهدته طوال السنوات الماضية نهضة!
العملية فى سوريا مستمرة، وبطلب رسمى من القيادة الشرعية فيها، واستناداً إلى القانون الدولى بعد انتظار من موسكو استمر أكثر من خمس سنوات، وها هى الطائرات الروسية تواصل غاراتها بالتنسيق مع الجيش السورى لتحرز فى غضون أيام على انطلاقها، وحسب مراقبين، ما لم ينجزه التحالف الدولى والعربى بقيادة واشنطن طوال أكثر من عام وهو يلاحق تنظيم «داعش» بلا جدوى تذكر على الأرض، بل تابع تفشيه سرطاناً نهش من جسد سوريا والعراق حتى الآن مساحات تفوق مساحة بريطانيا بكاملها.
ومع إعلان الرئيس الأمريكى عن إدخال تعديلات على برنامج التدريب ودعم بعض فصائل ما يصفها بـ«المعارضة السورية»، فإن تلك الخطوة الأمريكية تأتى متأخرة جداً قياساً بالدهس المستمر الذى تقوم به روسيا.
إنها خطوة أقل من خجولة، ومن الناحية العملية، تؤكد مرة جديدة التواطؤ الأمريكى مع داعش ضد سوريا وضد المنطقة بكاملها، وبإخلاء إدارة أوباما للمسرح، تكون هى التى دعت روسيا إلى ملء الفراغ، دون أن تطرح بدائل فى إطار صيغة التحالف مع أصدقائها فى المنطقة، وبالتالى فإنها جعلت حلفاءها التاريخيين معرضين لأخطار ومخاطر فادحة، وهو ما ينطبق تماماً على المملكة العربية السعودية وتركيا اللتين تمثلان الثقل الأكبر فى المنطقة. أما دويلة قطر، فلا نعتقد أن هناك وجوداً لكيان بهذا الاسم!
فهل سيكتب النجاح للعملية الجوية الروسية فى سوريا، وهل سيطفئ الزعيم الروسى بوتين نار الحرب هناك مع إطفاء شمعة ميلاده الـ63؟ هذا ما يعول عليه الكثيرون فى العالم وفى مقدمتهم السوريون رغم تحفظ واشنطن والأطراف الغربية على مآل هذه العملية، ورغم ما يأخذه الغرب على موسكو فى قرارها الذى لم تعلم به الولايات المتحدة إلا قبل ساعة واحدة على غاراتها.
اليوم يقف العالم كله على قدم واحدة ليشاهد «بوتين» وهو يعيد ترتيب المنطقة على غير هوى أمريكا.. اليوم يقف العالم غير مصدق أن «الدب» الروسى عاد من جديد بعد غياب طويل جعل أمريكا هى «شرطى العالم» وهى صاحبة الكلمة العليا فى حياة الشعوب ومصير الرؤساء.
اليوم.. وبعد ثورات وضجيج ملأ أجواء العالم كله... يعود الدب الروسى ليقول إن اللعبة الأمريكية انتهت وإن مصير الشعوب لم يعد فى قبضة البيت الأبيض ولا البنتاجون ولا أى وكالة مخابرات.
نجح بوتين فى فترة وجيزة أن يعيد روسيا وبقوة إلى مكانتها القديمة فى العالم، ولكن كيف نجح بوتين فى كل ذلك؟ هل كان بإمكانه أن يفعل ذلك دون مساندة ودعم مصر ؟! هل كان يستطيع مواجهة أمريكا وتحدى إرادتها على هذا النحو قبل ظهور الجنرال المصرى عبدالفتاح السيسى؟!
التاريخ والأحداث تؤكد أن الدب الروسى كان مريضاً ويحاول التعافى حتى جاء فجر ثورة يونيو لتبدأ مصر إعادة خريطة علاقاتها بالمحيط الدولى.
وبالعودة إلى مقال العدد الماضى حول الصورة التى جمعت بين الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى والمغرور الأمريكى أوباما، نستطيع أن نستكمل الصورة التى نراها اليوم فى سوريا.
كانت نظرات عبدالفتاح السيسى كما قلنا هى نظرات كل المصريين إلى هذا المتعجرف الأمريكى الذى لم يتعلم الدرس ولم يستوعب التحذيرات والكلمات التى وجهها «السيسى» إلى وزير الدفاع الأمريكى عام 2014 وفى أول زيارة له بعد انقطاع بدأ منذ ثورة يونيو، قال له فى رسالة واضحة لأوباما: «رئيسكم يجهل تاريخ مصر».. وكان السيسى يدرك معنى كل كلمة يوجهها إلى واشنطن.
وأثبتت الأيام أن أوباما يجهل تاريخ مصر ومكانتها وقوتها وتأثيرها، لقد ظن أن مصر لن تقوم مرة أخرى ولن تستيقظ ولن تقوى على العيش بدون البيت الأبيض!! وكان كل هذا أوهاماً يدفع ثمنها اليوم وهو يقف يشاهد بوتين يلعب «الروليت» وهى اللعبة الأشهر فى روسيا، فمن خلال طلقة واحدة يتم تحديد مصير أحد المتنافسين، فرصاصة وحيدة يتم تسديدها إلى وجه المنافس، بعد إدارة البكرة.. ثم يبدأ الضغط على الزناد. والحظ وحده هو الذى يقرر إن كانت الرصاصة ستنطلق مع الضغطة أم لا؟!
وقد انطلقت الرصاصة الروسية بقوة بفضل موقف مصر الذى بدأ منذ ثورة يونيو ومع ظهور الجنرال المصرى عبدالفتاح السيسى!
أما بوتين فكان يحلم طوال الوقت بتغيير قواعد اللعبة. وجاءته الفرصة على طبق من ذهب فى سوريا، لكنه لم يفعل ذلك دون أن يمهد الأرضية وركز جهده وتفكيره فى تشكيل تحالف الراغبين، مستغلاً وجود تحالف ضد «داعش» يقع بشار الأسد فى نقطة ارتكازه، مع تحرك إيرانى ساعده ما أسفرت عنه المحادثات بشأن ملفها النووى.
ولأن التحالف بهذا الشكل لن يُكتب له النجاح إلا بوجود حلفاء عرب، اتجه بوتين إلى مصر والأردن والإمارات ومزج العمل بمزيد من العمل، حتى تمكن من جمع الرئيس المصرى وملك الأردن وولى عهد أبوظبى للمشاركة فى عرض جوى عسكرى فى موسكو فى أغسطس الماضى. وكانت أبرز نتائجه هى سحب الأردن دعمها للمعارضة السورية التى تقاتل على الجبهة الجنوبية!
وبين النتائج أيضاً أن مصر، التى كانت حريصة كل الحرص على عدم إظهار دعمها للأسد، تعلن بمنتهى الوضوح تأييدها للتدخل الروسى.
وكان صدمة لمن اعتقدوا أنهم قادرون على تحجيم دور مصر أن يروا سامح شكرى، وزير الخارجية، يقول إن دخول مصر، بما لها من إمكانيات وقدرات، لهو شىء نرى أنه سيكون له تأثيره فى الحد من الإرهاب فى سوريا بل وفى القضاء عليه.
صدمة السعودية !
وكان غريباً أن يصدر بيان مشترك عن دول ثلاث «غير غربية» يدين الهجمات الجوية الروسية!
قطر وتركيا موقفهما معروف، ومعروف بأصابع من تتحركان. أما الصادم فكان وجود «المملكة العربية السعودية».
صحيح أن هذه هى الدول الرئيسية الداعمة لما توصف بـ«المعارضة السورية»، لكن كنا نتوقع من المملكة الشقيقة أن تراجع موقفها فى ظل ما طرأ من متغيرات، لا أن تمارس ضغوطاً على مصر والأردن والإمارات كى يكونوا بين الموقعين! خاصة مع وقوع مبارزة بين طائرة حربية روسية من طراز Su-24 وأخرى تركية من طراز F-16 داخل ما قالت أنقرة إنه المجال الجوى التركى. وهو ما علّق عليه رئيس الوزراء التركى أحمد داود أوغلو بقوله إن سلاح الجو التركى سيفعل قواعد الاشتباك العسكرية مؤكداً أنه «حتى لو كان طائر يطير بجناحيه فإنه سيجرى اعتراضه».
قد يتفهم الروس معارضة السعودية لعملياتهم ضد «داعش» على خلفية العلاقات الوثيقة للمملكة مع واشنطن، غير أن ما نعلمه ويعلمه المتابع الجيد لما تشهده المنطقة، هو أن أمريكا فقدت سيطرتها على حلفائها الذين بات كل واحد منهم يفعل ما يراه مناسباً من وجهة نظره. وقد نرجع الموقف السعودى إلى اعتقادها بأنها إن لم تتصد لحماية الأغلبية السنية فى المنطقة فإن القاعدة أو «داعش» سيفعلون ذلك!
ولا يمكن بحال من الأحوال أن ننظر إلى ذلك كله بغير الوضع فى الاعتبار «مشروع بوتين»، الذى يريد قبل أى شىء استعراض قدرات وإمكانيات الجيش الروسى عبر قيامه بدور قتالى فى المنطقة تستخدم فيه ترسانتها وتقوم فيه بـ«تجربة» ما أنتجته مصانع السلاح بها!
فضيحة المخابرات الأمريكية
هنا، لا بد لنا من وقفة مع سؤال طرحته وكالة رويترز عما إذا كانت وكالة المخابرات الأمريكية قد فوتت المؤشرات المبكرة على ما وصفته بحرب بوتين فى سوريا، أم لا؟
رويترز أشارت إلى تحقيق يجرى فى الكونجرس فى إخفاق مخابراتى محتمل، وبحسب الوكالة الأشهر للأنباء فإن عدداً من كبار نواب الكونجرس الأمريكى قد بدأوا يحققون فى الإخفاقات المخابراتية المحتملة حول تدخل موسكو فى سوريا، ويشعرون بالقلق من أن وكالة المخابرات الأمريكية كانت بطيئة فى فهم نطاق ونوايا الهجوم العسكرى الروسى، حسبما أفادت مصادر بالكونجرس ومسئولون آخرون.
لجان المخابرات بمجلسى النواب والشيوخ الأمريكيين، تريد أن تدرس مدى تغاضى مجتمع المخابرات أو إساءة تقديره للمؤشرات التحذيرية المهمة. وكانت الحلقة الأحدث فى سلسلة الإخفاقات هى إثبات وجود «بقع سوداء كبرى» سيكون الحلقة الأحدث فى سلسلة من إخفاقات المخابرات الأمريكية فى السنوات الأخيرة، والتى تشمل استيلاء موسكو على شبه جزيرة القرم العام الماضى، وتوسع الصين السريع فى أنشطة بناء الجزر فى بحر الصين الجنوبى. ويقول مسئولون أمريكيون حاليون وسابقون إنه على الرغم من أن وكالة المخابرات سعت لتكثيف جمع المعلومات المخابراتية عن روسيا منذ أزمة أوكرانيا، فإنها ظلت تعانى من عدم كفاية الموارد بسبب التركيز على مكافحة الإرهاب فى الشرق الأوسط ومنطقة أفغانستان وباكستان.
وعن مسئول رفيع المستوى بالإدارة الأمريكية طلب عدم الكشف عن هويته، نقلت رويترز: لم تكن هناك مفاجآت وأن صناع القرار كانوا مرتاحين للمعلومات المخابراتية التى تلقوها قبيل التدخل الروسى.. وتتبعت وكالة المخابرات بعناية تعزيز الرئيس الروسى استعدادات الحراك العسكرى فى سوريا فى الأسابيع الأخيرة، ما أدى إلى انتقادات من البيت الأبيض ومطالب لموسكو بشرح الأمر، إلا أن ضباط المخابرات والإدارة الأمريكية التى يخدمونها قد فاجأتهم سرعة وقوة استخدام بوتين للقوة الجوية وأيضاً قائمة الأهداف الروسية التى شملت جماعات تدعمها الولايات المتحدة، حسبما أفاد مسئولون رفضوا الكشف عن هويتهم، وقال أحدهم لرويترز إنهم رأوا بعض المؤشرات إلا أنهم لم يقدروا أهميتها.
ومع دخول الغارات الروسية على أجزاء من سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد أسبوعها الثانى، قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إنها تتوقع إجراء محادثات جديدة مع الجيش الروسى بشأن سلامة الطيارين فى الحرب هناك.
دخول روسيا أدى، بلا شك، إلى تعقيد الوضع بالنسبة للحملة الجوية التى تشنها أمريكا منذ أكثر من عام ضد تنظيم «داعش» وأجبر طائرات أمريكية على تصحيح مسارها لتفادى إسقاطها! ورغم معارضة واشنطن دعم موسكو للرئيس السورى واستبعادها التعاون مع روسيا، لكنها وافقت (مضطرة) على العمل بشأن اتخاذ إجراءات تتعلق بالسلامة الجوية. وتم تحديد الخطوط العريضة لمقترحات أمريكية خلال مؤتمر أمنى عبر «الفيديو كونفرانس» بين القوات المسلحة الأمريكية والروسية الأسبوع الماضى، قالت «مصادر أمريكية» تضمنت الإبقاء على مسافة آمنة بين الطائرات الأمريكية والروسية واستخدام ترددات لاسلكية مشتركة لنداءات الاستغاثة! وهو ما نشك فى صحته جملة وتفصيلاً، خاصة بعد إعلان «أشتون كارتر» وزير الدفاع الأمريكى وهو فى حالة حزن شديد أن طائرات روسية اقتربت حتى أصبحت على بعد أميال من طائرة أمريكية، بلا طيار، وانتقد روسيا لشنها هجمات بصواريخ كروز دون إنذار!
الأقمار الصناعية تكشف قوة الأسطول الروسى
ومن شبكة «C.N.N» عرفنا أن مسئولين بوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون، كشفوا عن صور بالأقمار الصناعية، أظهرت ملاحقة مقاتلات تابعة لسلاح الجو الروسى لطائرات بدون طيار بمهام مراقبة شمال الحدود السورية.
وأظهرت الصور أن المقاتلات الروسية لاحقت طائرة المراقبة الأمريكية إلى داخل الحدود التركية فى مناسبتين على الأقل.
ونشير هنا أيضاً إلى أن هذه الأنباء تأتى فى الوقت الذى قال فيه وزير الدفاع الأمريكى، إن روسيا شنت مهام هجومية تم تنسيقها مع قوات النظام السورى استهدفت تجمعات ومواقع ليست تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام أو ما يُعرف بـ«داعش»!
على أن الاستعراض الأكبر، حدث فى السابع من أكتوبر.. يوم أطلقت السفن الحربية الروسية فى بحر قزوين 26 صاروخاً عالى التقنية على أهداف فى سوريا تبعد 1000 ميل! وهى الصواريخ التى يسميها البنتاجون SS-N-30s، والتى لم تكن معروفة خارج روسيا قبل ذلك التاريخ! حتى المراقبون والمتابعون عن قرب للجيش الروسى، اندهشوا لرؤيتها؛ خاصة أن الهجوم الصاروخى كان مرئياً بوضوح، بل كان إعلاناً للعالم، خاصة للولايات المتحدة، بأن الأسطول الروسى الذى كان ضعيفاً ذات يوم عاد إلى قوته، وأن صواريخ بوتين باتت الآن ضمن الأسلحة الأكثر تطوراً فى العالم.
التخطيط لهذا الهجوم الصاروخى بدأ يوم 5 أكتوبر، بعد 6 أيام من قيام الطائرات الحربية الروسية بأول قصف لمواقع غرب سوريا.
ومن سيرجى شويجو، وزير الدفاع الروسى، عرفنا أن الصواريخ أصابت الأهداف الـ11 المخطط لها والتى تراوحت بين معاملَ للذخيرة والمتفجرات، مراكزَ قيادة، مخازنَ للذخيرة والأسلحة والنفط، بالإضافة إلى معسكرات تدريب الإرهابيين فى الرقة، إدلب وحلب.
وبناء عليه، كان طبيعياً أن يحتفى الجيش الروسى بالعملية عبر بيانٍ صحفى وفيديو رسمى، كما ظهر «شويجو» على التلفزيون الحكومى ليشيد ويمتدح العملية، أما الجيش الأمريكى فتابع الصواريخ بحسرة ولم يجد ما يعلنه لاحقاً، غير الزعم بأن بعضها سقط فى إيران!
وهكذا، قال مسئول بوزارة الدفاع الأمريكية لموقع دايلى بيست الأربعاء الماضى: «كانت التغطية الإعلامية كبيرةً مثلما كان التدمير الذى لحق بمواقع المعارضة»، مضيفاً أن روسيا تستعرض على مسرح عالمى أن بوسعها الوصول إلى أماكن بعيدة.
مفاجآت الصواريخ الروسية
إريك ويرتايم، المحلل العسكرى المستقل ومؤلف كتاب «الأساطيل الحربية فى العالم» اتفق أيضاً مع ما قاله المسئول الأمريكى، وقال، «أعتقد أنه استعراضٌ أمام العالم».
إن ويرتايم والمحللين العسكريين الآخرين كانوا يعرفون النسخة السابقة من هذه الصواريخ وهى SS-N-27، لكن تلك الصواريخ كانت تستخدم ضد السفن ولم تكن تستطيع التحليق أبعد من 150 ميلاً، أى ما يشكل جزءاً ضئيلاً من الألف ميل التى تقطعها الصواريخ التى تم استخدامها خلال الهجوم الأخير. والجميع فوجئوا بأن الصواريخ الجديدة لديها مدى أبعد بكثير من سابقاتها كما أنها تستطيع إصابة أهداف على الأرض، وهذا يجعلها شبيهةً إلى حد كبير بصواريخ توماهوك الأمريكية والتى يطلقها الجيش الأمريكى عادةً بأعداد كبيرة من السفن الحربية وحاملات الطائرات لتدمير الدفاع الجوى للعدو قبل البدء بحملة القصف الجوى.
دول معدودة فقط تمتلك توماهوك أو أسلحة مشابهة، الولايات المتحدة وبريطانيا، فقط، هى التى استخدمتها بنجاح فى المعارك، وهذا يعنى أن روسيا انضمت الآن إلى نادى القوى العسكرية العالمية الأكثر تميزاً، وهو ما يمثل قلقاً للولايات المتحدة، حسبما يرى «ويرتايم» الذى قال «يجب أن يفيق البنتاجون ويدرك أننا لم نعد نملك الهيمنة المطلقة من حيث القدرة العسكرية»، والمدهش أن روسيا استطاعت بناء هذه القدرة على توجيه ضربات بحرية بعيدة المدى بواسطة سفنٍ أصغر بكثير مما اعتقد الخبراء أنه ممكن.
فالأسطول البحرى الأمريكى يحمل صواريخ توماهوك على متن المدمّرات الكبيرة وحاملات الطائرات، وهذه السفن يصل طولها إلى 500 قدم، بينما السفن الروسية الجديدة الأربع التى أطلقت صواريخ SS-N-30s كانت أصغر بكثير، إذ يتراوح طولها بين 200-330 قدماً.
هذه النقطة مهمة، بل فى غاية الأهمية، لأنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتى سنة 1991، عانت صناعة السفن الروسية من فترة طويلة من التراجع الذى حاول الكرملين مؤخراً معالجته، ويبدو أن جهوده كان لها تأثير كبير على الأسطول البحرى الروسى، للدرجة التى دفعت «ديمترى جورنبرج»، الأستاذ فى مركز ديفيز للدراسات الروسية والأوروبية التابع لجامعة هارفرد، لأن يكتب فى مقال: «توجد سفنٌ جديدة معدودة فى الخدمة حالياً، وكل السفن التى تم تصنيعها فى السنوات الأخيرة صغيرة نسبياً».
غير أن قصف السابع من أكتوبر أثبت أنه حتى السفن الصغيرة التى تبنيها روسية قادرة على أن تمضى بعيداً وتسبب الكثير من الدمار، وهو الأمر الذى كانت الولايات المتحدة وبعض حلفائها المقربين فقط قادرين على القيام به. بما يعنى بمنتهى الوضوح أن ذلك الهجوم الصاروخى ساهم فى إعادة روسيا إلى موقعها كقوة عسكرية عالمية يُحسب لها ألف حساب، وأن الروس جادون جداً فى استعادة مجدهم القديم.
نهاية إمبراطورية الأكاذيب الأمريكية
وإذا كان هناك شبه إجماع أن التدخل العسكرى الروسى فى سوريا والعرض الذى استعرضه بوتين فى الأمم المتحدة، يعنى من حيث الاستراتيجية تحدّياً واضحاً للولايات المتحدة، وأن الرئيس الروسى يريد أن يقول «أنا كذلك موجود فى منطقة الشرق الأوسط»، إلا أن إدارة أوباما مجبرة على عدم التدخل فى أمور قد تجلب لها مشاكل أكثر من المنافع، بما يعنى أنها لا تنوى (ولا تستطيع) الدخول فى نزاع مع روسيا من أجل سوريا.
جريدة «واشنطن بوست» أشارت إلى أن الرئيس الأمريكى عقد اجتماعاً رفيع المستوى مع مستشارى السياسة الخارجية، مساء الخميس الماضى، وقرر عدم مواجهة روسيا فى سوريا مباشرة، ولكن أمريكا ستتبع طريقة جديدة فى مكافحة داعش، بما فيها إرسال أسلحة للمقاتلين العرب والأكراد فى سوريا بصورة مباشرة.
أوباما يزعم أن التدخل الروسى فى سوريا يعبر عن ضعف وليس عن قوة، وأعلن فى مؤتمر صحفى يوم الجمعة الماضى بأن دولتى القذافى والأسد اللتين دعمتهما روسيا فى الشرق الأوسط قد انهارتا، وهى اليوم مضطرة إلى إرسال جنودها وطائراتها لمساعدة النظام السورى لمنع سقوطه!
وطبقاً لرأى أوباما، فإن النظام الروسى سيغرق فى المستنقع السورى إذا ما استمر على هذا النهج، وقد حذَّر نظيره بوتين فى اللقاءات الثنائية من مغبة ذلك، وأشار أوباما إلى أن روسيا تكسب عداء غالبية المعارضة السورية والعالم العربى السنى بهذه السياسة. وفى خطابه أمام الأمم المتحدة أشار أوباما إلى أن أية دولة من دول العالم لم تنضمّ إلى صفّ روسيا بوتين فى أعقاب دعوته المجتمع الدولى إلى الانضمام لتحالفه الشخصى.
والحقيقة، هى أن أوباما على حق، بعض الشىء، فيما ذكره وهو يدافع عن نفسه ويقوم بالدعاية لسياساته، لأنه المسئول السياسى عن تعميق الأزمة السورية. إلا أن مجلس الأمن القومى الأمريكى، خاصة المخابرات والبنتاجون، لا يشعر بالراحة إزاء ما يمكن أن يتمخض عنه التدخل الروسى فى سوريا من مشاكل واضطرابات على المديين القريب والبعيد، بقدر أوباما الذى سيغادر منصبه فى السنة القادمة. حيث إن أولى العمليات التى نفذتها روسيا فى سوريا كانت قصف مجموعة من قوات المعارضة التى لقيت التدريب على يد المخابرات الأمريكية!
ولا شكّ فى أن أمريكا إذا ما قدمت القوات المعارضة المدربة من قبلها كلقمة سائغة لروسيا، فإنه من الممكن أن تهتزّ مكانتها ليس فى سوريا فقط بل العالم كله، وقد تقلب روسيا حسابات الناتو فى المنطقة رأساً على عقب من خلال تمركزها فى الشرق الأوسط وشرق المتوسط، بما يعنى أن الأمر فى غاية الخطورة والجدية.
كما أن هيلارى كلينتون التى ستخوض المنافسة الانتخابية على منصب الرئيس الأمريكى، تختلف من وقت لآخر فى وجهة النظر مع أوباما، زعيمها السابق. فقد أدرجت موضوع حظر الطيران فى جدول الأعمال من جديد، وهو الأمر الذى تطالب به تركيا منذ زمن بعيد!
تركيا تركع للأكراد بأوامر بوتين
فى خطابه الذى ألقاه فى الأمم المتحدة بنيويورك قال بوتين إنه يجب دعم القوات الكردية التى تُعتبر من أكثر القوى الفاعلة فى مكافحة داعش فى سوريا، وهو فى ذلك يلتقى مع وجهة نظر واشنطن، وفى مثل هذا الظرف، فإنه ليس من السهل الموافقة على اقتراح أنقرة بإنشاء 3 مدن تتسع كل منها لـ100 ألف شخص، فى المنطقة الممتدة بين بلدتى جرابلس وأعزاز فى الشمال السورى.
كما أن الغارات الجوية الأمريكية إذا ما تم تحديدها وتقييدها بسبب تحركات روسيا، فإن واشنطن ستكون فى حاجة ملحّة إلى قوة برية أى إلى الأكراد.
خلاصة القول هى أن تركيا لا يتم دفعها إلى قبول الأسد فى سوريا لمدة معينة فقط، بل يتم دفعها أيضاً إلى التحالف مع امتداد حزب العمال الكردستانى فى سوريا فى الوقت الذى تحاربه على أراضيها، وإذا كان الوضع كذلك فإنه من الصعوبة جداً الزعم بأن تركيا تعيش حالياً نصراً فى السياسة الخارجية.
وما من شك فى أن تركيا تعيش حالياً فوضى سياسية داخلية كبيرة، فى زمن يُعاد فيه تأسيس الموازين فى المنطقة بصفة عامة وفى سوريا بصفة خاصة. لذلك فإن عظام أحمد حاكان جوشكون الصحفى فى جريدة «حريت» التركية لم تكن هى الوحيدة التى تكسّرت عند الاعتداء عليه، بل إن حكومة حزب العدالة والتنمية هى التى تكسّرت بتلك الحملات الفاشية التى تهدّد سلامها الداخلى، وقد تقوّض الركائز التى قامت عليها «نهضة»: تركيا، إذا جاز اعتبار ما شهدته طوال السنوات الماضية نهضة!
العملية فى سوريا مستمرة، وبطلب رسمى من القيادة الشرعية فيها، واستناداً إلى القانون الدولى بعد انتظار من موسكو استمر أكثر من خمس سنوات، وها هى الطائرات الروسية تواصل غاراتها بالتنسيق مع الجيش السورى لتحرز فى غضون أيام على انطلاقها، وحسب مراقبين، ما لم ينجزه التحالف الدولى والعربى بقيادة واشنطن طوال أكثر من عام وهو يلاحق تنظيم «داعش» بلا جدوى تذكر على الأرض، بل تابع تفشيه سرطاناً نهش من جسد سوريا والعراق حتى الآن مساحات تفوق مساحة بريطانيا بكاملها.
ومع إعلان الرئيس الأمريكى عن إدخال تعديلات على برنامج التدريب ودعم بعض فصائل ما يصفها بـ«المعارضة السورية»، فإن تلك الخطوة الأمريكية تأتى متأخرة جداً قياساً بالدهس المستمر الذى تقوم به روسيا.
إنها خطوة أقل من خجولة، ومن الناحية العملية، تؤكد مرة جديدة التواطؤ الأمريكى مع داعش ضد سوريا وضد المنطقة بكاملها، وبإخلاء إدارة أوباما للمسرح، تكون هى التى دعت روسيا إلى ملء الفراغ، دون أن تطرح بدائل فى إطار صيغة التحالف مع أصدقائها فى المنطقة، وبالتالى فإنها جعلت حلفاءها التاريخيين معرضين لأخطار ومخاطر فادحة، وهو ما ينطبق تماماً على المملكة العربية السعودية وتركيا اللتين تمثلان الثقل الأكبر فى المنطقة. أما دويلة قطر، فلا نعتقد أن هناك وجوداً لكيان بهذا الاسم!
فهل سيكتب النجاح للعملية الجوية الروسية فى سوريا، وهل سيطفئ الزعيم الروسى بوتين نار الحرب هناك مع إطفاء شمعة ميلاده الـ63؟ هذا ما يعول عليه الكثيرون فى العالم وفى مقدمتهم السوريون رغم تحفظ واشنطن والأطراف الغربية على مآل هذه العملية، ورغم ما يأخذه الغرب على موسكو فى قرارها الذى لم تعلم به الولايات المتحدة إلا قبل ساعة واحدة على غاراتها.