ياسر بركات يكتب عن: الجنرالات يعلنون التمرد على أردوغان
الجيش التركى يرفض طرد 1200 ضابط متهمين بالانتماء لجماعة فتح الله كولن
- التعيينات الجديدة تثير حفيظة العسكريين.. وتحذير من انقلاب دموى وشيك
- تركيا بين الانقلاب الخامس.. والمصير المجهول
قرار أردوغان بالسماح أخيراً للولايات المتحدة بشن ضربات جوية ضد تنظيم «داعش» من القاعدة العسكرية التركية فى إنجرليك، وتجديد تركيا ضرباتها الجوية ضد الأكراد، قد يدمر الديمقراطية التركية، قبل أن يدمر تركيا نفسها، إن لم تتمكن سريعاً من التخلص من أردوغان وحزبه الذى بدلاً من قبول هزيمته فى الانتخابات التشريعية الأخيرة، والسماح بتشكيل حكومة ائتلافية، تجاهل التصويت.. وبدا أقرب إلى إجراء انتخابات جديدة يحاول من خلالها دفع حزب «الشعب الديمقراطى» الكردى خارج حلبة السباق.. وإذا نجح أردوغان فى استخدام الصراع الكردى المتجدد، لتأمين سلطاته الرئاسية، فإنه سيكون من الصعب أن يحافظ على تركيا نفسها. بحسب ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا اتفقتا على إنشاء «منطقة آمنة» فى سوريا، خالية من تنظيم يسيطر عليها المتمردون السوريون!!.. متجاهلين حقيقة أن ذلك يمثل وبوضوح انتهاكاً كبيراً لسيادة الدولة السورية. ومعروف أن تركيا ساعدت داعش أو دعمته بأكثر من شكل! وفى نوفمبر 2014، أجرت مجلة نيوزويك مقابلة مع عضو سابق فى تنظيم داعش قال فيها إنه «سافر فى قافلة من الشاحنات كجزء من وحدة تابعة لتنظيم الدولة من معقله فى الرقة، عبر الحدود التركية، والعودة عبر الحدود لمهاجمة الأكراد السوريين فى مدينة سيريكانى فى شمال سوريا فى شهر فبراير».. وأضاف أن القادة والمقاتلين الآخرين أبلغوه أنه ليس هناك ما يخشونه «نظراً للتعاون الكامل مع الأتراك».. وفى الشهر التالى أشارت كلوديا روث، نائب رئيس البرلمان الألمانى، إلى أن الحكومة التركية كانت تمد يد العون لتنظيم داعش!! تقرير الـ«نيويورك تايمز» ذكر أيضاً أن «المسئولين الأمريكيين قالوا إنهم بحاجة لترتيب الأجواء والأوضاع للقيام بغارات جوية ناجحة، على غرار ما قامت به العمليات الأمريكية الخاصة مع المقاتلين الأكراد فى شرق سوريا»، كما هو الحال فى ليبيا، حيث كانت القوات الأمريكية على الأرض تساعد الثوار الليبيين. بالإضافة إلى ذلك، أشار التقرير إلى أن «المسلحين، وكذلك مؤيديهم فى المعارضة السورية والحكومة التركية، ينظرون بالفعل إلى الخطة كخطوة نحو إنشاء منطقة حكم بديلة من دون الخوف من هجمات من قبل تنظيم الدولة أو القوات الحكومية». وهو ما يعنى أن فكرة «المنطقة الآمنة» يمكن أن تستخدم بالفعل كمنصة انطلاق لتعزيز قوات الحكومة المناهضة لسوريا والسماح لهم بتنسيق الهجمات. يسمح ذلك للولايات المتحدة بمواصلة وضع المزيد من الضغوط على الحكومة السورية، فى حين يعطى الأتراك حرية الحكم بالنسبة للجزء الأكبر والسماح لهم بمعرفة أن واشنطن سوف تغض الطرف عن قصف الأكراد.. يمنح ذلك الولايات المتحدة خيار تحول الوضع إلى ليبيا أخرى، فى حين أنها لن تكون بحاجة للانخراط مباشرة فى أية إجراءات جانبية من القوات الخاصة والضربات الجوية. يتزامن ذلك مع رفض الجيش التركى تنفيذ طلب قدمته حكومة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، بدعم من الرئيس رجب طيب أردوغان، لطرد 1200 ضابط متهمين بالانتماء إلى جماعة فتح الله كولن، باعتبار أن هذا الإجراء قد يحدث بلبلة فى صفوفه فى حال عدم إظهار دليل على انتماء هذه الأسماء فعلاً إلى الجماعة. عصمت يلماز، وزير الدفاع التركى، كان قد أقر من قبل بوجود عملية تطهير داخل الجيش مرتبطة بجماعة كولن وتشمل حوالى ألف عسكرى، لكن مصادر عسكرية أكدت اعتراض جنرالات على لوائح الأسماء التى قدمتها الاستخبارات العامة وليس القضاء، وافتقادها أدلة قوية على الاتهامات. وأشارت المصادر إلى أن ثلث أسماء العسكريين على الأقل «لا علاقة لها بالجماعة على الأرجح، ما قد يُغضب رفاقهم، خصوصاً أن بينهم ضابطين برتبة جنرال». يتزامن ذلك أيضا مع إعلان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية فى تركيا إبراهيم كالين أن الرئيس رجب طيب أردوغان قام بالتصديق على الترقيات والتعيينات الجديدة فى صفوف الجيش التركى. وكان مجلس الشورى العسكرى التركى الأعلى اختتم أعمال اجتماعه التى انطلقت الاثنين الماضى برئاسة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو ومشاركة كبار القادة العسكريين ووزير الدفاع وتم تحديد التعيينات والترقيات الجديدة فى القوات المسلحة التركية، بتعيين خلوصى أكار قائد القوات البرية رئيساً للأركان العامة للجيش التركى خلفاً للجنرال نجدت أوزيل، وتعيين صالح زكى تشولاق لقيادة القوات البرية. كما تم تعيين الجنرال أكين أوزتُرك قائد القوات الجوية عضواً فى مجلس الشورى العسكرى وتعيين عابدين أونال قائداً للقوات الجوية. وتم تعيين الجنرال غالب مندى قائد جيش إيجه فى منصب قائد قوات الدرك بدلاً عن عبدالله أطاى الذى تقاعد. فيما تم تمديد فترة مهام بولنت بوستان أوغلو قائد القوات البحرية لمدة عام. وعُيّن أوميت جوندير لقيادة الجيش الأول، وعبدالله رجب لقيادة جيش إيجه.. وفى قيادة الجيش الثالث عُين الفريق إسماعيل سردار صواش. **************** سحق المعارضة وتأديب الأحزاب صفقة أردوغان مع الأمريكيين لها ثلاثة أهداف رئيسية، ليس بينها هزيمة «داعش»! الهدف الأول لأردوغان هو سحق حزب العمال الكردستانى PKK، وهى الجماعة الكردية المتمردة التى أعلنت واشنطن – ضمن دول أخرى- أنها جماعة إرهابية. ولتحقيق هذا الهدف، أمر أردوغان بضربات جوية جديدة ضد الجماعة الكردية فى العراق، وهو الأمر الذى سُيضعف بالتأكيد الميليشيات الكردية السورية وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستانى «قوات حماية الشعب» YPG. أما هدف أردوغان الثانى فهو إزاحة الرئيس السورى بشار الأسد، ورغم أنه كان يتودد له فى البداية، لكن وبسبب ما رآه الرئيس التركى من أن الأسد قد كذب عليه كثيراً فى بداية الحرب الأهلية السورية بشأن القيام بإصلاحات سياسية فى سوريا، وبعد شعوره بالإهانة تحول أردوغان ضد الرئيس السورى وقرر أن يدمره منذ ذلك الحين. لكن هدف أردوغان الثالث والأهم هو تقويض حزب الشعب الديمقراطى الكردى HDP، والذى نجح فى حصد 10% من الأصوات فى الانتخابات البرلمانية التركية التى أُقيمت مؤخراً. وهو الأمر الذى منع حزب أردوغان –العدالة والتنمية- من الاستحواذ على الأغلبية فى البرلمان.. وقد نتج عن ذلك إحباط طموح أردوغان المستلهم من فرنسا- ديجول بتحوله لرئيس بصلاحيات كاملة. ويترقب أردوغان الآن فشل المفاوضات بين الأحزاب لتكوين تحالف ذى أغلبية يستطيع من خلالها تشكيل الوزارة، وإذا وقع ذلك الفشل فسينتج على أثره إعادة الانتخابات من جديد، وحينها سيكون حزب الشعب الديمقراطى قد فقد مصداقيته بسبب صلته بحزب العمال الكردستانى، ما سيترتب عليه فشله فى تخطى العتبة الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان والمُقدرة بنحو 10% من المقاعد.. ما سيُمكن حزب العدالة والتنمية من استعادة قوته وسيطرته، وحينها فقط يستطيع أردوغان مواصلة سعيه للوصول لحلمه برئاسة ذات صلاحيات كاملة. حزب العمال الكردستانى، فى المقابل، قتل اثنين من الشرطة التركية على ما يبدو احتجاجاً على الفشل التركى المزعوم لحماية الأكراد.. فيما بعد، قصفت أنقرة أهدافاً لتنظيم الدولة فى الداخل السورى وكذا أهدافاً لحزب العمال الكردستانى فى شمال العراق واعتقلت المئات من المشتبه فيهم من المتشددين والمتعاطفين مع حزب العمال الكردستانى فى تركيا، يتمركز البعض منهم فى بعض الوجهات السياحية. فى الوقت نفسه، داخل حدودها، تحمل تركيا عبئاً إنسانياً واقتصادياً غير متناسب بشكل كبير، ولدته أسوأ أزمة للاجئين يحياها هذا الجيل. غالباً ما يطلق على تركيا الجسر الذى يربط بين الشرق والغرب، ولكن بالنسبة لمليون سورى تم منحهم حق اللجوء من تركيا، فإن تركيا هى جسر إلى العدم. ورغم أن تركيا تعكف على بناء أماكن لإيواء اللاجئين السوريين، فإن جيرانها الأوروبيين يبنون الحواجز على حدودهم ويخططون للقيام بعمل عسكرى فى البحر. ثمة تقارير تتحدث عن اعتزام بعض الدول الأوربية تفجير قوارب الصيد التى قد تنقل اللاجئين عبر البحر الأبيض المتوسط، وهى فكرة أدانها قادة الأمم المتحدة والصليب الأحمر والفاتيكان. الحكومات الأوروبية، وفقاً لمنظمة العفو الدولية، تعهدت بإيواء ما يقرب من 40 ألف لاجئ سورى فقط، 30 ألفاً منهم فى ألمانيا وحدها. يأتى هذا فى الوقت الذى أنفقت فيه الحكومة التركية 7 مليارات دولار حتى الآن لإيواء اللاجئين. بينما لم تتجاوز قيمة المبالغ المالية التى تلقتها أنقرة من المجتمع الدولى كمساعدات للاجئين 400 مليون دولار.. وقد أنشأت تركيا 25 مخيماً للاجئين لإيواء 260 ألف لاجئ سورى. هذا بالإضافة إلى السماح لمليون ونصف لاجئ سورى بالوجود والعيش خارج الملاجئ فى تركيا. ومن المتوقع أن يصل العدد الإجمالى للاجئين فى تركيا وحدها إلى 2.5 مليون شخص بحلول نهاية العام. ومن شأن ذلك كله أن يدفع الأتراك إلى الثورة لأن استضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين يمثل عبئاً اقتصادياً جائراً وقنبلة اجتماعية موقوتة، ويمثل أيضا خطراً على الاستقرار فى دولة كان شعبها يحلم بالازدهار وأفاق على كابوس تحولت فيه بلدهم إلى مركز عالمى للإرهاب!! وكانت المفاجأة التى كشفتها جريدة «زمان» التركية، هى رفض الجيش التركى الإقدام على أى خطوات بخصوص التدخل العسكرى فى سوريا. وأوضحت الجريدة التركية أن الحكومة أرسلت تعليمات خطية لرئاسة هيئة الأركان العامة للجيش التركى، لشن عملية عسكرية للدخول إلى سوريا، ولكن الجيش التركى أعرب عن إصراره على عدم التدخل بعملية قد تسفر عن مخاطر كبيرة للغاية. ونقلاً عن مصادر مقربة من رئاسة الأركان العامة للجيش التركى، أوضحت الجريدة التركية أن القوات المسلحة التركية مستعدة للقيام بالدور الذى يقع على عاتقها فى مواجهة تنظيم «داعش»، وحزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى، اللذين تدور بينهما اشتباكات طاحنة على الحدود التركية، لافتين إلى أنهم سيواصلون تحذيراتهم بشأن هذا الأمر بأبعاده المختلفة بدءاً من القانون الدولى وحتى الأحداث التى قد تقع داخل البلاد. وأوضحت الجريدة التركية أنه يتردد فى أنقرة أن كل من الجهات الأمنية ووزارة الخارجية التركية لا يثقان فى حزب العدالة والتنمية بالنسبة لموضوع سوريا، مشيرين إلى تصريحات رئيس الوزراء، أحمد داود أوغلو، التى أضاف فيها من قبل صفة «الشرعية» على تنظيم «داعش»، مضيفين أن مخططات أردوغان وحكومة العدالة والتنمية لدخول سوريا، السبب الحقيقى وراءها هو خوف أردوغان من المساءلة إن فقد السلطة، خاصة فى ظل الإخفاق الكبير الذى واجهه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة. **************** الانقلاب الخامس.. يقترب! هل تنتظر تركيا انقلاباً خامساً يقوم به عسكريون؟! أم أن الأمور فى قبضة أردوغان وتحت سيطرة حزبه؟! وأنها ستحبط أى محاولة انقلاب يفكر بها عسكريون أو غيرهم؟ هذا الجيش، الجيش التركى كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى مجمل الأحداث التى جرت بعد تأسيس الجمهورية، وتدخل بشكل مباشر من خلال أربعة انقلابات عسكرية خلال أقل من 40 عاماً، لتغيير حكومات مدنية منتخبة لأسباب مختلفة فى مقدمتها حماية النظام العلمانى، كان أول هذه الانقلابات عام 1960 وآخرها عام 1997، وفيما كان الأول دموياً جاء الأخير نظرياً اكتفى بالتلويح بالقوة. أول الانقلابات وأكثرها دموية جرى فى 27 من مايو 1960 عندما أطاح الجيش بحكومة عدنان مندريس بعدما وجهت له اتهامات بالسماح للقوى الدينية بالعمل بحرية، كانت الحكومات العلمانية السابقة قد منعتها تماماً، ورغم أن مندريس لم يكن بالأصل إسلامياً فإن مجرد محاولته تخطى شكل العلمانية الذى شرعه أتاتورك كان كفيلاً بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه بتهم غير جدية. ولعلنا نتذكر أن واشنطن لم تتدخل لإنقاذ مندريس رغم أنه كان قريباً منها وقدم لها وللغرب خدمات جليلة، حيث تحولت تركيا فى عهده إلى مخفر متقدم وإستراتيجى للحلف الأطلسى ضد الاتحاد السوفيتى والمد القومى العربى بقيادة الرئيس المصرى جمال عبدالناصر. وجاء الانقلاب الثانى فى مارس 1971، وهذه المرة لحماية الحسابات الأمريكية حيث كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوى اليسارية التى تصدت لها القوى اليمينية (الإسلامية والقومية) بدعم من الدولة المدعومة من واشنطن التى كانت تتخوف أن يتحول التيار اليسارى إلى قوة جدية فى الشارع التركى، خاصة بعد أن قام اليساريون الذين تدربوا فى مخيمات المنظمات الفلسطينية فى لبنان بعمليات مسلحة استهدفت القواعد الأمريكية والعاملين فيها وقتلوا القنصل الإسرائيلى فى إسطنبول. وحدث الانقلاب الثالث فى سبتمبر 1980 وسط ظروف داخلية مماثلة لكن هذه المرة بأبعاد إقليمية، حيث كانت تركيا تعيش ظروف التمرد الكردى فى جنوب البلاد بالإضافة إلى صعود القوى اليسارية، فى وقت شهد إقليمياً تداعيات الثورة الإيرانية واندلاع الحرب العراقية-الإيرانية والاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وكان كل ذلك يجرى فى غمرة الحديث عن نظرية الحزام الأخضر لبريجنسكى ضد الاتحاد السوفيتى. كانت تركيا من أهم عناصر هذا الحزام الذى استهدف إحاطة جنوب الاتحاد السوفيتى بطوق من الدول ذات صبغة إسلامية، حيث كان لانقلاب 1980 الذى أعلنت عنه واشنطن حتى قبل السماع عنه فى أنقرة تأثير مهم وكبير فى مجمل المعطيات السياسية حيث حكم قائد الانقلاب كنعان أيفرين البلاد لمدة سبع سنوات رئيساً للجمهورية بعد أن صاغ دستوراً غريباً وعجيباً مازال الأتراك يعانون منه رغم تغيير العديد من بنوده ومواده باستثناء تلك التى تعترف لقادة الانقلاب بحصانة دستورية إلى الأبد. وقد فشل جميع رؤساء الوزراء الذين حكموا البلاد بعد ذلك العام بمن فيهم الذين استهدفهم الانقلاب العسكرى المذكور ومنهم سليمان ديميريل وبولنت أجاويد ونجم الدين أربكان من تغيير هذه المواد والمواد الأخرى المناقضة للديمقراطية وهو ما يؤكد «حالة الخوف النفسى» التى يعانى منها السياسيون الأتراك من جنرالات الجيش. أما الانقلاب الرابع فجرى فى فبراير 1997 وكان انقلاباً «نظرياً» اكتفى فيه الجيش بإخراج الدبابات إلى الشوارع فى أنقرة ليضطر رئيس الوزراء نجم الدين أربكان إلى الاستقالة، قبل أن يصل الجيش إلى مقر رئاسة الحكومة. وبرزت فى هذا الانقلاب حدة الصراع العلمانى الإسلامى الذى دفع إلى تدخل الجيش مرة أخرى للسبب ذاته، ولاسيما أن أربكان قام خلال العام الذى تولى فيه رئاسة الحكومة بإجراءات لم يخف فيها رغبته بتغيير معالم أساسية فى النظام العلمانى التركى الذى يؤكد الجنرالات أنهم أصحابه وحماته باسم الأمة التركية وإلى الأبد. بقيت ظلال الجيش فى السلطة حتى نهاية التسعينيات بسبب الدستور الذى صاغه قائد انقلاب عام 1980الجنرال كنعان أيفرين، حتى بدأ الحديث عن ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى فى قمة هلسنكى نهاية عام 1998. فتح هذا الأمر صفحة جديدة فى التاريخ السياسى التركى بعيداً عن تأثير جنرالات الجيش الذين كان عليهم أن يبتعدوا عن الساحة السياسية حسب المعطيات الأمريكية والأوروبية الجديدة التى لم تعد ترى فى روسيا واليونان وسوريا وإيران والعراق خطراً على الحسابات الغربية التى طالما كان لتركيا دور مهم فيها بجيشها الكبير. وفى عهد حكومة أردوغان انحسرت نسبياً صلاحيات الجيش ومجلس الأمن القومى الذى تقلص فيه وجود العسكريين، وبدأت حملة تقليم أظافر الجيش فى التعديلات الدستورية والقانونية التى استهدفت سلطات وصلاحيات الجيش فى الحياة السياسية، حيث نجحت حكومة أجاويد ومن بعدها حكومة أردوغان فى تمرير هذه الإصلاحات بفضل سيطرتهم على قائد الجيش السابق حلمى أوزكوك. كما استغلت حكومة أردوغان ذلك فحسمت مجمل التعديلات التى وضعت حداً نهائياً لدور الجيش فى الحياة السياسية بعد أن أصبح عدد أعضاء مجلس الأمن القومى 9 مدنيين مقابل 5 من العسكريين بعد أن كان عدد المدنيين 4 منذ تأسيس المجلس قبل 70 عاماً تقريباً، كما أن قرارات المجلس لم تعد ملزمة للحكومات كما كانت فى السابق، حيث أصبح الأمين العام للمجلس مدنياً ويتبع لرئيس الوزراء بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب لمدة 70 عاماً وبالعلاقة المباشرة مع رئاسة الأركان التى لم تعد تملك أى صلاحيات فى نشاط المجلس الذى أصبح يجتمع مرة كل شهرين بدلاً من مرة فى الشهر. كما وضعت التعديلات الدستورية الأخيرة تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية بعد أن تخلت القوى التقليدية عن موقفها الداعم للجيش وفى مقدمتها رجال الأعمال الكبار ووسائل إعلامهم الرئيسية! فوق كل الأسباب التى تجعل انهيار تركيا وشيكاً، هناك أيضا وقائع الفساد والرشوة التى لم تشهد تركيا مثيلاً لها طوال تاريخها والتى طالت أردوغان ووزراء فى حكومته وأولادهم وهى القضايا التى بدأت تتكشف بعد حملة اعتقالات طالت عشرات الأشخاص، من بينهم أبناء بعض الوزراء ورجال أعمال مقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية يومى 17 و25 من ديسمبر 2013. مع انتشار تسجيلات صوتية للعديد من المسئولين رفيعى المستوى، وفى مقدمتهم رئيس الوزراء السابق رئيس الجمهورية الحالى رجب طيب أردوغان، ونجله بلال، حول تورطهم فى فضيحة الفساد والرشوة. انقلاب يقوم به الجيش، أم تواجه تركيا مصيرها المحتوم الذى قادها إليه أردوغان؟! هذا هو السؤال الأصعب الذى ينتظر الأتراك ونحن معهم الإجابة عنه.
- التعيينات الجديدة تثير حفيظة العسكريين.. وتحذير من انقلاب دموى وشيك
- تركيا بين الانقلاب الخامس.. والمصير المجهول
قرار أردوغان بالسماح أخيراً للولايات المتحدة بشن ضربات جوية ضد تنظيم «داعش» من القاعدة العسكرية التركية فى إنجرليك، وتجديد تركيا ضرباتها الجوية ضد الأكراد، قد يدمر الديمقراطية التركية، قبل أن يدمر تركيا نفسها، إن لم تتمكن سريعاً من التخلص من أردوغان وحزبه الذى بدلاً من قبول هزيمته فى الانتخابات التشريعية الأخيرة، والسماح بتشكيل حكومة ائتلافية، تجاهل التصويت.. وبدا أقرب إلى إجراء انتخابات جديدة يحاول من خلالها دفع حزب «الشعب الديمقراطى» الكردى خارج حلبة السباق.. وإذا نجح أردوغان فى استخدام الصراع الكردى المتجدد، لتأمين سلطاته الرئاسية، فإنه سيكون من الصعب أن يحافظ على تركيا نفسها. بحسب ما نشرته صحيفة «نيويورك تايمز»، فإن الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا اتفقتا على إنشاء «منطقة آمنة» فى سوريا، خالية من تنظيم يسيطر عليها المتمردون السوريون!!.. متجاهلين حقيقة أن ذلك يمثل وبوضوح انتهاكاً كبيراً لسيادة الدولة السورية. ومعروف أن تركيا ساعدت داعش أو دعمته بأكثر من شكل! وفى نوفمبر 2014، أجرت مجلة نيوزويك مقابلة مع عضو سابق فى تنظيم داعش قال فيها إنه «سافر فى قافلة من الشاحنات كجزء من وحدة تابعة لتنظيم الدولة من معقله فى الرقة، عبر الحدود التركية، والعودة عبر الحدود لمهاجمة الأكراد السوريين فى مدينة سيريكانى فى شمال سوريا فى شهر فبراير».. وأضاف أن القادة والمقاتلين الآخرين أبلغوه أنه ليس هناك ما يخشونه «نظراً للتعاون الكامل مع الأتراك».. وفى الشهر التالى أشارت كلوديا روث، نائب رئيس البرلمان الألمانى، إلى أن الحكومة التركية كانت تمد يد العون لتنظيم داعش!! تقرير الـ«نيويورك تايمز» ذكر أيضاً أن «المسئولين الأمريكيين قالوا إنهم بحاجة لترتيب الأجواء والأوضاع للقيام بغارات جوية ناجحة، على غرار ما قامت به العمليات الأمريكية الخاصة مع المقاتلين الأكراد فى شرق سوريا»، كما هو الحال فى ليبيا، حيث كانت القوات الأمريكية على الأرض تساعد الثوار الليبيين. بالإضافة إلى ذلك، أشار التقرير إلى أن «المسلحين، وكذلك مؤيديهم فى المعارضة السورية والحكومة التركية، ينظرون بالفعل إلى الخطة كخطوة نحو إنشاء منطقة حكم بديلة من دون الخوف من هجمات من قبل تنظيم الدولة أو القوات الحكومية». وهو ما يعنى أن فكرة «المنطقة الآمنة» يمكن أن تستخدم بالفعل كمنصة انطلاق لتعزيز قوات الحكومة المناهضة لسوريا والسماح لهم بتنسيق الهجمات. يسمح ذلك للولايات المتحدة بمواصلة وضع المزيد من الضغوط على الحكومة السورية، فى حين يعطى الأتراك حرية الحكم بالنسبة للجزء الأكبر والسماح لهم بمعرفة أن واشنطن سوف تغض الطرف عن قصف الأكراد.. يمنح ذلك الولايات المتحدة خيار تحول الوضع إلى ليبيا أخرى، فى حين أنها لن تكون بحاجة للانخراط مباشرة فى أية إجراءات جانبية من القوات الخاصة والضربات الجوية. يتزامن ذلك مع رفض الجيش التركى تنفيذ طلب قدمته حكومة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، بدعم من الرئيس رجب طيب أردوغان، لطرد 1200 ضابط متهمين بالانتماء إلى جماعة فتح الله كولن، باعتبار أن هذا الإجراء قد يحدث بلبلة فى صفوفه فى حال عدم إظهار دليل على انتماء هذه الأسماء فعلاً إلى الجماعة. عصمت يلماز، وزير الدفاع التركى، كان قد أقر من قبل بوجود عملية تطهير داخل الجيش مرتبطة بجماعة كولن وتشمل حوالى ألف عسكرى، لكن مصادر عسكرية أكدت اعتراض جنرالات على لوائح الأسماء التى قدمتها الاستخبارات العامة وليس القضاء، وافتقادها أدلة قوية على الاتهامات. وأشارت المصادر إلى أن ثلث أسماء العسكريين على الأقل «لا علاقة لها بالجماعة على الأرجح، ما قد يُغضب رفاقهم، خصوصاً أن بينهم ضابطين برتبة جنرال». يتزامن ذلك أيضا مع إعلان المتحدث باسم رئاسة الجمهورية فى تركيا إبراهيم كالين أن الرئيس رجب طيب أردوغان قام بالتصديق على الترقيات والتعيينات الجديدة فى صفوف الجيش التركى. وكان مجلس الشورى العسكرى التركى الأعلى اختتم أعمال اجتماعه التى انطلقت الاثنين الماضى برئاسة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو ومشاركة كبار القادة العسكريين ووزير الدفاع وتم تحديد التعيينات والترقيات الجديدة فى القوات المسلحة التركية، بتعيين خلوصى أكار قائد القوات البرية رئيساً للأركان العامة للجيش التركى خلفاً للجنرال نجدت أوزيل، وتعيين صالح زكى تشولاق لقيادة القوات البرية. كما تم تعيين الجنرال أكين أوزتُرك قائد القوات الجوية عضواً فى مجلس الشورى العسكرى وتعيين عابدين أونال قائداً للقوات الجوية. وتم تعيين الجنرال غالب مندى قائد جيش إيجه فى منصب قائد قوات الدرك بدلاً عن عبدالله أطاى الذى تقاعد. فيما تم تمديد فترة مهام بولنت بوستان أوغلو قائد القوات البحرية لمدة عام. وعُيّن أوميت جوندير لقيادة الجيش الأول، وعبدالله رجب لقيادة جيش إيجه.. وفى قيادة الجيش الثالث عُين الفريق إسماعيل سردار صواش. **************** سحق المعارضة وتأديب الأحزاب صفقة أردوغان مع الأمريكيين لها ثلاثة أهداف رئيسية، ليس بينها هزيمة «داعش»! الهدف الأول لأردوغان هو سحق حزب العمال الكردستانى PKK، وهى الجماعة الكردية المتمردة التى أعلنت واشنطن – ضمن دول أخرى- أنها جماعة إرهابية. ولتحقيق هذا الهدف، أمر أردوغان بضربات جوية جديدة ضد الجماعة الكردية فى العراق، وهو الأمر الذى سُيضعف بالتأكيد الميليشيات الكردية السورية وثيقة الصلة بحزب العمال الكردستانى «قوات حماية الشعب» YPG. أما هدف أردوغان الثانى فهو إزاحة الرئيس السورى بشار الأسد، ورغم أنه كان يتودد له فى البداية، لكن وبسبب ما رآه الرئيس التركى من أن الأسد قد كذب عليه كثيراً فى بداية الحرب الأهلية السورية بشأن القيام بإصلاحات سياسية فى سوريا، وبعد شعوره بالإهانة تحول أردوغان ضد الرئيس السورى وقرر أن يدمره منذ ذلك الحين. لكن هدف أردوغان الثالث والأهم هو تقويض حزب الشعب الديمقراطى الكردى HDP، والذى نجح فى حصد 10% من الأصوات فى الانتخابات البرلمانية التركية التى أُقيمت مؤخراً. وهو الأمر الذى منع حزب أردوغان –العدالة والتنمية- من الاستحواذ على الأغلبية فى البرلمان.. وقد نتج عن ذلك إحباط طموح أردوغان المستلهم من فرنسا- ديجول بتحوله لرئيس بصلاحيات كاملة. ويترقب أردوغان الآن فشل المفاوضات بين الأحزاب لتكوين تحالف ذى أغلبية يستطيع من خلالها تشكيل الوزارة، وإذا وقع ذلك الفشل فسينتج على أثره إعادة الانتخابات من جديد، وحينها سيكون حزب الشعب الديمقراطى قد فقد مصداقيته بسبب صلته بحزب العمال الكردستانى، ما سيترتب عليه فشله فى تخطى العتبة الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان والمُقدرة بنحو 10% من المقاعد.. ما سيُمكن حزب العدالة والتنمية من استعادة قوته وسيطرته، وحينها فقط يستطيع أردوغان مواصلة سعيه للوصول لحلمه برئاسة ذات صلاحيات كاملة. حزب العمال الكردستانى، فى المقابل، قتل اثنين من الشرطة التركية على ما يبدو احتجاجاً على الفشل التركى المزعوم لحماية الأكراد.. فيما بعد، قصفت أنقرة أهدافاً لتنظيم الدولة فى الداخل السورى وكذا أهدافاً لحزب العمال الكردستانى فى شمال العراق واعتقلت المئات من المشتبه فيهم من المتشددين والمتعاطفين مع حزب العمال الكردستانى فى تركيا، يتمركز البعض منهم فى بعض الوجهات السياحية. فى الوقت نفسه، داخل حدودها، تحمل تركيا عبئاً إنسانياً واقتصادياً غير متناسب بشكل كبير، ولدته أسوأ أزمة للاجئين يحياها هذا الجيل. غالباً ما يطلق على تركيا الجسر الذى يربط بين الشرق والغرب، ولكن بالنسبة لمليون سورى تم منحهم حق اللجوء من تركيا، فإن تركيا هى جسر إلى العدم. ورغم أن تركيا تعكف على بناء أماكن لإيواء اللاجئين السوريين، فإن جيرانها الأوروبيين يبنون الحواجز على حدودهم ويخططون للقيام بعمل عسكرى فى البحر. ثمة تقارير تتحدث عن اعتزام بعض الدول الأوربية تفجير قوارب الصيد التى قد تنقل اللاجئين عبر البحر الأبيض المتوسط، وهى فكرة أدانها قادة الأمم المتحدة والصليب الأحمر والفاتيكان. الحكومات الأوروبية، وفقاً لمنظمة العفو الدولية، تعهدت بإيواء ما يقرب من 40 ألف لاجئ سورى فقط، 30 ألفاً منهم فى ألمانيا وحدها. يأتى هذا فى الوقت الذى أنفقت فيه الحكومة التركية 7 مليارات دولار حتى الآن لإيواء اللاجئين. بينما لم تتجاوز قيمة المبالغ المالية التى تلقتها أنقرة من المجتمع الدولى كمساعدات للاجئين 400 مليون دولار.. وقد أنشأت تركيا 25 مخيماً للاجئين لإيواء 260 ألف لاجئ سورى. هذا بالإضافة إلى السماح لمليون ونصف لاجئ سورى بالوجود والعيش خارج الملاجئ فى تركيا. ومن المتوقع أن يصل العدد الإجمالى للاجئين فى تركيا وحدها إلى 2.5 مليون شخص بحلول نهاية العام. ومن شأن ذلك كله أن يدفع الأتراك إلى الثورة لأن استضافة هذا العدد الكبير من اللاجئين يمثل عبئاً اقتصادياً جائراً وقنبلة اجتماعية موقوتة، ويمثل أيضا خطراً على الاستقرار فى دولة كان شعبها يحلم بالازدهار وأفاق على كابوس تحولت فيه بلدهم إلى مركز عالمى للإرهاب!! وكانت المفاجأة التى كشفتها جريدة «زمان» التركية، هى رفض الجيش التركى الإقدام على أى خطوات بخصوص التدخل العسكرى فى سوريا. وأوضحت الجريدة التركية أن الحكومة أرسلت تعليمات خطية لرئاسة هيئة الأركان العامة للجيش التركى، لشن عملية عسكرية للدخول إلى سوريا، ولكن الجيش التركى أعرب عن إصراره على عدم التدخل بعملية قد تسفر عن مخاطر كبيرة للغاية. ونقلاً عن مصادر مقربة من رئاسة الأركان العامة للجيش التركى، أوضحت الجريدة التركية أن القوات المسلحة التركية مستعدة للقيام بالدور الذى يقع على عاتقها فى مواجهة تنظيم «داعش»، وحزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى، اللذين تدور بينهما اشتباكات طاحنة على الحدود التركية، لافتين إلى أنهم سيواصلون تحذيراتهم بشأن هذا الأمر بأبعاده المختلفة بدءاً من القانون الدولى وحتى الأحداث التى قد تقع داخل البلاد. وأوضحت الجريدة التركية أنه يتردد فى أنقرة أن كل من الجهات الأمنية ووزارة الخارجية التركية لا يثقان فى حزب العدالة والتنمية بالنسبة لموضوع سوريا، مشيرين إلى تصريحات رئيس الوزراء، أحمد داود أوغلو، التى أضاف فيها من قبل صفة «الشرعية» على تنظيم «داعش»، مضيفين أن مخططات أردوغان وحكومة العدالة والتنمية لدخول سوريا، السبب الحقيقى وراءها هو خوف أردوغان من المساءلة إن فقد السلطة، خاصة فى ظل الإخفاق الكبير الذى واجهه فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة. **************** الانقلاب الخامس.. يقترب! هل تنتظر تركيا انقلاباً خامساً يقوم به عسكريون؟! أم أن الأمور فى قبضة أردوغان وتحت سيطرة حزبه؟! وأنها ستحبط أى محاولة انقلاب يفكر بها عسكريون أو غيرهم؟ هذا الجيش، الجيش التركى كان صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فى مجمل الأحداث التى جرت بعد تأسيس الجمهورية، وتدخل بشكل مباشر من خلال أربعة انقلابات عسكرية خلال أقل من 40 عاماً، لتغيير حكومات مدنية منتخبة لأسباب مختلفة فى مقدمتها حماية النظام العلمانى، كان أول هذه الانقلابات عام 1960 وآخرها عام 1997، وفيما كان الأول دموياً جاء الأخير نظرياً اكتفى بالتلويح بالقوة. أول الانقلابات وأكثرها دموية جرى فى 27 من مايو 1960 عندما أطاح الجيش بحكومة عدنان مندريس بعدما وجهت له اتهامات بالسماح للقوى الدينية بالعمل بحرية، كانت الحكومات العلمانية السابقة قد منعتها تماماً، ورغم أن مندريس لم يكن بالأصل إسلامياً فإن مجرد محاولته تخطى شكل العلمانية الذى شرعه أتاتورك كان كفيلاً بمحاكمته وإعدامه مع ثلاثة من وزرائه بتهم غير جدية. ولعلنا نتذكر أن واشنطن لم تتدخل لإنقاذ مندريس رغم أنه كان قريباً منها وقدم لها وللغرب خدمات جليلة، حيث تحولت تركيا فى عهده إلى مخفر متقدم وإستراتيجى للحلف الأطلسى ضد الاتحاد السوفيتى والمد القومى العربى بقيادة الرئيس المصرى جمال عبدالناصر. وجاء الانقلاب الثانى فى مارس 1971، وهذه المرة لحماية الحسابات الأمريكية حيث كانت البلاد تشهد صراعات دموية بين القوى اليسارية التى تصدت لها القوى اليمينية (الإسلامية والقومية) بدعم من الدولة المدعومة من واشنطن التى كانت تتخوف أن يتحول التيار اليسارى إلى قوة جدية فى الشارع التركى، خاصة بعد أن قام اليساريون الذين تدربوا فى مخيمات المنظمات الفلسطينية فى لبنان بعمليات مسلحة استهدفت القواعد الأمريكية والعاملين فيها وقتلوا القنصل الإسرائيلى فى إسطنبول. وحدث الانقلاب الثالث فى سبتمبر 1980 وسط ظروف داخلية مماثلة لكن هذه المرة بأبعاد إقليمية، حيث كانت تركيا تعيش ظروف التمرد الكردى فى جنوب البلاد بالإضافة إلى صعود القوى اليسارية، فى وقت شهد إقليمياً تداعيات الثورة الإيرانية واندلاع الحرب العراقية-الإيرانية والاحتلال السوفيتى لأفغانستان، وكان كل ذلك يجرى فى غمرة الحديث عن نظرية الحزام الأخضر لبريجنسكى ضد الاتحاد السوفيتى. كانت تركيا من أهم عناصر هذا الحزام الذى استهدف إحاطة جنوب الاتحاد السوفيتى بطوق من الدول ذات صبغة إسلامية، حيث كان لانقلاب 1980 الذى أعلنت عنه واشنطن حتى قبل السماع عنه فى أنقرة تأثير مهم وكبير فى مجمل المعطيات السياسية حيث حكم قائد الانقلاب كنعان أيفرين البلاد لمدة سبع سنوات رئيساً للجمهورية بعد أن صاغ دستوراً غريباً وعجيباً مازال الأتراك يعانون منه رغم تغيير العديد من بنوده ومواده باستثناء تلك التى تعترف لقادة الانقلاب بحصانة دستورية إلى الأبد. وقد فشل جميع رؤساء الوزراء الذين حكموا البلاد بعد ذلك العام بمن فيهم الذين استهدفهم الانقلاب العسكرى المذكور ومنهم سليمان ديميريل وبولنت أجاويد ونجم الدين أربكان من تغيير هذه المواد والمواد الأخرى المناقضة للديمقراطية وهو ما يؤكد «حالة الخوف النفسى» التى يعانى منها السياسيون الأتراك من جنرالات الجيش. أما الانقلاب الرابع فجرى فى فبراير 1997 وكان انقلاباً «نظرياً» اكتفى فيه الجيش بإخراج الدبابات إلى الشوارع فى أنقرة ليضطر رئيس الوزراء نجم الدين أربكان إلى الاستقالة، قبل أن يصل الجيش إلى مقر رئاسة الحكومة. وبرزت فى هذا الانقلاب حدة الصراع العلمانى الإسلامى الذى دفع إلى تدخل الجيش مرة أخرى للسبب ذاته، ولاسيما أن أربكان قام خلال العام الذى تولى فيه رئاسة الحكومة بإجراءات لم يخف فيها رغبته بتغيير معالم أساسية فى النظام العلمانى التركى الذى يؤكد الجنرالات أنهم أصحابه وحماته باسم الأمة التركية وإلى الأبد. بقيت ظلال الجيش فى السلطة حتى نهاية التسعينيات بسبب الدستور الذى صاغه قائد انقلاب عام 1980الجنرال كنعان أيفرين، حتى بدأ الحديث عن ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبى فى قمة هلسنكى نهاية عام 1998. فتح هذا الأمر صفحة جديدة فى التاريخ السياسى التركى بعيداً عن تأثير جنرالات الجيش الذين كان عليهم أن يبتعدوا عن الساحة السياسية حسب المعطيات الأمريكية والأوروبية الجديدة التى لم تعد ترى فى روسيا واليونان وسوريا وإيران والعراق خطراً على الحسابات الغربية التى طالما كان لتركيا دور مهم فيها بجيشها الكبير. وفى عهد حكومة أردوغان انحسرت نسبياً صلاحيات الجيش ومجلس الأمن القومى الذى تقلص فيه وجود العسكريين، وبدأت حملة تقليم أظافر الجيش فى التعديلات الدستورية والقانونية التى استهدفت سلطات وصلاحيات الجيش فى الحياة السياسية، حيث نجحت حكومة أجاويد ومن بعدها حكومة أردوغان فى تمرير هذه الإصلاحات بفضل سيطرتهم على قائد الجيش السابق حلمى أوزكوك. كما استغلت حكومة أردوغان ذلك فحسمت مجمل التعديلات التى وضعت حداً نهائياً لدور الجيش فى الحياة السياسية بعد أن أصبح عدد أعضاء مجلس الأمن القومى 9 مدنيين مقابل 5 من العسكريين بعد أن كان عدد المدنيين 4 منذ تأسيس المجلس قبل 70 عاماً تقريباً، كما أن قرارات المجلس لم تعد ملزمة للحكومات كما كانت فى السابق، حيث أصبح الأمين العام للمجلس مدنياً ويتبع لرئيس الوزراء بعد أن شغل الجنرالات هذا المنصب لمدة 70 عاماً وبالعلاقة المباشرة مع رئاسة الأركان التى لم تعد تملك أى صلاحيات فى نشاط المجلس الذى أصبح يجتمع مرة كل شهرين بدلاً من مرة فى الشهر. كما وضعت التعديلات الدستورية الأخيرة تصرفات الجيش المختلفة تحت رقابة ومحاسبة البرلمان والأجهزة الدستورية بعد أن تخلت القوى التقليدية عن موقفها الداعم للجيش وفى مقدمتها رجال الأعمال الكبار ووسائل إعلامهم الرئيسية! فوق كل الأسباب التى تجعل انهيار تركيا وشيكاً، هناك أيضا وقائع الفساد والرشوة التى لم تشهد تركيا مثيلاً لها طوال تاريخها والتى طالت أردوغان ووزراء فى حكومته وأولادهم وهى القضايا التى بدأت تتكشف بعد حملة اعتقالات طالت عشرات الأشخاص، من بينهم أبناء بعض الوزراء ورجال أعمال مقربين من حكومة حزب العدالة والتنمية يومى 17 و25 من ديسمبر 2013. مع انتشار تسجيلات صوتية للعديد من المسئولين رفيعى المستوى، وفى مقدمتهم رئيس الوزراء السابق رئيس الجمهورية الحالى رجب طيب أردوغان، ونجله بلال، حول تورطهم فى فضيحة الفساد والرشوة. انقلاب يقوم به الجيش، أم تواجه تركيا مصيرها المحتوم الذى قادها إليه أردوغان؟! هذا هو السؤال الأصعب الذى ينتظر الأتراك ونحن معهم الإجابة عنه.